يبدأ الفيلم بسقوط كرة صغيرة عبر درج البيت التي يلتقطها الكلب (سنوب) مع موسيقى لشوبان – المقطوعة الرابعة المسماة: (الاختناق)، ومن ثم تنتقل الكاميرا إلى مقابلة صحافية مع ساندرا، فيتّضح لنا بأنّها كاتبة، تستوحي مضامين كتبها من حياتها الشخصية، بعد أن تمزجها بالخيال. تحاول الصحافية استكمال الحوار على الرغم من الموسيقى العالية التي تصدح من العلّية، حيث الزوج صموئيل يعمل على استكمال تجهيز البيت. ترمز الموسيقى الصاخبة لفرقة (50 Cent) لاعتراض الزوج على نشاط زوجته، والأغنية بذاتها تعبّر عن ازدراء تجاه المرأة. هكذا نكتشف العلاقة المتأزّمة بين الزوجين، فكلاهما كاتب؛ أحدهما ناجح والآخر فاشل لم يستطع أن يتقدّم بأي مشروع بدأ به. تنهي ساندرا المقابلة بسبب الموسيقى الصاخبة وتغادر الصحافية، وبذات الوقت يخرج الصبي دانيال (ميلو ماتشادو غرانر) البالغ من العمر أحد عشر عامًا، مع كلبه للتنزّه، والذي فقد جزءًا كبيرًا من بصره عندما كان في الرابعة بعد تعرضه لحادث سيارة، وفي ذلك الوقت كان في رعاية أبيه، الذي قصّر بواجبه، فأرسل المربية بدلًا منه لتصطحبه من المدرسة. بعد عودة دانيال من نزهته يجد أباه ملقًى على الثلج، فيصرخ بأعلى صوته، لأنّ الموسيقى الصاخبة ما زالت تصدح، فتهرع إليه ساندرا التي كانت تقضي قيلولة رغم الضجيج الذي كانت تتجنّبه بوضع سدادات للأذنين تمنحانها بعض الهدوء.
مسرحة الجريمة
تحضر الشرطة ويتم دراسة واقعة سقوط صموئيل، عبر رمي دمية من العلّية لرؤية كيفية سقوطها، ودراسة بقع الدم المتناثرة، وفحص الجثة للتيقّن من سبب الوفاة، الذي ظهر بأنّه نتيجة لاصطدام الرأس بحافة قاسية. وهكذا بين ليلة وضحاها تصبح ساندرا مشتبهًا بها في مقتل زوجها، ليتحوّل الفيلم إلى أمثاله من أفلام (دراما المحاكم) حيث المرافعات المتضادة بين النائب العام ومحامي ساندرا، وتعارض الأدلة والشهادات، بين ما يؤكّد ضلوع ساندرا بالجريمة وبين ما ينفي عنها التهمة.
يستجوب النائب العام ساندرا، ومن خلال استجوابه تتكشّف العلاقة الشائكة بين الزوجين، فساندرا ألمانية المولد، تتكلم الإنكليزية، وكانت تعيش حياتها الناجحة في بريطانيا قبل أن تنتقل مع الزوج الفرنسي إلى منطقة في جبال الألب بعيدًا عن صخب المدينة، بعد تأزّم وضعه المادي والنفسي إثر الحادثة التي أصابت ابنهما دانيال، لتعيش ساندرا اغترابها اللغوي والمكاني مضحيّة لأجل العائلة، فيما صموئيل قد لجأ إلى طبيب نفسي يشكو من خيانات ساندرا له وعدم اكتراثها بحبسته الكتابية، وأنّها لا تعطي وقتًا كافيًا للعائلة. وفي تسجيل خاص أجراه صموئيل لمشادة كلامية مع ساندرا نكتشف أنّه قد اتهمها بسرقة أفكاره وبخيانته. تدافع ساندرا عن نفسها بأنّها تحبّ صموئيل، لكن كيف لها أن تثبت ذلك، وهي لم تخنه إلّا لحاجتها البيولوجية للجنس، لا للحب! أمّا على صعيد السرقة، فهي استعارت فكرة من أفكار زوجها، التي أهملها، وأبدعت من خلالها كتابًا يتجاوز الثلاثمئة صفحة. إضافة إلى أن صموئيل حاول الانتحار بتناول كميات كبيرة من دواء الأسبرين الذي وجد في قيئه، فلماذا لا يكون سقوطه انتحارًا.
"تشريح السقوط" Anatomy of a Fall للمخرجة الفرنسية جوستين تريت التي حازت بموجبه على السعفة الذهبية بمهرجان كان للدورة 76 لعام 2023 (Getty, Cannes, 27/5/2023) |
في خضم تلك المرافعات يصرّ دانيال على حضور الجلسات، على الرغم من صغر سنه، لأنّه يريد أن يعرف، هل أنّ أمّه حقًا قد قتلت أباه، أم أنّه انتحر، أم سقط بشكل عفوي؟ فهو لا يستطيع أن يعيش مع تلك الهواجس، فهو يريد الحقيقة بعيدًا عن حكم القضاء. كان دانيال يتعلّم العزف على البيانو، ولكنّه يتدرّب عن طريق الخطأ والصواب بالاستماع إلى المقطوعة، ومن ثمّ مقارنتها مع عزفه، حتى أنّه ذهب لإطعام الكلب حبوب الأسبرين بكثرة ليعرف ما حدث مع أبيه، فلقد وجد كلبه مرة في حالة إعياء شديد في ذات الزمن الذي حاول فيه أبوه الانتحار وخمّن أنّ الكلب أكل القيء المملوء بالأسبرين. وعندما رأى نفس النتائج أدلى بشهادته التي قصّ فيها محادثة جرت مع أبيه وأخبره فيها، بأنّه من الممكن أنّ كلبه سنوب قد يموت، على الرغم من كلّ الحبّ الذي يكنّه له، لذلك عليه أن يكون مستعدًا لذلك اليوم. ما قصده دانيال بذكره لتلك المحادثة، بأنّ والده كان يقصد أنّه من الممكن أن يموت، وعلى دانيال أن يكون قويًا لتحمّل ذلك.
مكر جوستين تريت
في لقاء مع الممثلة ساندرا هوللر أخبرت بأنّها قد سألت المخرجة تريت عن حقيقة موت صموئيل؛ هل انتحر حقًا، أم أن شخصية ساندرا قتلته؟ لم تجبها المخرجة أبدًا عن هذا السؤال!
لم تذهب تريت في رؤيتها إلى تقديم حقائق للتبرئة أو الإدانة، وكأنّها مع مقولة الفيلسوف السفسطائي بروتاغوراس الذي قال بأنّ: "الإنسان هو مقياس كل شيء"، فلكلّ من شخصيات الفيلم نظرته الخاصّة للحادثة التي وقعت – حتى نحن- والأسباب التي أدّت إليها، فهل كان صموئيل مظلومًا من زوجته، التي انتزعها من بيئتها ولغتها ومحيطها الأدبي الناجحة فيه، إلى عزلة جبال الألب وكآبته، متخليًا عن مشروعه الأدبي، مضافًا إلى ذلك غيرته المبطّنة منها؟ وهل كانت مقاومة ساندرا لذلك، بأنّها استمرت بالكتابة والعيش معه، ولو مع بعض الخيانات، إدانة لها؟ ومن جانب آخر، ألم تكن هي من صمتت على إزعاجات صموئيل، ابتداءً بالموسيقى الصاخبة، إلى الشجارات الكثيرة، وتسجيل ما يحدث بينهما بشكل سرّي، بحيث سمحت له بالتمادي في سحبها إلى منطقته السوداء! أمّا دانيال، فقد غيّر شهادته البدئية، بأنّه قد سمع والديه يتحدثان من دون شجار قبل الحادثة، بعدما أغلق باب البيت وخرج للتنزّه. وعند إعادة تمثيل شهادته لِما حدث، لم يستطع أن يسمع الصوت الآتي من العلية من قبل الممثلين الذين أحضرتهم الشرطة لإعادة تشخيص الواقعة مع وجود الموسيقى الصاخبة، لكنّه سمع ذلك، حين تم إدخاله إلى البيت، فهل بدّل دانيال شهادته من أجل المحافظة على ذكرى جيدة عن علاقة والديه، معلّلًا ذلك بأن الأمور اختلطت عليه! وهل كانت شهادته الحاسمة، عندما سرد المحادثة التي جرت بينه وبين والده عن موت الكلب سنوب من أجل أن لا يخسر كلّ شيء بموت والده وسجن أمّه. ألم يكن النائب العام محقّا، عندما قال بأنّ الأدلة هي ما يعني المحكمة، لا الرؤية الشخصية للمتهمة والشهود، وكأنّه يردّ على مقولة بروتاغوراس، بأنّ المقياس لا يمكن أن يترك لرغبة وإرادة الشخص، وإلّا لدخل المجتمع بالفوضى، فما دامت المتهمة ساندرا تمزج كتابتها بالحقائق والتخييل، ألا نستطيع أن نستند إلى أحد كتبها التي تتحدث فيه عن وقائع جريمة مشابهة لِما حدث! وهنا ترد عليه ساندرا، بأنّ هكذا منحى في الإثبات سيؤدي إلى اعتبار الكاتب ستيفن كينغ، المشهور برواياته عن الجرائم، قاتلًا متسلسلًا!
تمعن تريت بخلط الحقائق بالتخييل، والشبهات بالحدود، والأسئلة بالأجوبة، فسيناريو الفيلم هو نتاج للتعاون بينها وبين زوجها الممثل والمخرج (آرثر هراري) والشخصيات في الفيلم تحتفظ بأسمائها في الواقع كالممثليْن: ساندرا هوللر وصموئيل ثيس، مضافًا إلى ذلك أنّ كلًّا من المقتول والمتهمة كاتبان ومن المحتمل أن موت صموئيل الذي حدث بهذا الشكل الغامض نتاج تخييله الذي جعله واقعًا، كذلك ساندرا، حتى أنّنا لم نشهد قراءة الحكم النهائي في القضية من قبل القاضية، بل عبر خبر بثته إحدى المحطات التي تتابع حيثيات المحاكمة، وكأنّنا مع سؤال: من يحدّد صدقية الخبر، هل حكم المحكمة، أم أقوال المتهمة والشهود، أم الدلائل، أم مصلحة دانيال، أم أنّ تريت وهراري كانا يختبران علاقتهما الزوجية من خلال هذا الفيلم؟ إذًا الحقيقة غائبة بداية بموت أحد أطرافها، فكيف تتضح؟ لذلك كانت شخصية دانيال ضعيفة البصر تحاول أن تهتدي إلى حلّ ما، إلى تأقلم ما، لا إلى حقيقة مطلقة، فهذا هو ما تستطيعه، وما نستطيعه نحن! لذلك يقول نيتشه: "لا وجود لحقائق بل مجرد تأويلات".
يُذكر أن "تشريح السقوط" هو الفيلم الثالث الطويل للمخرجة جوستين تريت بعد فيلميها: "فيكتوريا" و"سبييل" من تمثيل: ساندرا هولر، سوان أرلود، ميلو ماتشادو جرانر، أنطوان رينارتز، صموئيل ثيس، وآخرين.