فازت الكاتبة الكندية راشيل كاسك بجائزة غولدسميث لهذا العام، وهي جائزة بريطانية تأسست عام 2013 للاحتفال بالأعمال الأدبية المبتكرة التي تضع المتخيل موضع سؤال متجدد باستمرار. ترشحت كاسك في القائمة القصيرة ثلاث مرات من قبل، وذلك عن كل رواية من ثلاثيتها "الخطوط العريضة/ Outline"، باعتبارها إرهاصًا لنهجها الجديد في روايتها الفائزة "الموكب/ Parade"، والتي قالت عنها رئيسة لجنة التحكيم، أبيجيل شين: "بفحصها حياة الفنان وتكوين الذات، تكشف كاسك عن حدود ذواتنا البديلة وقوتها. ومن خلال التركيز على شكل الرواية والرد على التقاليد، فإن هذا العمل يعيد ضبط فهمنا لما يجعل الشكل الطويل ممكنًا".
لعبة داخل رواية
يتألف الكتاب من أربعة أقسام، معنونة على النحو التالي: "البديل"، و"القابلة"، و"الغواص"، و"الجاسوس". كل قسم يروي قصة حياة فنان يشار إليه بالحرف G، بحيث لا نعرف اسمه مباشرة، بل نستدل عليه من تفاصيل حياته وأسلوبه الفني وضربات فرشاته، في واحدة من الألعاب السردية أصابت الهدف بتشويق القارئ الذي أحس حيالها بشيء من المرح وهو يراكم الملابسات لفك الشيفرة واستكشاف الفنان الحقيقي خلف شخصيات كاسك الخيالية.
في مراجعة نشرتها صحيفة "نيو سيتي ليت"، يفسر سكوت فايفر إصرار كاسك على تعريف شخصياتها بالحرف G، برؤيتها لما يتجاوز الفنان "هنالك جملة في رواية ’الجاسوس’ تلخص وجهة نظرها بوضوح: ’لماذا ينبغي علينا تحديد العمل بشخص ما، بينما هو نتاج لتجربة وتاريخ مشتركين؟’"، ومن ثم تندمج فردية شخصياتها في نموذج تجريدي للفنان.
من هذا المنطلق نتعرف في "البديل"، على الفنان الألماني جورج بازيليتز؛ الذي اتخذ من رسم العالم مقلوبًا نهجًا خاصًا به، ولعل عوالم بازيليتز المقلوبة ألهمت كاسك بطريقة مشابهة في السرد. كتبت كيت كيلاواي على صفحات "غارديان" البريطانية: "لقد نجحت كاسك في تحقيق إنجاز رائع ومثير للاهتمام. ففي حين تركز شخصيتها على رسم العالم مقلوبًا، تواصل بدورها قلب عالمها رأسًا على عقب".
يتضمن الكتاب كثيرًا من الأفكار المدهشة، منها رد فعل زوجة الفنان حيال اللوحات المقلوبة: "لقد أدركت الزوجة أن كل شيء يبدو صحيحًا في ظاهره، ولكنه خاطئ في جوهره: هذه هي حالتها، حالة جنسها". وعندما كانت تنظر إلى الصورة التي رسمها زوجها لها، تشعر بالضعف: "إنها ترى مسرحية لحياتها غير المتحققة". ويتطور المنظور من الخاص إلى العام حين تتوصل زوجة الفنان إلى وجود شيء مزعج عن الأنوثة فضحته اللوحات المقلوبة، كما فضحته بقية الشخصيات.
من الخارج إلى الداخل
تعتقد كاسك أن الكاتب ليس أكثر من شخصية من ضمن شخصياته، ربما لأنها تعوّدت أن تطعّم عالمها الخيالي بسيرتها الذاتية، آنذاك يتحول السرد من ضمير الغائب إلى ضمير المتكلم، ونستدل على طبيعة الذات الساردة من حكاياتها المؤلمة: "في صباح أحد الأيام، بينما كنت أسير على طول شارع هادئ مشمس، حيث يجلس الناس على طاولات على الرصيف يشربون القهوة، هاجمني شخص غريب وضربني بقوة على رأسي. كانت المعتدية امرأة، مختلة عقليًا بسبب الجنون، أو الإدمان، وتسببت حقيقة كونها امرأة في صعوبات في حكي ما حدث لاحقًا وفي استجابتي له".
تعرضت كاسك بالفعل لهجوم في باريس التي لا تذكر اسمها كما لا تهتم بذكر أسماء أبطالها وبقية المدن والأماكن حيث تدور الأحداث. عندما تستعيد وعيها، تسلط الضوء على المرأة المعتدية وهي تنظر إليها من مسافة بعيدة "مثل فنان يتراجع إلى الوراء ليعجب بإبداعه". في الوقت نفسه تقدم الذات/ الضحية باعتبارها قطعة للعرض تسمح بتجمع الناس والتحديق ملء أعينهم. إن مخاطر التعرض تفضي بكاسك إلى الرغبة في الاختفاء بعيدًا عن خشبة المسرح، والأعين المتفحصة فيما تصفه بأنه الحالة المثلى للفنان.
عرفت كاسك بجرأتها على عدم تجميل الواقع، أو اتخاذ مسافة كافية تسمح باحتمال الألم، فهي تنظر إليه في أعمالها كافة من مسافة كاشفة، تصفها على لسان إحدى الشخصيات بقدرتها على إحداث الصدمة "الغريزية واللاواعية". لذلك اتهمت عندما صدرت مذكراتها "عمل الحياة: كيف تصبحين أمًا" عام 2001، بتوصيل القارئ إلى قمة الإحباط لدرجة تثنيه عن فكرة الإنجاب، إنه المأزق المستحيل للأمومة، الذي يصيب الأم والطفل بالصدمة ويدمرهما بلا هوادة. كذلك الأمر في كتابها "العواقب"، عن تجربة الزواج والطلاق، وما تكبدته من هجوم نقدي واسع انهمر عليها عبر الصحف والرسائل. كما حظر كتابها "العشاء الأخير"، بعد أن رفع شخص دعوى قضائية لأنها أدخلته في نسيج السرد وجسدته على حقيقته من دون الرتوش المعتادة. إنها الكتابة الوحشية والصادقة العارية من أي تجميل، الرؤية المباشرة لالتقاط الحياة من كائن بات يعتقد "أن التعرض للخطر هو أساس هويته".
أوقفوا الأرض... أريد أن أنزل
تتلاعب كل قصة من القصص الأربع بفكرة القرين، إما بتركيزها على شخصية تعيش حياة مزدوجة، أو تواجه كائنات أخرى تجسد عدم القبول داخلهم. في "القابلة"، نتعرف على الرسامة الناجحة جي، التي تعيش حياة مزدوجة: فهي تمتلك استوديو في منزل ريفي جميل، ولكنها تحتفظ بآخر في حي قذر في المدينة. وتظهر فكرة الأمومة مرة أخرى في حياة الفنانة البوهيمية ومدى نفورها من التجربة التي بقدر ما تعترف بولادة النور على يديها، بقدر ما تشعر أنها فقدت نفسها في مكان ما على طول الطريق، الجزء الذي هو فنان، رغم الاستقرار المادي والأسري. إن مشاعر غامضة تباغتها حين يلتقط زوجها صورًا لابنتهما، فتربي حقدًا تجاهه من دون وعي منها.
في "القابلة" يمتزج الموت بالحياة على نحو صادم، ففي معرض للفنانة جي التي تنطبق ملامحها على النحاتة لويز بورجوا المعروفة بأشكالها العملاقة من العناكب السوداء، ينتحر رجل أمام كاسك بإلقاء نفسه من فوق سلم البهو، كما في "حفلة السيدة دالاوي" لفرجينيا وولف.
الجزء المعنون بـ"الغواص" عبارة عن حوار طويل يجري في أثناء تناول العشاء في فناء مطعم من الصعب العثور عليه، لأن الشوارع المحيطة به أغلقت بعد مسيرة للمثليين لتنظيف الشوارع المليئة بالقمامة. ويبدو أن ريلكه هو شخصيتنا، وربما لا، فبعضهم افترض شخصيات أخرى. لكن العلاقة المعقدة بين الحب والحرية هي موضع الفحص، وكذلك فكرة الموت واختبار مشاعر لم تكن متوقعة في جزء عن وفاة الأم: "عندما سمعنا خبر وفاتها، لم نشعر بشيء، وفهمنا أن عدم الشعور بأي شيء كان أعظم مأساة يمكن أن تصيبنا، لأن تأثيره علينا لا يمكن أن يكون إلا الكشف عن أعماق واتساع أعظم من عدم الشعور، بحيث بدا وكأنه يلغي وجودنا تقريبًا". وهنا تستبدل كاسك ضمير الـ"أنا" بالـ"نحن"، مادام الجرم جماعيًّا.
"الجاسوس" هي الشخصية الأخيرة في كتاب كاسك. فطن بعضهم إلى أنه الكاتب والمخرج إريك رومر، الذي كان يعمل في "سرية وتنكر"، متبنيًا هوية زائفة، حتى أن والدته لم تكن تعرف من يكون ابنها، سيما وأنه عاش حياته كروائي وسينمائي، باسم مستعار.
لقد اختارت كاسك في روايتها غير التقليدية شخصياتها بعناية بحيث يكون المسوغ لجمعهم في كتاب هي أهدافهم المشتركة التي تتلخص في الإحساس بعبء الذات، وعدم الرغبة في التورط في الأحداث، ومن ثم رصد الحياة من مسافة كافية كيما تتسنى لهم رؤية الأشياء بأبعادها الحقيقية. فالجاسوس شخص واضح الرؤية وموضوعي، لأنه حرر نفسه من احتياج الذات في بناء نفسها إلى مشاركة التجربة. وعلى جانب آخر، تبرز أنانية الفنان الذي سعى بإخفاء هويته إلى التخلص من دفع التكاليف، وهكذا تطرح كوسك أفكارًا حول الكتابة والإبداع والحرية وعواقبها والجسد والهوية والأمومة والموت.
تبلغ قيمة جائزة غولدسميث عشرة آلاف جنيه إسترليني، وهي مفتوحة للأعمال المكتوبة باللغة الإنكليزية من مواطني المملكة المتحدة، أو أيرلندا، أو الكتاب الذين أقاموا في أي من البلدين لمدة ثلاث سنوات، وصدرت كتبهم هناك. من بين الفائزين السابقين بها إيمير ماكبرايد، إيلي سميث، وبنيامين مايرز، الذي فاز بها العام الماضي عن روايته "كودي".