}

محمد الغزي مُحلّقًا بجناحي ملاك في سماء الشعر

حسونة المصباحي 21 فبراير 2024
آراء محمد الغزي مُحلّقًا بجناحي ملاك في سماء الشعر
محمد الغزي

 

مطلع هذه السنة، وتحديدًا في الثامن عشر من جانفي/ يناير (كانون الثاني)، فقدت تونس واحدًا من أهمّ شعرائها بعد أبي القاسم الشابي، أعني بذلك محمد الغزي. وقد شكّل موته المفاجئ صدمة مروّعة بالنسبة للأوساط الثقافية في تونس، وفي جميع أنحاء العالم العربي، إذ أنه كان قد نشر في صباح اليوم المذكور تدوينة يُعبّر فيها عن ابتهاجه بصدور ديوانه الجديد الذي اختار له عنوان: "الجبال أجدادي والأنهار إخوتي".  لكن في الظهيرة خانه القلب الذي كان قد تعرّض قبل أيام قليلة لأزمة حادّة فسقط ميتًا في شقته بمدينة سوسة التي فرّ إليها تاركًا القيروان بعد أن اختطف فيها الموت زوجته قبل نحو أربعة أعوام...

والحقيقة أنّ موت الشعراء يكون دائمًا صادمًا حتى ولو طال بهم العمر. وقد رحل محمد الغزي عن سن تناهز 75 عامًا، لكن يبدو وكأنه لم يعشْ كل هذا العمر، بل عاش عمر الوردة التي قد تتفتح في الصباح، ثم تذبل وتموت قبل حلول الظهيرة. وهذا ما عبّر عنه أبلغ تعبير الشاعر الفرنسي فرانسوا دو مالارب حيث كتب في قصيدة قصيرة يقول: "لكنها كانت من هذه الدنيا/ حيث أجمل الأشياء تشهد أسوأ المصائر/ وردة عاشت ما تعيشه الورود/ أي صباحًا واحدًا"...

بدأ محمد الغزي مسيرته كشاعر في أواخر السبعينيات ومطلع الثمانينيات من القرن الماضي. ومن المؤكد أنه كان قد كتب الشعر قبل ذلك، إلاّ أنه تخلى عن كلّ ما كتب حتى ذلك الحين ليفتح صفحة جديدة في مسيرته. وقتها كان قد عاد من السنغال بعد بضع سنوات قضاها في التدريس هناك. ومن المؤكد أن تلك التجربة أثرت فيه معرفيًّا، وفتحت أمامه آفاقًا كانت مجهولة بالنسبة له، ليكتشف عوالم أخرى سوف يزداد اقترابًا منها ومعرفة بها بعد أن يقرأ أشعار سنغور، وإيمي سيزار، و"المدارات الحزينة" لكلود ليفي شتراوس. وصادف أن تزامنت عودته مع تجمّع البعض من الكتاب والشعراء في مدينة القيروان، مسقط رأسه. وهؤلاء هم المنصف الوهايبي العائد من ليبيا، والبشير القهواجي الذي اختار الاستقرار في القيروان منذ منتصف السبعينيات بعد أن تخلص من أوهامه اليسارية، وكاتب هذه السطور. وكان خالد النجار، ابن العاصمة، يُكثر من التردد على القيروان ربما لأنه وجد فيها ما يبعث فيه الحماس لنشر أفكاره وآرائه في الشعر، وفي الكتابة، وفي الفكر، وفي الثقافة عمومًا...

في تلك الفترة، كانت تونس تخرج متعبة وحزينة من عشرية سوداء شهدت العديد من المحاكمات السياسية التي كان اليساريون من حركة "آفاق"، و"العامل التونسي" و"الحركة الشعبية" بزعامة أحمد بن صالح من ضحاياها. وبعد المواجهة الدموية بين نظام بورقيبة واتحاد الشغالين، انضاف إلى هؤلاء القادة النقابيون. حتى الحبيب عاشور الذي كان من أكبر الموالين لبورقيبة لم يسلم من تلك المحاكمات القاسية والمُهينة للكرامة الإنسانية. وقد ازدادت الأوضاع سوءًا في البلاد بعد أن قامت مجموعة صغيرة من القوميين العرب بدعم من نظام القذافي، وبتأييد خفيّ من النظام الجزائري، بهجوم مسلح على مدينة قفصة جنوب غربي البلاد. وقد دفعت تلك الحادثة الخطيرة النظام البورقيبي إلى مراجعة نسبية في سياسته خصوصًا في الجانب المتعلق بالحريات لتعيش تونس ما سمّاه البعض بـ"ربيع الديمقراطية القصير".

بموجب ذلك اُطلق سراح المساجين اليساريين والنقابيين، وسُمح لبعض من حركات المعارضة خصوصًا الحزب الشيوعي، وحركة الديمقراطيين الاشتراكيين، بالنشاط، وإصدار جرائد. وبعد تلك السنوات العجاف، شهدت الحركة الثقافية انتعاشة كبيرة تميزت بالخصوص بظهور أصوات جديدة في الشعر، وفي القصة، وفي النقد، وفي المسرح. إلاّ أن السيطرة على كل هذه المجالات كانت لمناصري الالتزام في الأدب والفن، والمدافعين عما اصطلح عليه بـ"الواقعية الاشتراكية" في صيغتها الجدانوفية. مع ذلك، برزت تيارات أخرى في المجالات المذكورة مناهضة ومنتقدة للالتزام ولـ "الواقعية الاشتراكية". ولعل فرقة "المسرح الجديد" التي كانت تضم يساريين قدماء هي التي بادرت بإشعال فتيل جدل ساخن بشأن دوغمائية اليسار، وسطحيته الفكرية، ونظرته الخاطئة لواقع البلاد. فعلت ذلك من خلال مسرحية "غسّالة النوادر" التي بدت وكأنها لا تُبشّر فقط بنهاية صيف جاف وحارق، بل أيضًا ببداية تحولات هامة في الثقافة التونسية في جميع تجلياتها. تحولات تقطع مع الدوغمائية اليسارية، ومع الأوهام الأيديولوجية.

وكانت مجموعة القيروان أول من فتح أفقًا جديدًا في الكتابة المتحررة من القوالب الجامدة، والمناهضة للالتزام في مفهومه الأيديولوجي الضيق. وقد يعود ذلك إلى أن هذه المجموعة انفتحت على الأدب العالمي، وعلى شعراء وكتّاب يرون في فعل الكتابة ذاته التزامًا بقضايا الإنسان بمختلف أشكالها.

وأتذكر أن الشاعر الفرنسي سان جون بيرس كان من أكثر الشعراء تأثيرًا في تلك المجموعة القيروانية، إلى جانب طاغور، وهولدرلين، والمتصوفة المسلمين مثل ابن الفارض، وابن عربي، وجلال الدين الرومي. وكان من الطبيعي أن يتجاوب محمد الغزي مع المجموعة القيروانية لأنه كان الأكثر تحررًا من الأفكار اليسارية، بل لعله لم ينجذب إليها مطلقًا حتى وإن كان يظهر بين وقت وآخر نوعًا من التعاطف البارد معها. ويعود ذلك إلى تربيته. فهو "ابن أمه" وليس "ابن أبيه" كما هي الحال في جلّ المجتمعات العربية التي ترى في الابن الخليفة الشرعي للأب. لذا عليه أن يتقيّد بكلّ مواصفاته في الشجاعة والأنفة تحديدًا لكي "يكون الشبل من ذاك الأسد". غير أن محمد الغزي كان قد فَقَد والده مُبكرًا ليكبر في ظلّ أمه التي تزوجت في سن المراهقة، والتي كانت تبتغي أن يكون ابنها الأكبر "حارس العائلة"، و"حاميها من نوائب الدهر". لذا كانت دائمة الحرص على نصحه بضرورة تجنب مغامرات الشباب غير المحسوبة العواقب، والابتعاد عن الطرق المحفوفة بالمخاطر، والتي تكثر فيها المزالق المهلكة. فكانت هذه الأم بمثابة "الملاك الحارس". وكان ابنها محمد يعود إليها في كل مرة تتعثر فيها خطاه، وفيها يشعر بفقدان التوازن، وبالضياع في دروب الحياة الشائكة: "كلّما همّ الليلُ/ يُجاذبني الحنينُ إلى مشية أمي/ بعد سنين من التشرد/ سنينَ من الظمأ/ سنينَ من الغربة/ سنين من التيه (...) فمنذ خرجتُ من ليلها الدافئ/ وأنا أرجفُ من البرد/ أرجف من الوحدة/ وأحدقُ حولي بعينين خائفتين وقلب واجف".  

ونحن لا نعثر على تأثير الأم فقط في سلوك محمد الغزي الوديع، والخجول، والنفور من العنف المادي واللفظي، بل نعثر على هذا التأثير أيضًا في قصائده المفعمة بالبراءة الطفولية، وبالحب في معناه الإنساني، وبالهدوء. فلا صخب ولا عنف ولا ادّعاء بالبلاغة ولا بالبطولة ولا بالفحولة، ولا بأيّ شيء آخر يتناقض مع عالمه الحميمي الذي تطغى عليه الأحلام في اليقظة في المنام هروبًا من واقع موسوم بالقسوة والمرارة: "قديمًا كان يأتي البحرُ حجرتنا/ وتأتي من وراء البحر مملكة/ سرب من نساء الزنج/ كانت حولنا الأعشاب تأتي دون أسماء/ وكان البحرُ يأتي لابسًا أسراره الكبرى/ فأهبطُ من سرير طفولتي مُبتهجًا/ أخضّ البحر مسكونًا بنار الدهشة الأولى". وفي قصيدة أخرى يقول: "عندما كنّا معًا في السابعة/ كنتُ أطبقتُ على النجم يدي/ ثم آويتُ إلى البيت حفيلًا/ عندما كنّا معًا في السابعة/ كنتُ في خلوتنا فتّحت كفي/ فإذا كفّي خُلو/ وإذا النجم الذي خبأته: قطرة ماء لامعة/عندما كنّا معًا في السابعة".


بهذه القصائد التي تحضر فيها الطفولة بأحلامها وبراءتها، وببهجة وعفوية اكتشافاتها الأولى للعالم المحيط بها، دخل محمد الغزي عالم الشعر بهدوء، وبخفّة ملاك، ولا رغبة له سوى أن يكون شاعر ذاته التي ترفض أن تكون صدى لأيّ شيء آخر خصوصًا للعالم الخارجي الذي ينجذب إليه شعراء آخرون لتزداد ذواتهم خواء وفراغًا وقحطًا. لذلك نحن لا نعثر في قصائد محمد الغزي على أي أثر لأحداث سياسية واجتماعية عاشتها تونس، أو العالم العربي، وبها اهتمّ الشعراء الآخرون، واحتفوا وتغنوا. حتى ما سُمّي بـ"ثورة الربيع العربي" التي شغلت كل الشعراء، وقدحت نار قرائحهم، نجدها غائبة في قصائد محمد الغزي لأنه معنيّ بذاته أولًا وأخيرًا: "سيظلّ ينوءُ بها مهما سَفَعته الشمسُ/ وجمّد كفيه صقيعُ الليل/ سيبقى دون الناس ينوءُ بها/ قد يتعثّر/ قد تخذله قدماه/ لكن لن يتركها/ لن يُلقيَها عن كتفيه/ سيبقى في تلك الطرقات الفظّة يحملها/ وهو يُمنّي النفسَ بأن طريق الظلمة أوشك/ وأن الصبح يكاد". من هذه الذات ينطلق محمد الغزي وإليها يعود دائمًا لمساءلتها ولكي يستوحي منها ما يضيء له المصير والطريق فتهمس له: "تعلمْ إذن أن ترى دُجى الليل أبعدَ ما يرى النسرُ/ أبعد مما يرى الذئبُ/ كل الرعاة الذين اهتديت بهم قد تولوا/ واعرضْ عنك رجال القيافة/ قلْ كيف تبلغُ تلك البلاد؟/ ومن ذا الذي سوف يدكّ خطاك/ تعلمْ إذنْ أن تشمّ الينابيع في الوصول إليها/ وأن تسمع العشبَ فالليلُ قد حلّ قبل الأوان/ فاحتشدْ للطريق إذن/ ولتكنْ بصرًا من حديد"...

منذ البداية كان واضحًا أن محمد الغزي قد اختار الطريق الذي سيسير فيه حتى النهاية. وهذا الطريق هو الذات، مع ذلك ليست الذات المنغلقة على نفسها، بل المنفتحة على العالم الخارجي لكن من دون أن تسمح له باحتوائها والسيطرة عليها لكي تكون في خدمته وتحت أمره. بل هي تنفتح عليه لكي تتغذى منه ولكي تزداد تعمّقًا في معرفته ودراية به وبأسراره وخفاياه من دون الذوبان فيه. وهذه الذات تكون دائمًا راضية عن نفسها حتى ولو أخطأت، وذاقت طعم الهزيمة، وخُذلت وأهينت. إنها الذات المعتزة بنفسها دائما وأبدا من دون تورّم أو غرور أو مُباهاة: "ربما كانت حياتي مَحْضَ مُسودّة/ محضَ كلام مُتعثّر/ محضَ عبارات غامضة/ محضَ تأتأة/ ربما/ لكني لن أصوّب أبدا أخطاءها/ أبدًا لن أقوّمَ ما تعثّر من كلامها/ أو أصوّبَ ما اختلّ من نظامها/ سأتركها كما هي واضحة غامضة/ أليفة غريبة/ طاهرة آثمة/ وسأهتف: تلك هي حياتي التي عشت".

وهذا الانغراس في الذات والعناية بها مثلما يعتني الانسان بحديقته الخاصة، أو بشيء عزيز عليه، قاد محمد الغزي إلى عوالم نادرًا ما تطرّق إليها شعراء تونسيون أو عرب... وها أنه يأخذنا إلى عالم لغة "ألأيّش والإرش"، ولغة "القطة تعوي في ليل غريزتها"، ولغة "الأنثى المُختضّة في ليل أنوثتها"، ولغة "الذكر الحارس ليل فحولته"، ولغة "الماء والأصداف على كفّ طفولتها". كما نرافقه في رحلة الخيول القديمة إلى "نينوى" وإلى "شاطبة"، وتلك التي "فتحت لنسَاطرة الليل أبواب نجران"، وتلك التي "علّمتنا معا أن نشيمَ على بابنا البرق قبل انعقاد السحاب"، وأن "نرى الأرض في قطرة ماء والكونَ في حبة من تراب"، وتلك الخيول التي "نشرت في اخضرار الرياح نواصيها وتغشّتْ مدائن أبعدَ مما أشتهى الراكبون". وفي ظلمة بئر حديقة البيت العائلي نحن "لا نُبصرُ أطيارا تتخافقُ بين حجارتها"، ولا "أطيارًا تتواثبُ في ظلمتها" ولا "ضوء الشمس"، ولا "رُعيان الصيف يعودون إلى البيتّ" إذ لا شيء فيها سوى "أصوات الصبية ما زالت بعد ثلاثين خلت تتجاوب في الظلمة". وفي رحلتنا معه إلى غرناطة نحن لا نعثر على أيّ أثر من أمجاد العرب القدماء، بل على "أنفاس الحجارة تصّاعد من كل الأرجاء". وما يسحر محمد الغزي ويفتنه ليس الكلمات التي تستهوي الشعراء، وبها تحتفي المعاجم بل الكلمات تلك التي لا "فصاحة فيها ولا ماء"، كلمات "ترعرعت في الشوارع والمخادع والدروب المسترابة"، كلمات "لم تروّضها قصائد الشعراء ولا أغاني الوشّاحين"، كلمات "نافرة، ناشزة، غريبة الطباع"،  كلمات "ولدت في أماكن نجهلها، و"تدحرجت من أفواه رجال لا نعرفهم"، كلمات من "سلالة الذئاب"، كلمات من "سلالة الأنهار والعواصف"، كلمات "سيئة السمعة أعرض عنها الشعراء"... تلك هي الكلمات التي يحبّ محمد الغزي البحث عنها وصيْدها لتكون حاضرة في  قصائده وعالمه الشعري الذي نادرًا ما نجد له مثيلًا لدى معاصريه من الشعراء التونسيين والعرب.

في خريف عام 2022، قال لي محمد الغزي ونحن في الطائرة إلى الرياض لحضور فعاليات معرض الكتاب، بأن الشاعر الحقيقي يصنع حداثته بنفسه. وكان على حق إذ أنه دأب منذ بداية مسيرته أن يظلّ وفيًّا لعالمه الخاص، وفيه واصل الحفر بإصرار وعناد. وكان مُلمًّا بالشعر العربي القديم والحديث بمختلف تياراته ومدارسه، كما أنه كان يمتلك معرفة واسعة بالشعر العالمي. إلاّ أنه سعى دائمًا إلى أن يُصيغ عالمه بأدواته الخاصة، وبلغته المشعّة مثل جوهرة في العتمة: "لستُ من حُذاق الشعراء/ أولئك الذين إذا نظموا انثالت عليهم الألفاظ/ وإذا تكلموا سحروا/ وإذا استعاروا فشلوا/ وأنّى أكون منهم/ أنا الذي ما زلت أخافُ من السطر الأول/ كما أخافُ من ظلام الليل/ وأخافُ من بياض الورقة/ كما أخاف من بياض الكفن". وفي قصيدة بعنوان: "الطريق ينشأ أثناء السير" مهداة إلى شاعر إشبيليه ماتشادو، يُقدّم لنا محمد الغزي رؤيته الخاصة لصورة الشاعر، ويقول بأنه ليس هناك أمام الشاعر حين يشرع في كتابة القصيدة "طريق يسلكه"، ولا "دربَ يتقفّاه". وهو مثل "المسافر في الليل العميم"، لا أحد قبله "سار في هذه البراري"، ولا أحد "خوّضَ في ظلامها". لذا ينصح محمد الغزي الشاعر الذي هو نفسه بأن يدعَ خطاه "تُسطّرُ الطريق شيئًا فشيئًا"، و"تشقّه رويدًا رويدًا"، و"تفتحه شبرًا بعد آخر". وإذا ما كان المتنبي وآخرون من الشعراء الأموات والأحياء يتباهون ويُفاخرون بقدرتهم الفائقة على ترويض الكلمات والأوزان ليكون الشعر أداة طيعة، ولعبة سهلة، يقرّ محمد الغزي بأنه يظل "يُحوّمُ فوق القصيدة كطائر جارح"، وعلى إثرها "يعوي كابن آوى"، وحولها "يصرخ كوعل جريح". وهو "يتقفّى خطوها حتى البراري المطيرة"، وحتى "الوديان السحيقة". وفي النهاية "يرجع خائبًا صفر اليدين"، حزينًا كـ"دالية المعري"، حزينًا كـ"قافية النون"، حزينًا كـ"ليل النابغة". وحين ينال منه الإجهاد والتعب في كتابة القصيدة، يُخاطبُ إمرؤ القيس قائلًا: "يا امرأ القيس/ أيها الضليل الهادي/ أرني كيف أحوّل هذا الخلاء الموحشَ/ إلى قصيدة بهيجة/ مثلما كنت تفعل دائمًا". وخلافًا للشعراء الآخرين الذين لا يُتعبون أنفسهم في البحث عن مواضيع لقصائدهم إذ أن العالم الخارجي بأحداثه المتلاحقة والمتسارعة يُوفرها لهم فينقضّون عليها انقضاض الطيور الجوارح على أشلاء الجثة الملقاة في الخلاء، لتكون القصائد التي يكتبونها من وحْيها مُتشابهة، تكرّر بعضها البعض مثلما هي حالهم مع المأساة الفلسطينية، نرى أن محمد الغزي يجد نفسه في كل مرة يشرع فيها في كتابة قصيد جديد أمام "فراغ مفتوح كالقبر"، و"غائر كجرح"، و"بارد كالكفن"، و"موجع كالوحدة". لذلك ينشغل بجمع الكلمات لكي يملأ الفراغ شيئًا فشيئًا، ولكي يردمه كما "تُرْدم البئر"، وكما "تُردم هوّة سحيقة"، وكما "تُردم ذكرى قديمة". وفي النهاية يُعلن انتصاره على الخواء مثلما كان مالارميه يُعلن انتصاره على البياض.

مثل هولدرلين، ووالت ويتمان، وريلكه، وطاغور، وسان- جون بيرس، كان محمد الغزي ينصت إلى عالمه الداخلي مُلتقطًا كل أحلامه، وهواجسه، ومخاوفه، واضطراباته. ومن وحي كل هذا كان يكتب أناشيده وقصائده من دون تسرّع أو صخب لتكون شبيهة بخرير الماء في أعماق الوادي، وبحفيف جناحي ملاك يُحلق حرًّا طليقًا في سماء الشعر...    

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.