}

استبدال الآلهة القادرة بالكائنات الأشد ضعفًا وهشاشة

بلال خبيز 18 فبراير 2024
تغطيات استبدال الآلهة القادرة بالكائنات الأشد ضعفًا وهشاشة
إليزابيث بادينتر (Getty)
ليست الرعاية العائلية، الأبوية والأمومية، معطى ثابتًا من المعطيات البديهية بالنسبة للاجتماع البشري على ما توضح إليزابيث بادينتر/ Elisabeth Badinter في بحثها الذي حمل عنوان "L’amour en plus". فقد كانت عائلات النبلاء في الزمن الذي سبق عصر الأنوار الفرنسي تهمل مواليدها، وتتركهم للمرضعات، اللاتي بدورهن كن يعشن في شظف وعوز شديدين، الأمر الذي يحول دون العناية بالأطفال على نحو يضمن الحد الأدنى من سلامتهم الجسدية والعقلية على حد سواء. ونادرًا ما كان الآباء، الذين يتركون أطفالهم للمرضعات لقاء بدل مادي يسير، يعودون للسؤال عن صحة أولادهم في سنوات حضانتهم. هكذا كان الوالدان حين يعودان بعد سنوات لاستلام طفلهما الذي تركاه عند المرضعة، لا يتذكران ملامحه ولا يستطيعان تمييزه عن غيره. والحال، كان كثير منهم يختارون الأوفر صحة من بينهم، بصرف النظر عن التدقيق في نسبه ونسبته.
وفيات الأطفال والرضع في ذلك العصر في فرنسا بلغت حدًا مقلقًا، وهذا ما دفع مفكرين كجان جاك روسو إلى التخوف على مستقبل فرنسا كأمة، إذا ما استمرت الأمة الفرنسية في قتل أطفالها جوعًا وإهمالًا، وتاليًا قتل الأمل بالمستقبل.

صناعة الرجاء
ليس أمرًا بالغ الصعوبة أن يصل المرء بين الأمل، وهو من متعلقات المستقبل وأدواته، والرعاية. فالأمل نفسه يحتاج إلى رعاية وتربية. وعليه فالمستقبل في حد ذاته، إذا لم يكن يراد له أن يكون تكرارًا مقيتًا للحاضر والماضي، يحتاج إلى رعاية وتربية. وبالحديث عن الأمل، فإن الشعوب التي سبقت استواء التاريخ علمًا وشاهدًا على التطور والمستقبل، لم تكن تعيش بلا رجاء. لكن الرجاء في حال الشعوب التي سبقت حكم التاريخ، ذو مصدر إلهي يعجز البشر عن التأثير في مجرياته. هرقل اليوناني هو صنيعة الآلهة، لكنه يقيم ويعيش بين البشر، الذين لا يستطيعون في أي حال من الأحوال التأثير في مصيره. فمصيره ومستقبله مرسومان سلفًا من قبل زيوس الأب، ولا قبل للبشر بردهما، أو تغييرهما. وفي وقت لا يستطيع البشر الفانون أن يقرروا لهرقل الخالد حياته وموته، فإنهم أيضًا لا يستطيعون أن يحولوا دون تأثيره في مجريات عيشهم ومستقبلهم عمومًا. صناعة الرجاء في هذا المعنى كانت محض انتظار بشري لرغبات الآلهة.




لم يكن الرجاء في الأزمنة القديمة مفقودًا، لكنه كان رجاء من نوع آخر، غير هذا الذي نعرفه اليوم. كان الرجاء نوعًا من التسليم بعجز البشر عن تغيير الظروف الاجتماعية والسياسية والطبيعية التي تحكم اجتماعهم، وليس لهم سوى الصبر على المكاره إلى أن يأتي المخلص ذات يوم.
حين يكون العيش في حد ذاته محض انتظار للمخلص، يتراحم الناس في ما بينهم، ويتواصون بالصبر، ويعينون بعضهم بعضًا، تقطيعًا للزمن في انتظار الخلاص. في مثل هذه الحال تحنو الأم على رضيعها، ويرعى الرجل زوجته الحامل ووالديه العاجزين. ما يعني أن الرعاية التي يوليها الأبوان لأطفالهما لم تكن دائمًا على النحو الذي بدت عليه في فرنسا في الزمن الذي سبق فلسفة التنوير. ويرى برتراند راسل أن غريزة الاجتماع البشري تفترض رعاية الآباء لأطفالهم، ذلك أن مواليد البشر، بين الكائنات جميعها، هم الأضعف والأقل قدرة على الاهتمام بأنفسهم. مما يحتم رعاية الراشدين للأطفال العاجزين والشيوخ أيضًا، حفظًا للنوع على أقل تقدير. لكن الحال التي تصفها بادينتر، في كتابها الموسوم آنفًا، ما كانت لتكون ممكنة الحلول لولا وصول المجتمع إلى مرحلة معقدة من التراتب الاجتماعي، وولادة القيمة الفائضة. فالنبيل الذي يلقي برضيعه إلى المرضعة ويتركه لينمو في أكثر ظروف العيش وضاعة وصعوبة إنما يتخلى عن عبء رعاية أطفاله، ويلقي بها على عاتق آخرين أقل شأنًا منه. بل وتصف بادينتر أحوال العائلات في ذلك الوقت وصفًا معبرًا عن هذه الحال، حين تلاحظ أن زوجات النبلاء كن في ذلك الوقت يتجنبن إرضاع أطفالهن من أثدائهن حرصًا على استدارتها ومنعًا لترهلها.

زوجات النبلاء كن يتجنبن إرضاع أطفالهن من أثدائهن حرصًا على استدارتها (Getty)

وكانت المرأة منهن تستيقظ صباحًا فتتناول فطورها وتهتم بزينتها ردحًا، ثم، وبعد أن تنهي طقوس تجميلها الطويلة، تطلب من خادمتها أن تحضر لها ابنتها التي تعيش في القبو والمطبخ عيشة الخدم، فتقبلها على وجنتها وهي تسد أنفها لئلا تزكمه الرائحة الحريفة التي تنبعث من جسم الطفلة، وتحرص أشد الحرص على ألا تفسد قبلتها للفتاة الصغيرة زينتها التي اجتهدت طويلًا في وضعها. ثم لا تلبث الطفلة بعد القبلة الخاطفة أن تعود إلى حيث كانت في قبو القصر، أو في المطبخ بين الخدم.
في معنى من المعاني، كان الوضع الذي يشكو منه مفكرون، من أمثال روسو، هو بالضبط هذه المساواة في شظف العيش التي يعيشها الأطفال بصرف النظر عن نسبهم. وإذ يدعو روسو إلى ضرورة أن تهتم فرنسا بأطفالها، خصوصًا أن تزايد وفيات الأطفال أخذ يهدد مستقبل فرنسا كأمة رائدة، فإن ما تصفه بادينتر من مزاج نبلاء ذلك العصر يدعو ملحاحًا إلى إدانة هذا السلوك، ومطالبة النبلاء بالاهتمام بأطفالهم/ بحسب ما تسمح به أوضاعهم الاقتصادية والاجتماعية ومكانتهم. كما لو أن المطلوب حصرًا هو دعوة الآباء والأمهات إلى تخصيص مزيد من الوقت للعناية بأبنائهم، فلا يصرفون وقتهم كله في الحفلات وإعداد الزينة وارتداء الثياب، والأحاديث العابرة مع نظرائهم ونظيراتهم من النبلاء وزوجاتهم. لكن هذا الإجراء الأخلاقي الذي تحض عليه قراءة الكتاب، لم يكن ليغيّر كثيرًا، أو قليلًا، في أوضاع أبناء الباعة والحرفيين وفقراء الحال في فرنسا ذلك الزمن.
والحال، فإن تحسين ظروف عيش أطفال فرنسا قاطبة لم يكن مطلبًا قابلًا للتحقق في ذلك الوقت، أو، ليكون المرء أكثر دقة، فإن قراءة الكتاب، في يومنا هذا، تحض حضًا لافتًا على تحسين ظروف أطفال النبلاء والأغنياء القادرين على رعاية أبنائهم وتنشئتهم على نحو يختلف اختلافًا جليًا عن أبناء عامة الشعب. وعلى هذه العينة من الأطفال التي يتوجب تنشئتها وتربيتها ورعايتها رعاية مخصوصة، ينبني أمل جان جاك روسو في مستقبل فرنسا. الأمة الفرنسية التي يتوجب عليها رعاية أطفالها تستثمر في هذه العينة من أجل مستقبلها، مما يؤدي بداهة إلى افتراض يفيد أن تحسن ظروف أطفال فرنسا جميعًا سيكون استثمارًا أكثر جدوى من الاستثمار في عينة صغيرة منهم.




وهذا أمر يكاد يبدو مفروغًا منه اليوم، بحسب أدبياتنا الفكرية والسياسية والاجتماعية. لهذا لم يكن ثمة مفر للأمة الفرنسية من إيلاء عناية شديدة لرعاية أطفالها جميعًا بصرف النظر عن الطبقات الاجتماعية التي ينتمي أهلهم إليها. وهذه العناية كان لها حظها الوافر في الأدبيات الفلسفية الأوروبية في ما بعد.

استعباد الأمل 
قد لا يبدو تناول كتاب بادينتر الآنف الذكر في سياق بارد كمثل الحديث عن مستقبل الأمم مناسبًا جدًا. اليوم، ليس ثمة من يشكك في كون الرعاية التي يوليها الاجتماع البشري لتربية الأطفال وتنشئتهم استثمارًا مجديًا في مستقبل هذا الاجتماع. بل وتكاد المجتمعات الحديثة تستعبد أطفالها من فرط تطلبها نجاح استثماراتها المستقبلية. ولا يخفى أن بحثًا تربويًا اجتماعيًا عن ظروف عيش الأطفال اليوم في أي مجتمع حديث يمكن أن يسفر عن نتائج مشابهة من حيث الجوهر لما خلصت إليه بادينتر في كتابها. فنحن جميعًا نترك أطفالنا في عهدة مدرسين، ونحمّلهم أحمالًا تفوق طاقتهم أصلًا، وهم منذ نعومة أظفارهم يعملون بجد واجتهاد لساعات تطول عن ساعات العمل المسموح بها في المجتمعات الحديثة. وفضلًا عن ذلك، فإننا لا نسألهم رأيهم، ولا نراعي رغباتهم في ما نريد تعليمهم. لكن هذا الوضع البالغ القسوة الذي يعيش أطفالنا اليوم تحت مطرقته لا يلغي ملاحظة روسو التي سبق ذكرها. فالعمدة في ما ذهب إليه روسو لا تتعلق بتكليف الأطفال ما لا يطيقونه، من حيث العدل والإنصاف والقدرة، بل في الإهمال الذي كان الأهل يواجهون به أطفالهم في ذلك الزمن. إذ يكفي أن نبذل الجهد والمال في سبيل تعليمهم لنطمئن إلى كوننا قد احسنّا الاستثمار في المستقبل، أكان الأمر متعلقًا بمستقبل عائلي بحت، أم بمستقبل الأمم والأوطان. جل ما هو مطلوب ألا نترك أطفالنا عرضة لنوائب الدهر وصروفه، ولنا أن نكلّفهم صناعة مستقبلنا.
هذا السعي المضني الذي نجبر أطفالنا على اتباع طريقه يضمن تحقيق آلية للتقدم والتطور والتغيير. آلية هي بمثابة استبدال تاريخي لانتظار المخلص. فالمخلص في الأزمنة الحديثة يتمثل في أكثر أعضاء المجتمع هشاشة وقابلية للعطب. وعلى هشاشته وقابليته للعطب نبني رجاءنا ومستقبلنا. كما لو أننا استبدلنا آلهة الأزمنة الغابرة بأطفالنا، لكن الفارق الجلي بين آلهة الزمن الغابر وصناع مستقبلنا اليوم يتلخص، على نحو مفجع، بأننا اخترنا الإله الأكثر قابلية للعطب، والأقل قدرة على الاعتراض. وها نحن نمحض آلهتنا الصغار الحب والرعاية والاهتمام نفسه الذي كان أجدادنا يمحضونها لآلهة الخصب والحرب والحب. ومثلهم، أيضًا، لا يسعنا أن نتأكد من أنهم سيقابلوننا بالحب والرعاية نفسها، ومن دون كبير أمل في أن يبروا بنا ويرعون عجزنا في ما بعد.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.