}

نيتشه... عود أبدي

إسكندر حبش إسكندر حبش 3 فبراير 2024
تغطيات نيتشه... عود أبدي
فريدريك نيتشه (1844 ـ 1900)

يبدو الفكر الفرنسي المعاصر، وكأنه فكر نيتشوي بامتياز، أو لنقل على أقل تقدير، ثمة علاقة حب بينه وبين الفيلسوف الألماني، إذ ما من عام يمر، إلا ونرى عشرات المؤلفات التي تعيد قراءة صاحب زرادشت، ناهيك عن ترجمات جديدة لأعماله السابقة، أو ترجمات لدراسات عنه. الأمر مستمر منذ عقود، والسنوات الأخيرة لم تشذ عن ذلك بالطبع، إذ تكفي نظرة إلى ما صدر عن دور النشر الفرنسية، مؤخرًا، حول نيتشه وله، كي نعرف مدى اتساع رقعة الدراسات النيتشوية.

في أي حال، هنا محاولة لتقديم بعض هذه الكتب (ثلاثة منها)، على أن نعود لاحقًا، للحديث عن أخرى.

(1)
هل يمكن القول إن حياة فريدريش نيتشه (1844 ـ 1900)، بعد ما يقارب القرن وربع القرن من رحيله، قد باحت لنا بكلّ أسرارها؟ ربما هنالك كثير من التفاصيل التي لا يعرفها إلا القارئ الألماني صاحب الاختصاص الذي اطلع لا على أعمال نيتشه فقط، بل أيضًا على مراسلاته بنسختها الكاملة، كما على بعض الوثائق والنصوص المتعلقة بسيرته وبلغتها الأصلية. إذ حتى من يعرف لغة غير ألمانية، كالفرنسية مثلًا، لا يمكنه الجزم بذلك، وبخاصة أن الجزأين الأخيرين من مراسلاته الكاملة (الجزءان الخامس والسادس)، لم يصدرا بالفرنسية إلا في عامي 2019، و2023، عن منشورات غاليمار، بعد أن توقف المشروع لسنين طويلة، وذلك بفضل جان لا كوست، الذي عمل عليهما وقام بترجمتهما.
من هنا، دعونا نتخيل قليلًا في ما لو كانت حدثت كارثة ما، غير محتملة: على سبيل المثال قيام أحد أقاربه، الذي ربما شعر بالحرج من جنونه، بإحراق كل الرسائل، ما يعني بالطبع، أننا لم نكن على دراية بحياة نيتشه، باستثناء بعض الإشارات المجزأة في أماكن متعددة: "سيلس ماريا"، تورينو، "نيس"... لكن هل كان ذلك ليؤثر على قوة هذا الفكر والتقليل من شأنه؟ ربما قد يأتي الحلّ عبر محاولة بناء نسق يمكن لذكائنا الفقير والعادي أن يستوعبه، أي كما فعلت شقيقته مع كتاب "إرادة القوة"؛ أو أيضًا، من جانب آخر، لبقي تألق فكره الغامض هذا على حاله، وربما ازداد بسبب الغموض الذي سوف يحيط به، وكأنه عندها أشبه بواحد من أولئك الفلاسفة الما قبل سقراطيين، الذين نجهل عنهم كل شيء، سوى النصوص القليلة التي حفظها الزمن بأعجوبة.
من حيث المبدأ، غالبًا ما يطرح العمل الفلسفي مشاكل مستقلة عن سياق حياة كاتبه الشخصي. لكن في حالة نيتشه يبدو أن تشكل فكره وتقاطعاته لا يمكن فصله عن أحداث وجوده، تمامًا مثلما يقول هو نفسه في كتاب "ما وراء الخير والشر": "كل فلسفة عظيمة [هي بمثابة] اعترافات مؤلفها... [و]نوع من مذكرات لا إرادية".

(2)
أهمية هذا الاستشهاد، حيث أن الحياة تلقي الضوء على العمل، يبرر فائدة كتاب جان ـ لوك بورجوا "فريدريش نيتشه، حياة، عمل، مقاطع"[1]، وهو من دون شك كتاب على درجة كبيرة من الصبر الذي تمتع به مؤلفه: إذ يكمن "هدف" الكتاب في بناء تسلسل زمني لحياة نيتشه انطلاقًا من جميع الوثائق المتاحة: الأعمال المنشورة، والتي غالبًا ما ترتبط بأماكن، ومقاطع مكتوبة ومسودات، ومراسلات معروفة، وروايات أصدقاء وصديقات، وشهادات عن حياة فكرية، غالبًا ما تكون مؤلمة. إنه كتاب "نيتشه بقلمه"، هكذا يصف المؤلف الذي يولي عناية كبيرة بمشروعه. ربما في قوله هذا رغبة مبطنة لدرء أي اعتراض يمكن أن يوجه إليه عبر تمييزه ـ عبر الطباعة (الجسم، حجم الخط، الخط المائل، وما إلى ذلك) ـ مستويات النقد المختلفة للشهادة التي ينقلها، كما المقاطع، والرسائل... إلخ. قد يذكرنا ذلك بما قاله توماس مان ذات يوم: "علينا أن نتجنب أخذ كل شيء في ظاهره عند نيتشه". ما يحيل هذا العمل "الكبير والمجنون" (إلى حدّ ما) إلى عمل جذاب فعلًا، وبعيدًا عن أداة العمل التي يقدمها مع فهارسه السخية، هو أنه يجد أصله، ليس في النهج الأكاديمي، ولكن في عملية "التعاطي مع نيتشه وزياراته المتكررة" (قراءة) على مدى سنوات عديدة من العمل، والرغبة الأخوية في مشاركة لحظات حياة نيتشه بشكل أفضل. كما أننا نجد فيه صفحات غنيّة وغير منشورة عن الطفولة البروتستانتية، ونشأة أعماله في ثمانينيات القرن التاسع عشر، وخاصة الفترة التي أعقبت انهيار تورينو من عام 1889 إلى عام 1900، "نيتشه يعيش الموت في طريقه إلى ما بعد الوفاة". وكأن قول المؤلف هذا يختصر فعلًا تلك اللحظة الحاسمة التي كان ينتظرها والتي أتت مع سيطرة أخته على كل أوراقه المتبقية.

(3)
بالنسبة إلى عدد من كتّاب الشمال ـ الإنكليز والألمان والفرنسيين أيضًا ـ فإن إيطاليا مشوبة بالألوان الجنائزية بشكل متناقض، سواء كانت مدينة البندقية الواقعة في قبضة الكوليرا، كما في أعمال توماس مان، أو المقابر الأترورية (ما يعرف اليوم باسم توسكانة) التي زارها د. أتش. لورانس، أو مدينة نابولي، كما في رواية نيرفال "بنات النار"[2]. ليست هذه هي الحال بالنسبة إلى نيتشه، إذا حكمنا من خلال "رسائل من إيطاليا"[3] النابضة بالحياة التي جمعتها فلورنس ألبريشت، وبيير بارلان (أقام فترة في بيروت منذ سنوات)، اللذين ندين لهما سابقًا بكتاب أنيق عن إقامة نيتشه في نيس: "العادات القصيرة" [4].
في الواقع، لا يمكن لقارئ هذه العينة من الرسائل المأخوذة من مجموعة أكبر بكثير من المراسلات العامة إلا أن يتفاجأ بِسِمة واحدة: يُظهر نيتشه ـ الذي قام بتدريس العلوم الإنسانية اليونانية واللاتينية في بازل لمدة عشر سنوات، والذي جعل الحرب ضد الدين معركة حياته ـ لامبالاة مذهلة في هذه الرسائل تجاه آثار العصور القديمة التي يمكن أن يراها في إيطاليا، كما في أي مكان آخر تجاه آثار الإيمان المسيحي. إذ بالنسبة له، لا توجد "جولة كبرى" من شأنها أن تفتح الطريق أمام الإنسانية الطيبة، ولا عاطفة في اكتشاف آثار الثقافة التي كان على دراية بها منذ الطفولة. لا يخبرنا نيتشه شيئًا، أو لا شيء تقريبًا عن الآثار التي يمكنه رؤيتها، ويظل صامتًا أمامها، فهو لا يتأمل الــ"جانيكولوم" (الذي يعد التلة الثامنة في روما، تيمنًا بتلالها السبع،) مثل كثير من المسافرين، ولا حتى يبكي في بومبي (المدينة القديمة التي ابتلعها بركان فيزوف العام 79).
كان اكتشف إيطاليا عام 1876 عندما أمضى أشهرًا عدة في فيلا روبيناتشي في سورينتو، بدعوة من عزيزته مالويدا فون مايسنبوغ، صديقة أمه، "المثالية الفاغنرية" (نسبة الى فاغنر، المؤلف الموسيقي). في ذلك المكان ـ وتشهد الرسائل الساحرة التي بعث بها إلى عائلته على ذلك ـ لم يكن نيتشه قريبًا جدًا من نموذجه المثالي في الحياة، وهو العيش في ما يشبه الدير الفولتيري (نسبة إلى فولتير)، حيث يقسم الضيوف وقتهم بين القراءة، والنزهات، والكتابة، والحفلات الصغيرة. في هذا المكان بالضبط بدأ نيتشه بإبعاد نفسه عن فاغنر ليُشرع في نقده للثقافة الغربية عبر كتابه "إنسان مفرط في إنسانيته" (1878).
جنوى: مدينة نيتشوية أخرى، "قاسية ومظلمة"، يصل إليها "كرجل مكسور"، وحيث كان مفتونًا بشخصية كريستوفر كولومبوس، كما بهذه الشخصيات العظيمة في عصر النهضة التي تمثل له التعبير المثالي عن إرادة الإنسان. يكتب في رسالة تعود إلى شهر نوفمبر/ تشرين الثاني 1880: "هنا، تتسارع دقات قلبي ثلاث مرات في اليوم، مع كل هذا الامتداد المنفتح على المسافة، وهذا الجو من قوة المغامرة. هنا أتمتع بالصخب والضجيج والهدوء، والممرات الجبلية العالية، والأجمل من الحلم الذي حلمت به، كامبو سانتو". (أي المقبرة)…
لكن، في جنوى كما في روما، أو في البندقية، حيث أقام صديقه المخلص، الموسيقار الفاشل هاينريش كوسيليتس، لم يبدُ نيتشه حساسًا لوجود بقايا العصور القديمة والثقافة الكلاسيكية، ولا حتى تجاه المواقع الكاثوليكية المميزة. لذا كان علينا أن ننتظر كتاب "هذا هو الإنسان" (Ecce homo) الذي صدر عام 1888، لنجد فيه استحضارًا موسعًا إلى حدّ ما لساحة باربيريني في روما. صحيح أن نيتشه، الذي كان يعاني باستمرار من مشاكل في العين، وفي بعض الأحيان غير قادر على الكتابة، لذا يضطر في كثير من الأحيان إلى الاكتفاء ببطاقة بريدية، وما كان يجعل وجهة نظره أكثر وضوحًا هو أنه يجب عليه أن يقول الجوهر في بضع كلمات، لكن هذا الأمر الأساسي يبدو لنا في كثير من الأحيان مبتذلًا بشكل ملحوظ.





عمَّ كانت تتحدث هذه الـ"الرسائل الإيطالية"؟ بداية عن الطقس: حالة الطقس الذي يكون عليها، ماطرًا أو عاصفًا، عن الهواء، النقي أو العاصف، الخفيف أو الملقي بثقله، عن الريح والظل. كذلك يتحدث فيها عن النظام الغذائي وأسعار المطاعم، إذ أن مشكلة التغذية أصبحت مركزية في فلسفة الجسم الحي هذه. هنالك مسألة "عظم البوكو، والقرنبيط، والمعكرونة"... لكننا نلحظ فيها أيضا صدى الحياة في المقاهي الأنيقة حيث يتذوقون "الجيلاتو" (الآيس كريم)، وحيث يمكن للفيلسوف فيها أن يقرأ "صحيفة المناقشات"، ومعرفة برنامج الكازينو، أو أين يقدم باليه كارمن… تفاصيل كثيرة حاسمة عن البحث الدؤوب عن المكان المناسب، "المكان" الذي يناسب طبيعته فائقة الحساسية ومناخ "الفصل الحالي". مكان يستطيع أن يسير فيه من دون خوف (من المشاة والمركبات والخيول، وما إلى ذلك)، وأن يؤلف أقواله المأثورة وأن "يجد حياة تتناغم مع نفسه"، مثلما كتب لعائلته.



ومع ذلك، فإن هذه الـ"رسائل من إيطاليا" لا تقدم سوى صورة غير كاملة، وغير متوازنة ومضللة عن وجود نيتشه، لأن الإقامة في إيطاليا (مثل تلك التي في نيس) هي جزء من بحث فسيولوجي، عن دورة حياة يجب أن تأخذ في الاعتبار أيضًا أشهر الصيف في إنجادين، في سيلس ـ ماريا. فإذا كانت إيطاليا ـ وربما ينبغي أن نقول الجنوب بشكل عام، لكي نربط ذلك مع كورسيكا، ومنطقة الريفيرا الفرنسية ـ تشكل قطبًا، فعلينا أيضًا أن نُثمن القطب الآخر، بهوائه النقي والبارد إلى درجة الصقيع، بثلوجه الصيفية، أي ذاك الخاص بإقامته في سيلس ـ ماريا التي كانت مثمرة جدًا، وضرورية جدًا، ورصينة جدًا. لكن الأمر عائد إلى الفيزيولوجيا، لا إلى الثقافة، إذ أن نيتشه لم يكن سائحًا مثل الآخرين، بل كان ذاك الشخص المريض.
وجاء وقت، في ربيع عام 1888، عندما اعتقد أنه وجد المكان المناسب، تورينو، هذه "المدينة الرائعة"، حيث شعر على الفور بالراحة. "إن المدينة متعاطفة معي بلا حدود"، كتب إلى أقرب أصدقائه، فرانز أوفربيك، في أبريل/ نيسان 1888؛ "تورينو هي المدينة الكبيرة الوحيدة التي أحبها. شيء هادئ ومنضبط يغري غريزتي. أسير في هذه الشوارع الكريمة بسرور. وأين يمكننا أن نجد مثل هذه الأرضية"! أحبَّ كلّ شيء في هذه المدينة: الأروقة والمقاهي، والساحات والشوارع المرصوفة بالحصى مثل ذاك الشارع الذي يقيم فيه كارلو ألبرتو، واللون المصفر للقصور، وخاصة منظر المدينة في وسط جبال الألب المغطاة بالثلوج. خلال هذه الإقامات في العاصمة البييمونتية، عرف فترة من الإبداع المكثف مع "هذا هو الإنسان"، وكتابه المناهض لـ فاغنر. لقد شعر نيتشه في داخله بقوة جديدة تسمح له بمهاجمة "الأصنام" المعاصرة من دون ارتعاش.
ثمة "مأساة" في رسائل ربيع وخريف عام 1888؛ صحيح أنه يتحدث عن شعور مبهج بولادة جسدية وعقلية جديدة، وصحيح أن هذه المقاطع تشهد على إنتاجية فكرية عاد ووجدها مع "الصحة الجيدة"، إلا أن القارئ لا بدّ أن يلاحظ "هذه الصرير" الذي كان ينبئ عن الجنون الذي هو في طريقه إليه. على الأقل هذه هي الطريقة التي يمكننا بها قراءة بعض الصيغ كتحذيرات، مثل تلك التي يقول فيها نيتشه إنه "يحمل مصير الإنسانية في يده" أو التأكيد الذي بموجبه يقدم "هذا هو الإنسان" بأنه "قطيعة في تاريخ الإنسانية". هل كان ذلك وضوحًا أم جنونًا؟ في رسالة عائدة إلى يوم عيد الميلاد عام 1888، يقول: "الأمر المثير للفضول هنا في تورينو هو الانبهار الكامل الذي أمارسه".
لكن أين مذهب نيتشه في ذلك كله؟ أين عقيدته الفلسفية؟ سؤال قد يخطر على بال كثيرين. ما قيمة هذه الحكايات عن حياة الأستاذ المتقاعد مقارنة بتطرف نقده للميتافيزيقا، و"ضربات المطرقة" التي وجهها إلى القيم والتقاليد والأخلاق؟ أين بعض مفاهيمه "الكبريتية"، أو بعض ملاحظاته المعينة حول (الوحشية الضرورية، البربرية، "الرجل الخارق"، "الوحش الأشقر"، رفض الشفقة)؟ أين نجد نيتشه "الحقيقي"؟ في الأعمال المنشورة خلال حياته، والتي ربما لم تقدم للجمهور المعاصر (النادر) سوى عقيدة "ظاهرية"، مخففة، فاترة؟ أو في كتلة الشذرات "الباطنية"، التي من المفترض أن تكشف أفكار نيتشه السرية الأصيلة حول الإنسان الأعلى، والعودة الأبدية، وإرادة السلطة، وما إلى ذلك. إنها مجموعة متباينة، على أية حال، منظمة، لكنها غنيّة بالتحولات والتناقضات (حول فاغنر، على سبيل المثال)، والتي أثارت بالتالي القراءات الأكثر تلاعبًا وتسامحت معها.

(4)
ومع الجواب السابق، حول أفكار نيتشه، لنتابع الرحلة مع مراسلات الفيلسوف الألماني، عبر الجزء السادس والأخير من مراسلات نيتشه، ومعه تنتهي الترجمة الفرنسية للطبعة الضخمة التي كانت صدرت عن منشورات كولي ومونتيناري. وأيضًا هي نهاية المفكر نفسه.
فكما هو معروف، كان العامان الأخيران من حياة نيتشه يحملان شيئًا مأساويًا يمكن إدراكه حتى لو لم نعرف كيف انتهيا، في هذا الصمت التام الذي استمر عقدًا من الزمن شهد موته، وإن كان جسده لا يزال حيًا. من الصعب أيضًا قبول حقيقة أننا لا نعرف إلا القليل عن بقائه على قيد الحياة بعد 9 يناير/ كانون الثاني 1889. هل كان غير قادر على النطق بكلمة واحدة؟ غير قادر حتى على صياغة تفضيلات الطعام؟ هل أن دماغه قد دُمر، من جراء الأدوية المخدرة؟ إنها الهاوية الجسدية، لكنها أيضًا هي هاوية التوثيق. ففي تلك الأثناء، عملت أخته، التي عادت من مستعمرة نويفا جيرمانيا في باراغواي، على فرز الأوراق التي ستخرج منها "إرادة القوة".



ربما يبدو هذا الانهيار أقل شمولًا لو أنه لم يتبع عامًا من الكثافة الفكرية الباهظة التي لا يمكن أن تؤدي إلا إلى مثل هذا الدمار. لذلك، ففي عام 1888، كتب نيتشه خمسة كتب، لا تشبه تمامًا نسخ المقابلات المسجلة على جهاز تسجيل أو تلك التي استخدمها في الملاحظات التيرونية. إذًا، ها هي قضية فاغنر، شفق الأصنام، المسيح الدجال، هذا هو الإنسان، نيتشه ضد فاغنر. كتب نتجت عن قراءات متنوعة وتأملات متعمقة، وصلت إلينا آثارها في الخمسمئة صفحة من المقاطع التي نشرت بعد وفاته. دعونا نضيف إليها الرسائل المتعددة اليومية التي كتبها إلى عشرات الأشخاص للشكوى من عزلته في تورينو، أو نيس، أو في سيلس ماريا، التي لم تكن صحراء فكرية تمامًا.




وبعد ذلك، لا شيء أكثر من ذلك، الصمت المطلق للدماغ الذي انفجر. في 4 يوليو/ تموز 1888، وصف لأوفربيك "حالته المؤسفة"، و"آلامه المختلفة التي تخفي إرهاقًا عصبيًا عميقًا يتسبب في تعطل الآلة". إن الوضوح الذي أظهرته هذه الرسالة مثير للإعجاب. هل كان هذا "الانسداد" الذي حدث بعد ستة أشهر؟ إنه عام اتسم بالإنتاجية المفرطة، كما تدل على ذلك هذه الرسائل.
بعض رسائل نيتشه الأخيرة كانت قد نُشرت سابقًا. هذه هي الحال على وجه الخصوص في ما حدث في 6 يناير/ كانون الثاني 1889، حيث كتب أنه "يفضل كثيرًا أن يكون أستاذًا في بازل على أن يكون إلهًا"، لكنه "لم يجرؤ على دفع أنانيته الشخصية إلى هذه النقطة بترك خلق العالم". سبق لأندريه بروتون أن جمع بعض هذه الرسائل في مختاراته حول الفكاهة السوداء، ليس لأنها "أوصت" نيتشه "بيقظة الأطباء النفسيين"، بل لأنه يرى فيها "أعلى انفجار غنائي لعمله". لم تصل الفكاهة قط إلى هذه الحدة، لذا لم تواجه حدودًا أسوأ من ذلك من قبل. يقول بروتون إنها رسالة موجهة إلى "أستاذ". قد لا يكون الأمر خاطئًا، ولكن من المهم بالنسبة لقارئ نيتشه أن يكون هذا الأستاذ هو حقًا جاكوب بوركهارت، لأنها نبهت أستاذ بازل إلى حالة الصحة العقلية للشخص الذي اكتشف فيه في وقت مبكر عقلًا عظيمًا.
ما من استشهاد برسائل أخرى قط ـ إذ لم تترجم حتى إلى الفرنسية، أو تمت ترجمتها بشكل مجتزأ ـ على الرغم من أنها سلطت الضوء على مواقف ربما بدت متناقضة إلى حدّ كبير، خاصة أنها تمت صياغتها قبل وقت قصير من إصابة كاتبها بالخرف. إن قارئ نيتشه الذي لا يمتنع عن الذهاب إلى بايروت يستطيع أن يفهم، بل ويوافق، معظم الانتقادات الموجهة إلى فاغنر، كما تلك الموجهة إلى بوليز. ولكن ليس باسم تفضيل الموسيقى الصناعية. من المؤكد أن كارمن ليست أوبريتًا، لكن هل نحن على المستوى نفسه كما هي الحال مع مشروع بايروت؟ لقد نسينا كيف كانت الموضة الفاغنرية في السنوات التي تلت وفاة الملحن، عندما نشر زرادشت. تفسر هذه الإغفالات لماذا قد يبدو من الغريب أن يكون نيتشه معروفًا لأول مرة من خلال أعماله عن فاغنر. لم يحضر أبدًا مهرجان بايروت، لا في عام 1876، ولا عند إعادة الافتتاح في عام 1882 ـ لكنه ذهب للاستماع إلى كارمن مرات عدة، في جنوى عام 1881، ثم في نيس، وفي تورينو. في كتابه "ما وراء الخير والشر"، يمتدح فرنسا التي يرى فيها "مقر الحضارة الأوروبية الأكثر روحانية وصقلًا، ومدرسة الذوق العظيمة: لكن عليك أن تعرف وتكتشف فرنسا الذوق هذه". ويجد مثالًا على ذلك في بيزيه، "العبقري الأخير الذي عرف كيف يكتشف جمالًا وإغواء جديدين، والذي اكتسب من الموسيقى قطعة من الجنوب".
مهما كان التقدير الذي نكنه لكارمن، وهي واحدة من الأوبرات النادرة جدًا باللغة الفرنسية، والتي تعد من بين الأكثر أداءً في العالم، قد نتفاجأ عندما نرى بيزيه في المستوى نفسه الذي لـ فاغنر. ولا يمكننا أن نشك في أن نيتشه لم يقس طموح مسرح بايروت. في رسالة موجهة إلى كارل فوكس، وهو موسيقي كتب أيضًا كتابًا ضد فاغنر، مؤرخة في 27 ديسمبر/ كانون الأول 1888، أي مكتوبة قبل عشرة أيام من "الانهيار"، نجد نيتشه يضع الأمور في نصابها بشكل جيد، من دون استفزاز، أو جنون. يشرح نيتشه بهدوء أن "بيزيه لا يعني له كثيرًا، سوى أنه نقيض ساخر لـ فاغنر" الذي كان "يغار بشدة من بيزيه: فكارمن هي الأوبرا التي حققت أكبر نجاح في تاريخ هذا النوع الفني". وقد تجاوز عدد عروضها بكثير عدد عروض أعمال فاغنر مجتمعة.
كان نيتشه مرتبطًا جدًا بشخصية بيزيه هذه، لدرجة أنه في 14 أكتوبر/ تشرين الأول، أسر إلى "بيتر غاست [هاينريش كوسيليتس] بنيته إرسال قضية فاغنر إلى أرملة الملحن، التي قدمها له براندز على أنها ’المرأة الأكثر سحرًا’". وكان هذا واضحًا بعد تأبين بيزيه النابض بالحياة الذي يفتتح به هذا الكتاب: "أمس ـ هل تصدقني؟ ـ سمعت تحفة بيزيه للمرة العشرين […] وفي كل مرة سمعت فيها كارمن شعرت بأنني فيلسوف أكثر، بأنني فيلسوف أفضل".
تسلط المراسلات الضوء أيضًا على الحالة الذهنية لنيتشه في الأشهر التي سبقت انهياره، وعلى حالته الأخلاقية. فمديحه المتكرر لضوء البحر الأبيض المتوسط ​​يرتبط ارتباطًا وثيقًا بهذا الجزء من الحضارة الأوروبية، والذي تتلخص في صيغة "فرنسا الذوق"، وبالتأثير الذي تحدثه الظروف المناخية عليه. في الربيع، يكون حساسًا لضوء تورينو الجميل وصفاء الهواء؛ عندما يأتي الصيف، يكون الطقس السيئ الذي عانى منه على نهر إنجادين ـ تساقطت الثلوج هناك في شهر يوليو/ تموز من ذلك العام ـ حيث شعر بالاكتئاب. ثم تتعلق شكواه بالعزلة التي ينحصر فيها، والتي من أخطر مظاهرها الجهل الشامل الذي يقع فيه عمله الفلسفي. يرى قارئ مراسلاته تعدد المحاورين، الذين يجري معهم حوارًا حقيقيًا، والذين يجد نيتشه أحيانًا رسائلهم طويلة جدًا. وفوق كل شيء، رأى أن جورج براندس كان يلقي في كوبنهاغن سلسلة من المؤتمرات المخصصة لمؤلف زرادشت، والتي حققت نجاحًا كبيرًا، مع "ثلاثمئة مستمع" في كل جلسة وتغطية واسعة في الصحافة. ولم يفشل نيتشه في إيصال هذا النجاح إلى عديد المراسلين. ويصر على هذا العدد، وهو ثلاثمئة، ولا يشتكي من قلة العدد.
غالبًا ما تترك قراءة هذه المراسلات انطباعًا مختلطًا عن رجل ينتقل من النشوة إلى الإحباط، ومن الألم إلى الفرح، ويشكو من العزلة الفكرية والعاطفية على الرغم من أنه لا يفتقر إلى مراسلين يقظين، أو محترمين، وأصدقاء مخلصين، مثل أوفربيك، وشخصيات لامعة، مثل تاين، أو بوركهارت، أو ستريندبرج، الذين هنأوه لأنه "منح البشرية أعمق كتاب تمتلكه". ومن ناحية أخرى، كيف لا نأخذ على محمل الجد تصريحاته لأوفربيك حول "الإرهاق العصبي العميق الذي يتسبب في توقف الآلة"، قبل ستة أشهر من الانهيار؟ باستثناء حالات قليلة، فإن هذا الرجل الذي على وشك الغرق، كان لا يزال يبدو واضحًا للغاية.

 

هوامش:

1 - Jean-Luc Bourgeois. Friedrich Nietzsche: Vie, œuvre, fragments. Éditions L’Éclat

2 – قد تجدر الإشارة هنا إلى غنى كتاب Anne Mounic

 "Italie du récit. Terre des métamorphoses" الصادر عام 2019 عن منشورات Classiques Garnier

3 - Éditions Nous. Friedrich Nietzsche Lettres d’Itali

4 - Éditions Nous. Les courtes habitudes .2014

5 - Friedrich Nietzsche | Correspondance, t. VI (janvier 1887-janvier 1889). Trad. de l’allemand par Jean Lacoste. Édition de Giorgio Colli et Mazzino Montinari. Annotations de Jean Lacoste. Gallimard

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.