}

عن الفلسفة الألمانية من كانط إلى هيغل

حسونة المصباحي 21 مارس 2024
تغطيات عن الفلسفة الألمانية من كانط إلى هيغل
هاينريش هاينه وكتابه عن الدين والفلسفة في ألمانيا
في كتابه "عن ألمانيا"، خصّص الشاعر والكاتب هاينريش هاينه فصلًا مُهمًّا عن الفلسفة الألمانية من كانط إلى هيغل. وهو يفتتح هذا الفصل بالحديث عن كانط قائلًا: "من الصّعب كتابة حياة كانط لأنه كان بلا حياة وبلا تاريخ. فقد عاش حياة أعزب، وهي حياة مُنظّمة بدقّة مُتناهية حتى أنها تكاد تكون حياة آلية. وما أظنّ أن ساعة الكاتدرائية قامت بعمل مرئي بنفس المثابرة والحماس والدقّة مثلما كانت حال مواطنها إيمانويل كانط. النهوض من النوم، وشُربُ القهوة، والكتابة، والتّدريس، وتناول العشاء، ثم الذهاب للتجوّل، كل واحد من كلّ هذه الأفعال، كان له وقته الخاص به. وكان الجيران يعرفون أنها الساعة الثانية والنصف ظهرًا حين يخرج كانط من بيته، مُرتديًا ثوبًا رماديًّا، وفي يده عصاه الإسبانية، ليتوجّه إلى الممرّ الصغير الذي تظلله أشجار الزّيْزَفُون، والذي لا يزال يُسمى إلى حد هذه الساعة "ممرّ الفلسفة" إكرامًا لذكراه". ويرى هاينه أن كانط كان "مُهدّمًا ومُقوّضًا" للكثير من الأفكار والمناهج الفلسفية القديمة حتى أنه يمكن القول إنه "تجاوز" زعيم الثورة الفرنسية روبسبير، في مجال الهدم والتدمير، فـ"كل واحد منهما كانت له تلك النزاهة المتصلبة، القاطعة والشاقّة، والخالية من الشعر". ثم إنهما يمتلكان موهبة الارتياب، التي يمكن أن نسميها موهبة النقد. وفي حين كان زعيم الثورة الفرنسية يستعمل هذه الموهبة ضد خصومه باسم "الجمهورية"، كان كانط يستعملها ضدّ أفكار الآخرين.

ويعتبر هاينه كتاب "نقد العقل المَحْض" أهمّ ما ترك كانط في مجال الفكر الفلسفي. وقد صدر هذا الكتاب سنة 1781 إلاّ أنه لم يشهد الانتشارَ اللائقَ به إلاّ سنة 1787، أي قبل سنتين من اندلاع الثورة الفرنسية التي أطاحت بالنظام الملكي. ورغم الأهمية البالغة التي اكتسبها هذا الكتاب، إلاّ إن أسلوبه كان "جافًّا، وباهتًا، شبيهًا بأسلوب الورقة الرمادية". كما أن الطريقة التي اختارها صاحبه لبلورة أطروحاته وأفكاره كانت "مُتصلّبَة، وتجريدية". وقد يعود ذلك إلى أن كانط اختار، في هذه المرة، الابتعاد عن "الأساليب الشعبية" الرائحة آنذاك، والتي كان من المتحمسين لها نسبيّا في البعض من كتبه السابقة. لذلك يمكن القول، بحسب هاينريش هاينه، إن كانط أساء للفكر الفلسفي بأسلوبه وبطريقته في طرح الإشكاليات، وعرض الأفكار من حيث لا يدري. وهكذا سار على منهجه المتأثرون به بعد وفاته مُعتقدين أن "التفلسفَ" بشكل جيد يمكن أن يتحقّق من دون الاهتمام بمسألة الكتابة.

في كتابه "عن ألمانيا"، خصّص الشاعر والكاتب هاينريش هاينه فصلًا مُهمًّا عن الفلسفة الألمانية من كانط (يمين) إلى هيغل (يسار)


وكان الفلاسفة السّابقون لكانط قد اهتموا بمسألة المعرفة، منقسمين إلى فريقين: فريق الأفكار ما قبل التجربة (أي قبليّ أو أوليّ)، وفريق الأفكار ما بعد التجربة (أي بَعْديّ): A Priori -A Posteriori ولكنهم لم يبحثوا في ماهية المَلَكَة التي بها يستعين الإنسان لبلوغ المعرفة، ولم يُحدّدوا قدراتها، ولا نقائصها وحدودها، ولم يهتمّوا بها إلا قليلًا. وكان هذا هدف كانط الأساسي والجوهري. لذلك أخضع مَلَكةَ المعرفة إلى تحليل عميق مُحدّدًا خصائصها وحدودها. وما توصّل إليه هو أننا لا نستطيعُ أن نعرفَ شيئًا عن أشياء كثيرة كنا قد قدّمناها سابقًا كمعارفنا الحميمة. كما يُثْبـتُ كانط أنه ليس بإمكاننا أن نعرف أيّ شيء عن الأشياء كما هي في ذاتها وبذاتها، لكننا لا نملك المعرفة عنها إلا بقدر ما تنعكسُ في أذهاننا، وبالطريقة التي بها تنعكسُ. ونحن في مثل هذه الحال نكون شبيهين بالمساجين الذين يتحدّث عنهم أفلاطون في الكتاب السابع من "الجمهورية"، وعنهم يرسمُ صورة مُروّعة. فهؤلاء المساكين المشْدودون بسلاسل من رقابهم ومن أرجلهم بحيث يكونون عاجزين عن تحريك رؤوسهم، جالسون في سجن مفتوح من فوق، ومن فوق هم ينعمون بقليل من الضوء. ومصدر هذا الضوء نار يرتفع لهبها خلفهم، ويفصلهم عنها جدار صغير. وعلى طول هذا الجدار يسير رجال يحملون تماثيل مختلفة من الخشب ومن الحجارة، وهم يتحدثون فيما بينهم. ولا يمكن لأولئك المساجين التعساء أن يُشاهدوا الرجال، كما أنهم ليسوا في مستوى علوّ الجدار. ومن التماثيل هم لا يرون غير الظلال التي تتجوّل على الجدار المقابل. لذلك هم يتوهّمون أن تلك الظلال هي التماثيل نفسها، ومخدوعين بصدى السجن هم يظنّون أن الظلال هي التي تتكلم فيما بينها. ومعنى كل هذا أن كانط أطاح بمناهج كل الفلاسفة الذين كانوا يبحثون هنا وهناك لجمع إشارات ودلالات عن أشياء يقومون بترتيبها بعدئذ ليمضي بالأبحاث إلى أعماق الفكر البشري ، سابرًا أغواره، ومُستكشفا خفاياه وأسراره. لذلك قارن نفسه بكوبرنيكوس قائلًا في الطبعة الثانية من كتاب "نقد العقل المحض" إنه قام بـ"ثورة كوبرنيكية" في الفلسفة. فإذا ما كان كوبرنيكوس أثبت أن الشمس هي المركز، وأن الأرض مَجرّ يدور في فلكها، فإن كانط جعل العقل في الصدارة، ومن حوله يدور عالم الأفعال والأشياء لتزول عنه الظلمة كلما اقترب من شمسه الوهاجة.

وبالنسبة لوجود الله، يرى كانط أن هناك أدلة ثلاثة تقودنا إلى ذلك. وكلّ الطرق التي نختارها لبلوغ هذا الهدف تبدأ إمّا بالتجربة المُحدّدة وبالماهية الخاصة للعالم الحسي المُعْترَف به من جانب هذه التجربة، ومن هناك ترتفع بحسب قوانين السببيّة لتصل إلى السبب الأعلى خارج العالم. أو أنها تستندُ إلى تجربة غير محددة، مثلًا على وجودٍ ما. أو هي تتعامى في النهاية عن كل تجربة، وتختم بما هو قبْليّ، بأفكار خالصة عن وجود كائن أعلى. الدليل الأول هو الدليل الأنتولوجي، والثاني هو الدليل الكوني. أما الثالث فهو الدليلُ الفيزيائي اللاهوتي. وما يمكن أن نستنجه من كتاب "نقد العقل المحض" هو أن كانط أعطى دفْعًا قويًا لمكانة العقل في عصره، ليس بفضل أسلوبه في الكتابة، وإنما بفضل اعتماده للنقد وإخضاع كل شيء له فلا يخشى مواجهة ما هو موجود فعليًا، ولا ما هو متخيل، ولا ما هو نتيجة خرافات وأساطير قديمة. كما أنه أخضع للنقد كل المجالات المعرفية مثل العلوم بجميع أصنافها. حتى الشعر لم يسلمْ منه. وكان شيللر، صاحب الروائع المسرحية الخالدة، يعتبر نفسه من أنصار كانط. الأمر الثاني هو أن صاحب "نقد العقل المحض" كان جامعًا بين الفكر والإرادة فلا يفصل بينهما أبدًا لأنهما مؤثران في العالم بنفس القوة. وقد كتب هاينريش هاينه يقول :"لقد كان كانط يَبسُطُ الفكر أمامه، ثم يشرع في تحليله، وتشريحه فلا يترك أدنى لُيَيْفَة منه، وكان كتابه "نقد العقل المحض" بمثابة فضاء تشريحيّ للعقل البشري".

كان يوهان غوتليب فيخته  من أنصار كانط، وكان شكل كتاباته شبيهًا بطريقته


وكان يوهان غوتليب فيخته (1762-1814) من أنصار كانط، وكان شكل كتاباته شبيهًا بطريقته. وهي بحسب هاينريش هاينه "تمتلك كل عيوب الحياة" إذ أنها "مُضطربة ومُلْتَبسة". ومحاولًا أن يكون مُتمتّعا بالحيوية الفكرية اللازمة، سعى فيخته للتخلص من مصطلحات الفلاسفة التي كان يعتبرها "ميّتة". مع ذلك هو لم يتمكن من بلورة فلسفة عميقة وجديرة بالاهتمام، ومفيدة بالنسبة لمجتمعه. وربما لهذا السبب كان يُحمّل الآخرين مسؤولية عدم فهم وإدراك معاني فلسفته المثالية. وفي هذا الجانب هو لا يختلف عن هيغل الذي قال وهو على فراش موته: "واحد فقط فهمني". ثم أضاف: "حتى هذا لم يفهمني إطلاقًا هو أيضًا". الجانب الوحيد الملفت للانتباه في فلسفة فيخته، بحسب هاينريش هاينه، هو أنها مثّلت مرحلة انتقاليّة ضرورية بالنسبة للفلسفة الحديثة. والسؤال الجوهري الذي تطرحه هذه الفلسفة هو التالي: ما هي الأسباب التي تُخَوّلُ لنا أن نتقبّلَ أن مفاهيم الأشياء تتجاوب مع الأشياء التي هي خارجة عنّا؟ ومُجيبًا على هذا السؤال يقول فيخته إن كلّ الأشياء لا واقع لها إلاّ في عقلنا. وهذا العقل يرى نفسه أثناء الفعل. و"الأنا" تُسجيل ملاحظات حول الأفعال الثقافية وهي بصدد القيام بها. والفكرة تتجسّس على نفسها أثناء عمليّة التبلور والولادة. وساخرًا من هذه العملية التي طرحها فيخته، كتب هاينريش هاينه يقول: "هذه العملية تجعلنا نفكّرُ في القرد الجالس قرب النار، أمام مرجل فيه يغلي ذيله معتقدًا أن الفن الحقيقي للطبخ ليس فقط أن نطبخ بشكل موضوعي، وإنما أن نكتسب الوعي الذاتي للطبخ". ويضيف هاينه قائلًا: إن "أنا" فيخته ليست "أنا" فرديّة، وإنما هي "أنا" كونية، أي أنها "أنا" العالم وقد بلغ طوْرَ الوعي بذاته. لذلك يمكن القول إن فكر فيخته ليس فكر رجل واحد مُحدّد هو يوهانس غوتليب فيخته، وإنما هو الفكر الكوني التي يتمظهر في الكائن الواحد. أي أنه بإمكان فيخته أن يقول: "إنه يفكر"، بدل أن يقول: "أنا أفكر".

ويشير هاينه إلى أن حياة فيخته كانت سلسلة من النضالات المتواصلة. فقد كانت سنوات شبابه مَوْسومة بالفقر والخصاصة. لذا كان عليه أن يُهاجر إلى فرصوفيا لكسب "قوته المر". وهناك عمل مُربيًا لأطفال سيدة كانت ترغب في تربية أبنائها على طريقة أبناء النبلاء الفرنسيين. لذلك سرعان ما تخلّت عنه حين لاحظت أن طريقته لا تستجيب مع رغباتها. وهكذا غادر فيخته فرصوفيا فقيرًا مرة أخرى لينطلق إلى "كونيغسبارغ"، بلدة كانط، مُوطّدًا العزم على ربط علاقة به. عند وصوله إلى هناك، حضر درسًا له إلاّ أن طريقة صاحب "نقد العقل المحض" في التدريس "كانت مملة وثقيلة حتى أنه شعر بالرغبة في النوم" وهو يستمع إليه. وعلى مدى أسابيع، انكبّ فيخته على كتابة ما سمّاه بـ"نقد كل أشكال الرؤى"، وعرضه على كانط الذي أبدى اهتمامًا به، وبدا واضحًا أنه كان "راضيًا عنه". ومن "كونيغسبارغ"، توجّه فيخته إلى سويسرا ليقيم هناك فترة طويلة. ولم تستقر حياته وأوضاعه إلا بعد أن عُيّن أستاذًا في جامعة مدينة "إئنا" التي كانت مع "فايمار"، المدينة القريبة منها، مركزًا مُشعًّا للثقافة الألمانية في تلك الفترة. فيهما كان يُقيم العديد من الشعراء والكتّاب والفلاسفة. وفي "إئنا"، شرع فيخته في تقديم محاضراته التي لاقت نجاحا مُهمًّا في البداية إلا أنها سرعان ما أثارت حفيظة الأوساط الرجعية والدينية فألصقت به تهمة "الإلحاد" ليجد نفسه في مواجهة متاعب مادية ومعنوية قاسية ورهيبة. فقد مُنعت كتبه ومقالاته من التداول. كما أن السلطات السياسية والدينية في مدينة درسدن طالبت بتسليط أقسى العقوبات عليه، وطرده من الجامعة. وبسبب كل ذلك، غادر فيخته مدينة "إئنا". وفي الكتاب الذي خصصه لسيرته، دافع غوته عن فيخته، معتبرًا انقطاعه عن إلقاء محاضراته "خسارة" للفكر الفلسفي. وفي نفس الوقت أعاب عليه الطريقة التي بها عرض أفكاره حول الله، وحول بعض المسائل الدينية "الحسّاسة"، إذ أنه بحسب رأيه لم يتوفّق في استعمال تراكيب وجمل يمكن أن تخفّف من "حدة أفكاره". وساعيًا للردّ على الحملة الشعواء التي شُنّت ضده، كتب فيخته إلى صديقه الفيلسوف النمساوي كارل ليونارد راينولد (17576-1823) رسالة طويلة بتاريخ 22 مايو/ أيار 1799 يؤكد له فيها أن التّهمة الموجّهة إليه، أي تهمة الإلحاد، هي في الحقيقة لضرب الحرية الفكرية، ولقمع ومقاضاة كل الذين يحاولون من خلال أفكارهم إزاحة الظلمات عن العقول، وخلخلة طغيان وهيمنة الأوساط المحافظة والرجعية التي تبذل أقصى ما في وسعها لكي تظل المجتمعات خاضعة لها خضوعًا كليًا، ومُكبلة بأغلال لا تستطيع الفكاك منها أبدًا. وأضاف فيخته قائلًا في رسالته المذكورة: "لنفترضْ أنني سأسكت، وأنني لن أكتب مُستقبلًا ولو سطرًا واحدًا، فهل سيدعونني في سلام؟ لا أعتقد ذلك. ولْنُسَلّمْ بأنه يمكن أن آمل في ذلك من خلال الدروس التي ألقيها، إلاّ أن السلطات الدينية لن تغفر لي ذلك، بل سوف تُهَيّجُ ضدي العامّة والدهماء أينما ولّيْتُ وجهي، لسحلي، وفي النهاية... وهل ستُحْجمُ هذه السلطات عن التوسّل إلى الحكومات لكي تبعدني بصفتي محرّضًا على الفوضى والاضطرابات؟ وهل يتوجّبُ عليّ عندئذ أن أصمت؟ لا، لن أفعل ذلك إذ أنني في الحقيقة أعتقد أنه إذا ما كان بالإمكان إنقاذ شيء مّا من الفكر الألماني، فإن ذلك لن يتحقق إلاّ بفضلي. أما إذا ما أنا صمتّ، فإن الفلسفة سوف يُصيبها خراب كامل ومُبكّر. وكيف يمكن أن يكون لي أمل في أولئك الذين لن يسمحوا لي بالوجود في الصمت، بأن يُوفروا لي فرصة الكلام؟ وهل يمكن أن أقنعهم ببراءتي... عزيزي راينولد، كيف يجوز لك أن تفترض أن لهؤلاء الناس نوايا حسنة تُجاهي؟ وكلما أنا حاولت أن أكون أكثر نظافة، وأشد برهنة، كلما سيكونون هم أشدّ سوادًا من ذي قبل، وستكون جريمتي أكثر شناعة في نظرهم. وأنا لا أعتقد مطلقًا أنهم يُلاحقونني بسبب ما يسمونه بـ"الإلحاد"، بل إنهم يُلاحقون المفكر الحر الذي هو أنا، والذي بدأت أفكاره تتوضح بشكل جليّ (كان كانط سعيدًا بأن يكون أسلوبه غامضًا ومُبهمًا). ما يلاحقونه هو الرجل الديمقراطي الذي هو أنا. وما يُفْزعهم مثلما يُفزعهم شبح، هي الاستقلالية التي تحثّ عليها فلسفتي، والتي يستشعرونها بطريقة مُبهمة".

لم يكن فريدريك فيلهلم يوزف شيلينغ (يمين) مُختلفًا كثيرًا في فلسفته المثالية، خصوصًا في بداياته، عن فيخته (يسار) بل إن هذا الأخير كان يعتبره نسخة منه


ولم يكن فريدريك فيلهلم يوزف شيلينغ (1771-1854) مُختلفًا كثيرًا في فلسفته المثالية، خصوصًا في بداياته، عن فيخته، بل إن هذا الأخير كان يعتبره نسخة منه إذ أنه كان أستاذه في سنواته المُبكّرة. ومثل فيخته كان شيلينغ يرى أنه لا يوجد إلا كائنًا واحدًا، هو "الأنا"، و"المطلق". كما أنه اهتمّ بما سمّاه "هوية المثالي والواقع". وإذا ما كان فيخته قد سعى في كتابه "نظرية العلم" إلى بناء ما هو واقعيّ انطلاقًا من ما هو مثالي، فإن فيخته فعل العكس، أي أنه حاول أن يبني المثالي انطلاقًا من ما هو واقعي. مع ذلك يمكن القول إنه لا يوجد بينهما اختلاف جوهري لأنهما يصلان في النهاية إلى نفس النتيجة. ويعتقد هاينريش هاينه أنه ليس بإمكاننا أن نطلق حكمًا مّا على فلسفة شيلينغ اعتمادًا على كتاب واحد، بل يجدر بنا أن نتّبع مساره بطريقة مُتسلْسلَة تاريخيًا لكي نبلور فكرة واضحة وشاملة عنها، ولكي نُعاين التطور التدريجي لفكره ولكي نٌشكّل ارتباطًا وثيقًا بما هو أساسيّ وجوهريّ فيه. ومن الضروري بحسب هاينه أن نُمَيّزَ لدى شيلينغ النقطة التي يتوقّفُ فيها العقل ليحضر الشعر "إذ أن الطبيعة وهبته ميْلًا للشعر من دون أن تكون له قوة الشعرية. لكأنّ عذارى الشعر فرّرن إلى غابة الفلسفة". ويضيف هاينه قائلًا: "الشعر عند شيلينغ هو في الآن نفسه الجانب القوي والضعيف عنده. وهذا ما يفصله عن فيخته الذي كان فيلسوفًا تكمنُ قوته في الجدل، وفي الإثبات والبرهنة. وهذا ما لا يتوفر لدى شيلينغ لأنه يعيش أكثر في التأمّلات الحدْسيّة. لذلك هو لا يشعر بنفسه في المناطق الباردة للمنطق، ويحبّ أن يتسللَ إراديًّا إلى الأودية المُزْهرَة للرمزية. وقوته الفلسفيّة تَكمُنُ في قدرته الفنية على البناء. إلاّ أن هذه القابليّة هي في الحقيقة ملَكَةُ الفكر التي نجدها أيضًا وفي غالب الأحيان لدى الشعراء الرديئين وليس لدى أفضل الفلاسفة". اعتمادًا على ما سبق، بإمكاننا أن نُشير إلى أن شيلينع في هذا الجزء من الفلسفة الذي كان مُتصلًا بالمثالية الاستعلائية، لم يكن غير صدى لفيخته. أما في فلسفة الطبيعة حيث تتوفر له الزهور والنجوم، فإنه يتفتّح ويشعّ. وكان شيلينغ قد اعترف بأنه لم يكن يطمحُ إلاّ لتأسيس مدرسة على غرار الشعراء القدماء، أي مدرسة شعرية لا أحد فيها مُجْبر على اتّباع نظرية محدّدة، بل يتوجّب على كلّ واحد ينتسبُ إليها أن يحترم الفكر، ويُبْرزه بطريقته الخاصة.


ومُلخّصًا فلسفة شيلينغ كتب هاينريش هاينه يقول بأن ما كان شيلينغ يرغب في القيام به هو المصالحة بين الفكر والطبيعة، ساعيًا إلى الجمع بينهما في الروح الأبدية للعالم، ومُرمّمًا تلك الفلسفة العظيمة عند قدماء الفلاسفة الإغريق، ما قبل سقراط، إلاّ أن هيغل الذي كان صديقه في مرحلة الشباب، أطاح بفلسفته بطريقة مُهينة، مُدمّرًا عرشه، وساحقًا فكره من أساسه. وفي النهاية وجد نفسه غريبًا ووحيدًا يهيم على وجهه في شوارع ميونيخ حيث كان يقيم ويعمل أستاذًا في جامعتها، مثل "شبح قاتم، بعينين منطفئتين، ووجه شاحب، وصورة ملك مخلوع".

                

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.