}

الاستعارات تصنع العالم

ترجمات الاستعارات تصنع العالم
(Getty)
ترجمة: سارة حبيب
تشكّل الاستعارات المحبوكة ضمن نسيج اللغة كيفية فهمنا للواقع. فما الذي يحدث عندما نحاول استخدام استعارات جديدة؟ 

"اللغة شعرٌ أحفوريّ. وكما أن الحجر الكلسي للقارة مؤلفٌ من عدد لا نهائي من أكوامِ قواقع الحيوانات المجهرية، كذلك اللغة مصنوعةٌ من صور، أو مجازات، كفّت الآن، باستخدامها الثانوي، ومنذ أمد بعيد، عن تذكيرنا بأصلها الشعري".
[من مقالة "الشاعر" (1844) لِرالف والدو إمرسون]

"الاستعارات...تصبح أكثر حَرفيّة مع اضمحلال جِدّتها".
[من كتاب "لغات الفن" (1976) لِنيلسون غودمان]

إذا كان رالف والدو إمرسون مُحقًا في أن "اللغة شعر أحفوريّ"، فالاستعارات بلا شك تمثّل جزءًا هامًا من هذه المخلّفات اللغوية. على سبيل المثال، واحدة من المستحاثات اللغوية المحفوظة جيدًا بصفة خاصة نجدها في المسلسل التلفزيوني الساخر فيب (نائبة الرئيس): بعد إجراء مقابلة ناجحة مُعدّة لتحويل انتباه الجمهور عن أزمة دبلوماسية مُحرجة، تعقّب نائبة الرئيس الأميركي ــ التي تصورها هنا الرائعة جوليا لوي دريفوس ــ قائلة لهيئة موظفيها: "لقد تلفظتُ بكثير من القذارة. أنا في حاجة إلى نعنع معطّر للفم".
الاستعارات، عندما تُستخدم بشكل صحيح، تحسّن الحديث. لكنّ وضع جرعات التوابل الاستعارية في طبخةِ اللغة بشكل صحيح ليس بالمهمة السهلة. فالاستعارات "لا يجب أن تكون صعبة التصديق، وإلا ستكون صعبة الفهم، ولا أن تكون واضحة، وإلا لن يكون لها أي تأثير"، كما سبق أن أشار أرسطو قبل 2500 سنة تقريبًا. لهذا السبب، يُعتقد عمومًا أن الفنانين ــ أولئك المُحسّنون البارعون للتجربة ــ هم مستخدمو الاستعارات الخبيرون، الشعراء والكتّاب على وجه الخصوص.
لكن، لسوء الحظ، ربما يكون هذا الارتباط مع الفنون هو ما أعطى للاستعارات سمعة من الدرجة الثانية عند كثير من المفكرين. على سبيل المثال، رأى فيها الفلاسفة تاريخيًا استخدامًا غير ملائم للغة. ولا تزال إحدى صيغ هذه الفكرة ذاتَ تأثير كبير في كثير من الأوساط العلمية: إذا كان ما نهتم به هو المحتوى الدقيق لجملة ما (كما هو الأمر عادة في العلم) فالاستعارات ليست إلا تشتيتًا للانتباه. بالمثل، إذا كان ما نهتم به هو تحديد كم تُعتبر وجبة ما مغذيةً، فإن طريقة تقديمها على الطبق لا يجب أن تؤثر في هذا الحكم ــ بل لعلها تجعلنا متحيزين.
بحلول النصف الثاني من القرن العشرين، بدأ بعض الأكاديميين (لا سيما ذوي التوجه النفسي) بقلب هذه الفكرة رأسًا على عقب: انتقلت الاستعارات ببطء من كونها تُعدُّ أدوات لغوية غير ملائمة، إنما لا بدّ منها، إلى كونها بنى تحتية ضرورية لنظامنا المفاهيميّ.
كان اللغوي جورج لايكوف والفيلسوف مارك جونسون هما من مهدّا الطريق لذلك. ففي كتابهما الهام "الاستعارات التي نحيا بها" (1980)، يؤكدان أن "معظم نظامنا المفاهيمي العادي استعاريٌّ في طبيعته". وما يعنيانه بهذا هو أن نظامنا المفاهيمي يشبه هرمًا توجد العناصر الأكثر ملموسيّة (مادية) في قاعدته. من المرشحين لهذه المفاهيم التأسيسية الملموسة (أو "الحرفيّة") هي تلك المفاهيم التي تعود إلى الأشياء المادية التي نصادفها في حياتنا اليومية، مثل مفاهيم الصخور والأشجار. بالتالي، هذه المفاهيم الملموسة تشكّل أساس البناء الاستعاري لمفاهيمَ أكثر تجريدًا تعلوها في الهرم.
يبدأ لايكوف وجونسون من الملاحظة القائلة بأننا نتحدث عادة عن المفاهيم المجردة كما نتحدث عن المفاهيم الحرفيّة. على سبيل المثال، نتحدث عادة عن الأفكار ــ مفهوم مجرد لا نستطيع رصده بشكل مباشر ــ باللغة ذاتها التي نستخدمها للحديث عن النباتات؛ مفهوم حرفي ذي خصائص عديدة قابلة للرصد. قد نقول عن فكرة مثيرة للاهتمام "إنها مثمرة"، وقد نقول إن شخصًا ما "غرس بذور" فكرة في رؤوسنا، وإن فكرة سيئة "ماتت على كرمها" (ما يعني أنها فشلت في بدايتها).

نيلسون غودمان: "الاستعارات... تصبح أكثر حَرفيّة مع اضمحلال جِدّتها"

لا يقتصر الأمر على أننا نتحدث بهذه الطريقة: يجعلنا لايكوف وجونسون "نفهم" حقًا، ونصل إلى استنتاجات حول، المفهوم (المجرد) لفكرة من خلال فهمنا الأكثر ماديّة لمفهوم النبتة (الملموس). ويستنتجان أن ما يدور في ذهننا هو الاستعارة المفاهيمية "الأفكار نباتات"*. (في الاستعارة المفاهيمية يأتي المفهوم المجرد أولًا، ثم يُعطى بنية بالمفهوم الثاني).
يوضّح لايكوف وجونسون هذا الأمر أكثر من خلال المثال التالي. في الإنكليزية، عادة ما يُعطى مفهوم النقاش المجرد بنية استعاريًا من خلال مفهوم الحرب الأكثر مادية: نقول إننا "ربحنا" أو "خسرنا" نقاشات، وإذا اعتقدنا أن الطرف الآخر يقول هراءً، نقول إن مزاعمه "لا يمكن الدفاع عنها"؛ وقد نلاحظ "خطوطًا ضعيفة" (مثل الخطوط في الجيش) في نقاشه. وهذه التعابير مستمدة من فهمنا للحرب؛ مفهوم نحن على دراية به على نحو يثير القلق.
إن جِدّة الطرح الذي يقدمه لايكوف وجونسون لا تكمن في ملاحظة كلية وجود اللغة الاستعارية، بل في التأكيد على أن الاستعارات تتجاوز الحديث العرضي: "الكثير من الأشياء التي 'نفعلها' في النقاش تُعطى بنية جزئيًا بمفهوم الحرب". ومن أجل ملاحظة هذا، يقترحان استعارة مفاهيمية أخرى: "النقاش رقصة". الرقص بلا شك نشاط أكثر تعاونية من الحرب؛ هدف النقاش وفق هذا التأطير لن يكون "ربح" النقاش، بل صنع منتَج أو أداء نهائي مُرض يستمتع به كلا الطرفين. بالتالي، ديناميكيات كيفية تفكيرنا بنقاش ما ستكون مختلفة للغاية وفق هذا التأطير. وهذا يبرز دور الاستعارات في خلق واقع بدلًا من مجرد المساعدة في تمثيله.
هكذا، تقدم الاستعارات كما يبدو أساسًا لكيفية مَفْهمة (وضع مفاهيم) المفاهيم المجردة (وبالتالي، مفهمة معظم العالم). مع ذلك، لا يمكن لاستعارة واحدة أن تعطي بنية للمفاهيم المعقدة إلا على نحو جزئي؛ عادة تُستخدم أكثر من واحدة. لنأخذ مثلًا مفهوم الحب الرومانسي. واحدة من الاستعارات المفاهيمية الشائعة في عدد من اللغات هي: "الحب الرومانسي رحلة". من الشائع القول إن العلاقة "على مفترق طرق" عندما يكون ثمة حاجة لاتخاذ قرار مهم، أو أن البشر "يذهبون في طرق مختلفة" عندما يفترقون. (قصيدة شارل بودلير "دعوة إلى السفر" (1857) هي لعب لافت للنظر على هذه الاستعارة المفاهيمية، ففيها يدعو المتحدث امرأة إلى رحلة مجازية وحرفية). فضلًا عن ذلك، هذه المفهمات الاستعارية تؤثر إلى حد كبير على كيفية تصرفنا في العلاقة: من دون فكرة مفترق الطرق في علاقتي، ما كنت ربما لأفكر بالحاجة إلى حوار جدّي مع شريكتي حول وضعنا.




لكن الحب، الذي هو مهم جدًا لحياة البشر، يُعطى بنية جزئيًا باستعارات أخرى كثيرة لا تحصى. واحدة من الاستعارات الأخرى الشائعة ــ التي صارت ربما أحفورية بفعل قصيدة أوفيد التي تحمل العنوان ذاته ــ هي "الحب الرومانسي حرب". من الشائع أن نقرأ أن أحد الطرفين "ينتصر على" الآخر، أو "يكسب أرضًا" (بمعنى يحرز تقدمًا في المعركة) من طرف كان ممانعًا في البداية، وأن يد إحداهن يمكن أن "تُكسب" للزواج. (مع هذا المثال، نرى سلفًا أن التأطيرات الاستعارية المنتشرة يمكن أن تكون ذات معان مبطنة كارهة للنساء وسهلة الاكتشاف).
للسؤال الأبدي "ما هو الحب؟"، تقدم نظرية الاستعارة المفاهيمية هذه الإجابة: الحب حزمة من الاستعارات التي تُستخدم لمَفْهَمته. "الحب رحلة"، و"الحب حرب"، مثالان عن هذه الحزمة وهما يبرزان جوانب مختلفة لمفهوم الحب ويخلقان جوانب مختلفة له.
يعرف أي متحدث أن اللغة التي نستخدمها ذات أهمية، وأن ثمة تغذية راجعة معقدة بين اللغة التي نتحدثها والأفكار التي نفكر بها. والدراسات التجريبية تدعم هذه البداهة: مع وجود استعارات مفاهيمية مختلفة في الذهن، سيميل الناس إلى اتخاذ قرارات مختلفة في السياق ذاته (وهو مؤشر معقول على أنهم يُضمرون مفاهيم مختلفة).
في واحدة من هذه الدراسات، عُرض تقرير عن ارتفاع معدل الجريمة في مدينة ما على مجموعتين. تسلّمت إحدى المجموعتين تقريرًا يبدأ بعبارة: "الجريمة فيروس يجتاح المدينة"، في حين تسلّمت المجموعة الأخرى تقريرًا يبدأ بعبارة: "الجريمة وحش يجتاح المدينة". هكذا، هُيَّئت المجموعتان لأن تعطيا بنية استعارية لمفهوم الجريمة باستخدام مفهومين مختلفين: فيروس، أو وحش. بعد ذلك، سُئلت المجموعتان حول التدابير التي ستطبقانها لحلّ مشكلة الجريمة. وكان أولئك الذي هُيئوا لتكون لديهم الاستعارة المفاهيمية "الجريمة وحش" أكثر ميلًا لأن يوصوا بتدابير عقابية، مثل زيادة قوة الشرطة ووضع المجرمين في السجن (مثلما يُفترض أن نضع الوحش في قفص). أما أولئك الذين هُيئوا لأن يفكروا بـ"الجريمة فيروس"، فقد نزعوا لاقتراح تدابير ترتبط بعلم الأوبئة: احتواء المشكلة، تحديد السبب ومعالجته، تطبيق إصلاحات اجتماعية. والجدير بالملاحظة هنا أن المشاركين في الدراسة لم يكونوا مدركين لأثر هذه التأطيرات الاستعارية على خياراتهم. فعندما سُئلوا عن سبب اختيارهم للحلول التي اختاروها، فإن مَن أجابوا "عمومًا حددوا إحصائيات الجريمة، التي كانت هي ذاتها لكلا المجموعتين، بوصفها الجانب الأكثر تأثيرًا من التقرير، وليس الاستعارة".
الجريمة ليست قيمة شاذة (حالة خاصة) هنا: تشير دراسات ذات إعدادات مماثلة إشارة واضحة إلى أن اختيار الاستعارات المفاهيمية يؤثر بشكل كبير على آراء الأفراد وقراراتهم في مجموعة متنوعة من السياقات. يشمل هذا، من بين أمور أخرى، كيفية رؤية الناس لخطر التغيير المناخي، مواقفهم تجاه الشرطة، وعملية اتخاذ قراراتهم المالية.
تتضح أهمية الاستعارات والتفكير التشبيهي أكثر عند الأطفال. إن دراسة الاستدلال التشبيهي اليوم برنامج بحثي مزدهر، ويتصدرها عمل العالمين في العلوم الإدراكية ديدر غنتنر وكيث هوليواك. ثمة أدلة كثيرة على أهمية استخدام التشبيه في تطور الأطفال؛ تشير الدراسات إلى أن التفكير العلائقي ــ الضروري لصنع التشابيه ــ يتنبأ بنتائج اختبارات الأطفال ومهارات الاستدلال عندهم. ورغم أن الكثير من هذه الدراسات لا تزال بحاجة إلى أن تُكرَّر، يبدو أن الاستعارات تشكّل الدماغ حرفيًا.
ليس من المبالغة القول كذلك إن الاستعارات تشكّل دعامة للعلم؛ ذلك النظام المفاهيمي لتنظيم المعرفة. في "القطبية والتشبيه" (1966)، وهي دراسة مذهلة عن استخدام التشابيه والاستعارات في العلوم الإغريقية، يقدّم المؤرخ السير جيفري لويد حجة مقنعة دفاعًا عن أهمية التشابيه في توجيه بدايات الفكر العلمي. على سبيل المثال، يُظهر لويد كيف أن ضروب التشبيه بالمنظمات السياسية شكّلت الآراء حول الكون. واحدة من المقاربات النموذجية الإغريقية للعالم تضمنت افتراض عناصر أساسية، ومن ثم شرح كيفية تفاعلها (اشتهر أمبادوقليس بكونه اقترح أن العناصر الأربعة الأساسية هي النار، الهواء، الماء، التراب). للمساعدة في تحديد العلاقات بين هذه العناصر، كان أولئك العلماء القدماء يستدعون تشابيه بنظمهم السياسية. تقول واحدة من الاستعارات المفاهيمية الشهيرة المستخدمة أن: "الكون مَلكيّة"، حيث يتمتع عنصر واحد بسلطة أعلى من البقية. ولا تزال هذه اللغة تُستخدم في الفيزياء الحديثة، إذ نسمع أن قوانين الكون "تحكم" عالمنا. واحدة من الاستعارات المفاهيمية الشائعة الأخرى هي أن "الكون ديمقراطية"؛ يعد هذا التأطير، الذي لم يظهر إلا بعد إرساء الديمقراطية في أثينا، أن العناصر الأساسية تتساوى في المنزلة والوظيفة، مع وجود نوع من الاتفاقية في ما بينها.

رالف والدو إمرسون: "اللغة شعرٌ أحفوريّ" (Getty)

ليس هذا الاستخدام للاستعارات السياسية أسلوبيًا فحسب. يكتب لويد: "مرارًا وتكرارًا عند ما قبل السقراطيين وعند أفلاطون، كانت طبيعة العوامل الكونية، أو العلاقات في ما بينها، تُفهم كحالة اجتماعية أو سياسية ملموسة". من وجهة نظر نظرية الاستعارة المفهومية، يبدو هذا منطقيًا: من أجل فهم مفهوم جديد، مجرد وغير مرئي (عناصر الكون الأساسية)، من الطبيعي فحسب أن يشبّهها هؤلاء المفكرون بظواهر كانت لهم تجربة مباشرة معها (مؤسستهم العسكرية).
إن الاستعارات والتشابيه ليست مجرد أدوات للعلم القديم، بل هي كذلك آلات حيوية للأوركسترا العلمية المعاصرة. إنها تساعد على صياغة النظريات وتأطيرها: الاستعارات السياسية، كتلك التي استخدمها الإغريق، تتكرر في علم الأحياء الحديث الحافل بلغة "النواظم"، مُستدعيةً بهذا الهيئات التنظيمية الموجودة اليوم في الحكومات الحديثة. تُبرز هذه الاستعارات نظام الضوابط والتوازنات الموجود ضمن النظم البيولوجية المعقدة، لتوازي بهذا طريقة حفاظ النواظم الحكومية على النظام في مجالاتها المعنية. الاستعارات العسكرية شائعة أيضًا: كثيرًا ما يُصوَّر الجهاز المناعي على أنه جيش يحمي الجسم من مسبّبات الأمراض "التي تجتاحه". كذلك، كثيرًا ما تُشبَّه المسارات الأيضية بالطرق السريعة، المزودة بـ"طرق فرعية"، والتي يكون فيها أحيانًا "حواجز طرق"، أو "ازدحام حركة سير"، كما أشارت الفيلسوفة لورين روس.
كذلك، التشابيه أساسية لتوليد فرضيات جديدة (ما قد ندعوه الابتكار العلمي). أحد الأمثلة اللافتة للنظر هو فكرة الانتقاء الطبيعي عند تشارلز داروين، التي توصّل إليها بإجراء مقارنة مع الممارسات الانتقائية للمزارعين. يمكن تصريف التشبيه كالتالي تقريبًا: تختار الطبيعة الكائنات الحية على أساس الملاءمة بطريقة مشابهة لاختيار المزارعين لأفضل المحاصيل على أساس المذاق، المقاوَمة للأمراض، وخاصيات أخرى.
نظرًا لطبيعة عقولنا الاستعارية، يجدر بنا أن نتساءل: هل استعاراتنا المفهومية في محلّها؟ نحن مدينون لأنفسنا وللآخرين بأن نتأمل في مدى ملاءمة الاستعارات التي نستخدمها لتأطير العالم. فهذه الخيارات ــ سواء كانت واعية أم لا ــ يمكن أن تكون بنّاءة، أو كارثية.
لننظر في الخطاب الاستعاري بين الأطباء والمرضى في مجال رعاية مرضى السرطان. تشكّل هذه المحادثات كيفية حكم المرضى على تجربتهم، وبالتالي تؤثر حتمًا على عافيتهم. استعارات الحرب واسعة الانتشار، وهو ما يقول كثيرًا عن ثقافتنا. ومن غير المفاجئ أن مجال العناية بمرضى السرطان ليس مختلفًا: غالبًا ما يُقال إن المرضى "يخوضون معركة" مع السرطان ويُحكَم عليهم حسب "روحهم القتالية". لكن البحوث تشير إلى أن هذه الاستعارة المفاهيمية تسبّب ضررًا حقيقيًا لبعض المرضى. على سبيل المثال، وجدت طبيبة الرعاية التسكينيّة في جامعة ستانفورد‏ فيجي يانثي بيرياكويل أن "تفضيل المرضى لرفض خيارات علاج عقيمة، أو مضرّة، يصبح الآن مرادفًا لانسحاب جبان من أرض المعركة، ويمكن أن يُنظَر إليه كفعل مشين ارتكبه المريض". بكلمات أخرى، المريض الذي هو سلفًا مشغول البال بالموت جرّاء مرضه قد يشعر بعار إضافي ــ قاس وغير ضروري ــ بسبب عدم الاستمرار "بالقتال".
تحثّ مقالة مراجعة في طب الأورام الممرضات والأطباء على إعادة التفكير بفائدة هذه الاستعارة ذات الطابع العسكري. والبديل المقترح هو استخدام الاستعارة المفاهيمية "السرطان رحلة" لتأطير تجربة المريض. إن إعادة صياغة مفهوم السرطان بهذه الطريقة يؤدي إلى أفكار مختلفة: السرطان ليس معركة يجب الانتصار فيها، بل هو طريق فردي وفريد يتوجب اجتيازه؛ تجربة المرض ليست شيئًا ينتهي (كما تنتهي الحرب عادة) بل هي عملية مستمرة لا تنتهي (مع زيارات دورية للمستشفى لمراقبة أي انتكاسة).
أيّ إعادة هندسة مفاهيمية مقترحة بحاجة لأن تُختبَر لنرى إن كانت صالحة فعلًا على نحو أفضل من التأطير السابق. ويبدو أن هذا ينطبق على استعارة الرحلة: المرضى الذين أعادوا تأطير تجربتهم مع السرطان بهذه الطريقة كانت لهم نظرة مستقبلية أكثر إيجابية، مع ازدياد في العافية عمومًا، ونمو روحي تم الإبلاغ عنه. (أظن أن تغييرًا مماثلًا في العقلية سيفيد كثيرًا أولئك الذين يعانون من أمراض صحة عقلية وأمراض مزمنة، بما أن هذه الأمراض هي حتى فئات مختلفة والحاجة "لمحاربتها" أقلُّ وضوحًا؛ إنها بالأحرى تجارب على المرضى أن يعيشوا معها، غالبًا لبقية حياتهم).




الوضوح في كلا الغايتين اللغويتين ــ للمريض والطبيب، أو، على نحو أعم، الخبير وغير الخبير ــ حول أيّ استعارات تُستخدم لمفهمة المرض هو أمر حاسم: متحاوران يتكلمان حول ما يعتقدان أنه المفهوم ذاته، لكن كلًا منهما يؤطر ذلك المفهوم باستعارة مختلفة، هي وصفة لسوء التواصل. ويمكن لسوء التواصل أن يكون مؤلمًا، لا سيما حين يعاني أحد الطرفين مرضًا يستنزف بشدة كل جانب من كينونته.
يجب علينا أيضًا أن نشكّك بالتأطير الاستعاري الحالي للتحديات المجتمعية المعقدة؛ في صحيفة "نيويورك تايمز" عام 2010، يحذّر العالم الاقتصادي بول كروغمان من أن "الاستعارات السيئة تُنتج سياسة سيئة". وجائحة كوفيد ــ 19 خير دليل على ذلك: مع تفشي فيروس كورونا، لوحظ أيضًا ظهور ترند الممارسة قديمة العهد التي تتضمن استخدام استعارات حربية للحديث عن الأوبئة. وشملت بعض العبارات الشائعة: "الممرضات في الخنادق"، العاملون في مجال الرعاية الصحية بوصفهم "خط الدفاع الأول"، وإعلان السياسيين أن الأمة في حالة "حرب" ضد عدو غير مرئي.
عند إجراء فحص أول، قد يبدو أن استعارات الحرب تعبّر عن هول الحالة وتحشد الناس للتحرك. لكن من المهم في مثل تلك الحالات أن نأخذ بعين الاعتبار العواقبَ غير المقصودة التي ترافق أي خيار تأطير استعاري. الحرب، على سبيل المثال، تتطلب بالعموم عملية حشد مكثف للتحرك في أنحاء البلاد، في حين أن الأوبئة تتطلب من أغلبية السكان أن يبقوا في بيوتهم وألا يفعلوا أي شيء. من المعروف أيضًا أن استعارة الحرب تزيد المشاعر العنصرية، وهو شيء لاحظناه خلال جائحة كوفيد ــ 19.
اقترح بعض اللغويين، كبديل عن ذلك، أن استعارة أكثر ملاءمة ستكون مفهمة الجائحة لتصبح "الجائحة نار"، بما أن هذا يؤكد على إلحاحية الأزمة الصحية وقدرتها التدميرية، ويتجنب بعض مثالب استعارة الحرب. لكن، لا يعني هذا القولَ إنه من الخطأ، أو غير الأخلاقي، أن يكون في ذهننا أن "الجائحة حرب"؛ ربما يكون تأطير الحرب في الحقيقة هو الأفضل لحشد الناس، وحثّهم على البقاء في منازلهم خلال طوارئ الجائحة. المقصد، بالأحرى، هو أن معرفة المشاكل المحتملة لتلك الاستعارة يجب أن يحثّنا على استخدامها بمزيد من الاحتياطات.
كذلك، يجب أن يكون واضحًا أن القوة التي ينطوي عليها اختيار استعارة (استعارات) في إعطاء بنية لأفكارنا تجعل تلك الأداة عرضة لأن تُقرصَن من قبل المحتالين والسياسيين ليدعموا أجنداتهم الخاصة. على سبيل المثال لا الحصر، استخدم دونالد ترامب عام 2017 صيغةً من حكاية إيسوب عن "المزارعة والأفعى" ليؤطر المهاجرين استعاريًا على نحو سلبي. تروي الحكاية أن مزارعة، في طريقها إلى المنزل، تجد أفعى مريضة تتجمد بردًا. فتشفق المرأة على تلك المخلوقة، وتحضرها للمنزل وتبقيها دافئة. ثم، في طريق عودتها من العمل في اليوم التالي، ترى أن الأفعى قد استعادت عافيتها. فتستحوذ عليها السعادة، وتحضن الأفعى. الأفعى، في المقابل، تعضها عضّة مميتة. تسأل المزارعة الأفعى: لماذا فعلتْ مثل هذا الشيء؟ فتقول الأفعى، من دون شعور بأي ندم: "لقد كنتِ تعرفين جيدًا أنني أفعى قبل أن تستقبليني". بقراءة هذه القصة للعلن في خطابه، برمجَ ترامب الجمهورَ على أن يُمفهِموا أن "المهاجرين أفاعٍ"، وأن "الولايات المتحدة امرأة". تقدّم الفيلسوفة كَاثَرينا ستيفنز حجة مقنعة على أن ترامب استخدم هذه الحكاية ليدعم الاعتقاد القائل بأن المهاجرين خطر على الأمن القومي (تمامًا كما أن الأفعى هي خطر على المرأة).

"يمكن للاستعارات أن تقتل"!
يمكن للاستعارات أيضًا أن تؤبّد لغة تنزع الصفات الإنسانية فتمهدَ الطريق المفاهيمي لأسوأ أنواع الفظائع البشرية. خلال الإبادة الجماعية في رواندا، لعبت محطة الراديو الرئيسية في البلاد دورًا رئيسيًا في تأطير كيفية رؤية غالبية سكان البلاد من الهوتو للأقلية من التوتسي: استخدمت المحطة مرارًا استعارات تنزع الصفات الإنسانية عن التوتسي؛ واحد من الأمثلة المشهورة هو تشبيه التوتسي بالصراصير. وعندما تصبح مثل تلك الاستعارة مذوّتة للغاية لدرجة أن تعطي بنية لمفهوم الناس عن مثل تلك المجموعة، ينتج عن ذلك تقريبًا مباشرة رغبة الناس بالتخلص منها (تمامًا كما سيفعلون مع صراصير حقيقية). وذلك ما حدث. لا تكمن القوة المرعبة الخاصة للاستعارات المفاهيمية في التسبّب بالنظر إلى مجموعة على نحو سلبي ومن ثم، لتأكيد وجهة النظر هذه، الإشارة للمجموعة باستعارات تنزع الصفات الإنسانية عنها. بالأحرى، القوة المرعبة هي أن البناء الاستعاري المستخدم لتأطير مجموعة معينة هو في المقام الأول السبب في أن المجموعة الأخرى تراها بتلك الطريقة. لقد كان لايكوف محقًا عندما حذّر من أنه "يمكن للاستعارات أن تقتل".
لنفترض أننا نلاحظ إضمارنا مفاهيم يسبّب أساسها الاستعاري الأذى. هل يمكننا فعلًا أن نعيد بناء المفهوم بأساس استعاري مختلف؟ يعتقد لايكوف وجونسون ذلك؛ أتمنى أن يكونا على صواب، حتى لو كان فعل ذلك ليس بالمهمة السهلة.
الخطوة الأولى هي ملاحظة الاستعارة؛ إنها ليست واضحة دائمًا. واحدة من طرق إعادة بناء جزء من تاريخ الفكر النسوي هي القول إن المفكرين اكتشفوا الاستعارة المؤذية التي تقوم بتأطير النساء كأشياء في البنية المفاهيمية للمجتمع البطريركي حولهن. ومن بين أولئك الذين نوّهوا إلى الاستعارة المفاهيمية واسعة الانتشار القائلة بأن "النساء أشياء" كانت النسوية أندريا دوركين التي كتبت أن "التشيييء يحدث عندما إنسان... يُجعَل أقلّ من إنسان، يُحوَّل إلى شيء أو سلعة". ورغم أنه في الخطاب المعاصر ثمة إقرار بأن هذه المفهمة منتشرة (عن وعي أو عن غير وعي)، في وقت كتابة "كراهية المرأة" (1974)، تؤكد دوركين صراحةً الحاجة إلى جعل الناس مدركين لها.
ما أن توضِّح الاستعارة المفاهيمية صراحة، تكون الخطوة التالية هي مناقشة سبب كونها مكروهة وبحاجة إلى تغيير. مع التشيييء، تنشأ كثير من المشاكل الأخلاقية؛ يتناقص استقلال المرأة بشكل ملحوظ ما يمكّن ديناميكيات سلطة غير متوازنة. وهذا ضرر بالغ في حاجة إلى علاج ملحّ. لذلك، من أجل مقاومتها، بحثت كاتبات نسويات عن سبب هذه المفهمة الاستعارية وسعين ــ ولا يزلن يسعين ــ لتفكيكها. (ترى دوركين وزميلتها النسوية كاثرين ماكينون أن الإباحية سبب رئيسي، رغم أن هذه الفكرة تم تفنيدها من قبل مفكرين آخرين).
بقدر ما تكون الاستعارة متجذّرة في العقل الجمعي، يكون استبدالها أصعب. لكن، حتى عندما تترسخ، يمكن أن يكون للتغييرات الصغيرة آثار مهمة. واحد من الأمثلة عن تلك التغييرات البسيطة قامت به "الغارديان": عام 2019، غيّرت الصحيفة دليل الأسلوب الخاص بها لتنصح الكتّاب باستخدام تعبير "أزمة" مناخية، أو "طوارئ" مناخية، بدلًا من "تغير" مناخي. وبرّرت رئيسة التحرير، كاثرين فاينر، ذلك بالإشارة إلى أن اللغة الحالية بدت "سلبية ولطيفة بعض الشيء قياسًا إلى أن ما يتحدث عنه العلماء هنا هو كارثة للبشرية". هذا النوع من التغيير في اللغة يمكن أن يغيّر ببطء كيفيةَ فهم القرّاء لهول الحالة المناخية.
لا يزال ثمة حاجة للقيام بكثير من البحث. كيف بوسعنا مثلًا أن نعرف في ما إذا كانت استعارة مفاهيمية تقوم بما نريده منها؟ أيّ سمات تشترك بها الاستعارات المفاهيمية البديلة الجيدة؟ وكيف بوسعنا أن نفكّك بنجاح الاستعارة التأسيسية لمفهوم ما؟ بعض الاستعارات المؤذية سيكون تحرير أنفسنا منها أصعب من غيرها؛ لكن، الخطوة الأولى الأكثر أهمية هي أن نكون مدركين لكون المفهوم الذي لدينا مبنيّ استعاريًا. ولا بدّ من أن يكون إيجاد هذه الاستعارات المؤذية، في كثير من الحالات، سهلًا إلى حد ما: في آخر الأمر، كما يلاحظ الفيلسوف نيلسون غودمان، "الاستعارة تتغلغل في الخطاب كلّه، العادي منه والخاص، ولا بدّ أننا سنواجه صعوبة في إيجاد فقرة حرفية بحتة في أيّ مكان".
الاستعارات محبوكة (استعاريًا) في نسيج لغتنا وتفكيرنا، وهي تشكّل كيفية فهمنا للمفاهيم المجردة وكيفية تعبيرنا عنها. لذلك، علينا ألا نتردد في أن نستكشف بحذر استعارات بديلة، ونحكم إن كانت ستنجح أكثر. والجهد الجماعي لملاحظة الاستعارات التي نستخدمها وتغييرها ينطوي على إمكانية هائلة في تقليل الأذى الفردي والمجتمعي.

*يتبع كاتب المقال عُرف كتابة الاستعارة المفاهيمية كاملة بحروف كبيرة بالإنكليزية، ونستعيض عن ذلك في الترجمة، في أكثر من موضع، بالخط العريض مع علامات الاقتباس.

بنجامين سانتوس غينتا: حائز على إجازة في الفلسفة، ودرجة ماجستير من مركز ميونيخ للفلسفة الرياضية. مرشح لنيل درجة الدكتوراه في كلية المنطق وفلسفة العلم من جامعة كاليفورنيا، إرفاين. يركّز عمله بشكل رئيسي على التقاطع بين فلسفة العلم والعلوم الاجتماعية.

رابط النص الأصلي:
https://aeon.co/essays/how-changing-the-metaphors-we-use-can-change-the-way-we-think

مقالات اخرى للكاتب

ترجمات
19 أبريل 2024

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.