}

هل سيجعلُنا الذكاء الاصطناعي أغبياء؟

سايمون ونشستر 26 يونيو 2024
ترجمات هل سيجعلُنا الذكاء الاصطناعي أغبياء؟
قدّم Wall-E عام 2008 رؤية ديستوبية للعالم

ترجمة: لطفية الدليمي

المؤرّخون المعاصرون يعدّون سنة 1967 سنة مثقلة بوقائع مفصلية، ومنها مثلًا "حرب الأيام الستة" (الحرب الإسرائيلية العدوانية على الدول العربية في حزيران/ يونيو 1967- المترجمة)، صيف الحب (إشارة إلى الثورة الشبابية التي عمّت أوروبا- المترجمة)، إطلاق الألبوم الغنائي الشهير المسمّى Sgt Pepper لفرقة البيتلز الغنائية البريطانية ذائعة الصيت حينذاك، تسجيل الميتات الأولى لروّاد الفضاء الأميركيين خلال المراحل التجريبية للإعداد للرحلة المزمعة لأبولو إلى القمر، الإعلان عن اليوتوبيا شبه الحضرية في منطقة ملتون كينز Milton Keynes الواقعة على مسافة خمسين كيلومترًا إلى الشمال الغربي من لندن. في خضمّ هذه الوقائع، الاستثنائية، حصلت واقعة أخرى تكاد تكون شبه منسية اليوم رغم أنها قد تكون -ربما- الواقعة الأكثر أهمية بين كل الوقائع: اختراعُ الجهاز الأول الذي سمح لنا بالتوقّف عن استخدام جزء من عقولنا.

مهندسٌ شاب من مدينة دالاس، اسمه جيري ميريمان Jerry Merryman، منَحَنا هو وفريقه العامل في شركة Texas Instruments الحاسبة اليدوية الأولى التي تطوّرت لاحقًا إلى حواسيب متقدّمة. صار بمقدورنا لقاء 400 دولار أميركي حيازة واحدة من هذه الحاسبات الصغيرة - التي بحجم جيب البنطال-، وهي ليست سوى صندوق بلاستيكي صغير توجد على سطحه أزرار ورموزٌ يمكن لنا عند الضغط عليها تقديمُ جواب لحظي بدقّة فائقة لأيّ سؤال حسابي يخطر ببالنا. الأكثر أهمية من هذا هو أنّ هذه الآلة الاحتسابية كانت تؤدّي أعمالها بطريقة غير مرئية لنا. ربما كان المعداد The Abacus والمسطرة المنزلقة Slide Rule أدوات ساهمت من قبلُ في إختصار الكثير من الجهد العقلي لنا؛ لكنّها برغم هذا كانت تتطلبُ منّا بعض الجهد العقلي. حاسبة شركة تكساس أنسترومنتس الجديدة أزاحت عنّا العبء العقلي الاحتسابي بالكامل، وجعلت هذا الجهد شيئًا من ذكريات الماضي البعيد. أشباه الموصلات Semiconductors والخوارزميات Algorithms هما اللذان ساعدا ميريمان في تحقيق سحره مجسّدًا في هذه الآلة الحسابية الصغيرة، ثمّ تواصلت الإنجازات الساحرة وتعمّقت وتطوّرت كثيرًا على أيدي مهندسين آخرين امتلكوا مثل براعة ميريمان وقدرته، وعملوا بلا هوادة على تحويل الأفكار إلى مصنّعات مرئية باهرة.

ربما تكون مواهب ميريمان وطموحاته هو ونظراؤه هي ما تطلّعنا إليه بحرارة عبر سنوات بعيدة. تستطيع عقولنا الآن أن تنعم باسترخاء غير مسبوق. تبدو المقارنة في هذا الشأن غير ممكنة وخاسرة منذ البدء. لنتصوّرْ مثلًا حجم الجهد العصبي الذي ستبذله خلايا أدمغتنا عندما نريد قراءة خريطة وتحديد مواقع محدّدة عليها مستعينين بالبوصلات وأجهزة تحديد المسافات الدقيقة (الكرونوميترات). اليوم صار بمستطاع نظام تحديد المواقع GPS تزويدُنا بكلّ الاتجاهات التي نحتاجها وتحديد موقعنا بأعظم دقّة متصوّرة. مثالٌ ثانٍ: لو كنّا غير واثقين من كيفية لفظ كلمة أو الطريقة الفضلى في إنشاء جملة فمنذ عام 1980 وما بعده لم يعُدْ لنا حاجة ملحّة آنية ضاغطة ترغمنا على الاستعانة بقاموس أكسفورد للإنكليزية OED أو الاستعانة بنسخة من كتاب فاولر لإستخدامات المفردات الإنكليزية الحديثة. صار بمستطاع برنامج جهاز حاسوب كومودور المسمّى WordCheck ونسخه اللاحقة الأكثر حداثة إنجازُ كلّ هذه الأعمال بدقة وسرعة وكفاءة تفوقنا بكثير.

في نيسان/ أبريل 1998 قدّم اثنان (أصبحا اليوم من أكابر أثرياء العالم) ورقة بحثية في مؤتمر علمي عُقِد في مدينة بريسبان الأسترالية، وتناول بحثهما فكرة تطوير أوّل محرّك بحث في العالم... هذان الأميركيان الشابان هما لاري بيج Larry Page وسيرغي برين Sergey Brin اللذان بفضل جهودهما صار لدينا اليوم محرّك البحث الأكبر في العالم، غوغل Google، الذي ظلّ قادرًا خلال ربع القرن الماضي على توفير إجابة خلال أجزاء بسيطة من الثانية لأيّ سؤال نشاء عن أيّ شيء. شركة OpenAI تعدُنا بما هو أبعد من حدود ما قدّمه لنا غوغل: إنها تقدّمُ لنا ابتداعات جديدة أكثر تطوّرًا من شأنها نسفُ كلّ الجهد الضئيل المتبقي على عاتق عقولنا. قادت هذه الحقيقة خلال الأشهر القليلة الماضية إلى قرع جرس إنذار مبكّر. صار يشاعُ في أوساط واسعة أنّ عقولنا ستنتهي لا محالة إلى حالة من الكسل والبلادة بسبب عدم الاستخدام المتقادم، وسينشأ عن هذا الأمر اضمحلال خطير في قدراتنا العقلية مع كلّ ما يترافق معه من اضطرابات مؤذية على المستويين الفردي والمجتمعي.

النموذج الكابوسي لما قد يحصل لأجسادنا قد يتماثل مع الفيلم السينمائي Wall-E الذي قدّم عام 2008 رؤية ديستوبية غادر فيها البشر عالمهم المختنق بالتلوّث والفضلات وفضّلوا العيش في شرانق تدور في مدارات أرضية، وهذه الشرانق مكيّفة لتكون صالحة للعيش البشري. يصوّرُ لنا الفيلم البشر في هذه الشرانق وهم أقربُ لكائنات رخوة ضامرة العضلات، لا تفعل شيئًا سوى الاسترخاء على كراسٍ ممدودة، وتتغذّى على شبه عصيدة - ذات محتوى عالٍ من السعرات الحرارية- من عبوات مضغوطة، وتحدّقُ بعيون زجاجية باهتة في الشاشات الموضوعة أمامها. يمكن أن يكون مستقبلُنا البشري نسخة شبيهة في الفظاعة من رؤية فيلم Wall-E: عندما تتكفلُ الآلات بعمل كل شيء وأي شيء فلن يكون أمام عقولنا ثمّة جهد عقلي لتفعله؛ الأمر الذي سيدفع عقولنا لأن تصبح وسطًا ينعدم فيه التفكير بكلّ ما تعنيه هذه العبارة من محتوى حرْفي. لن نصبح بشرًا يفكّرون، وستنتهي عقولنا في حالة من الكسل والخدر أقرب إلى حلم يقظة ممتدّ ليست له نهاية، وسنعيشُ حالة خواء روحي مريعة. عندما تتلاشى معرفتنا الذاتية بعد أن تصبح كلّ المعرفة متاحة لنا بوسائل ميسّرة وبسيطة فإنّ مفهوم الحكمة البشرية سيتبخّرُ هو الآخر لأنّ الحكمة في النهاية ليست سوى إجتماع تفاعلي للمعرفة مع خبرة الحياة اليومية. يمكننا القولُ باختصار إنّ المجتمع حينذاك سيتشظّى ويضمحلّ شيئًا فشيئًا على المستويات الثلاثة: الجسد، العقل، الروح.  

قدّم فيلسوف العلم كارل بوبر Karl Popper عبارة صارت لاحقًا واحدة من أكثر العبارات التي يجري اقتباسها في الاحاديث العامة: "المعرفة محدودة لكنّما الجهل غير محدود"!


هذه واحدة، وواحدة فقط، من الرؤى القيامية المنذرة بمصير كئيب للجنس البشري. أنا لستُ من أتباع هذه الرؤية الديستوبية القاتمة على الأقل بقدر ما يختصّ الأمر بمستقبل عقولنا. أراني أتقاطع بقوّة مع من يقولُ إنّنا ماضون إلى جحيم فكري شامل وخواء عقلي لا يُردُّ. أرى الأمر على العكس من هذا تمامًا، وأعتقد بوجود أكثر من سبب لتفاؤل يبدو ضئيلًا اليوم لكنّه يمكن أن ينمو ويزدهر. أستمدُّ مصادر أملي المتفائل من بضعة شخوص من قدماء الإغريق الذين رسّخوا ركائز أساسات المعرفة، وقبل هذا قدّموا لنا تعريفًا متينًا لفكرة المعرفة ذاتها: فيثاغورس، سقراط، أفلاطون، أرسطو، هيرودوتس، إقليدس. هذه الشخوص - التي لم تزل تحوز احترامًا وتبجيلًا يتزايدان مع الزمن- كانت لها عقول مفكّرة لا تكاد تختلف في قدراتها عن أفضل العقول العلمية في زماننا هذا إلا في خصيصة واحدة لا مفرّ منها وهي أنّ عقول الأقدمين الذين عاشوا قبل قرون خلت أتيح لها القليل من المعرفة بسبب محدودية المعرفة آنذاك، وربما لو أتيحت لها المعرفة الحالية لقدّمت إنجازات أعظم بكثير ممّا فعلت.

قدّم فيلسوف العلم كارل بوبر Karl Popper عبارة صارت لاحقًا واحدة من أكثر العبارات التي يجري اقتباسها في الاحاديث العامة: "المعرفة محدودة لكنّما الجهل غير محدود". تبدو عبارة بوبر بالطبع صائبة من الوجهة الموضوعية على الرغم من أنّ كمية المعرفة المتاحة أمام عقولنا اليوم أعظم بكثير وإلى حدود غير قابلة للمقارنة مع المعرفة التي أتيحت للنخبة الفكرية المتميزة في عصور كلاسيكية خلت. لو شئنا المقارنة كتجربة فكرية نتعلّم منها فسنرى أنّ هؤلاء المفكرين الستة السابق ذكرهم - مع نظراء لهم أيضًا- قلّما سافروا خارج حدود إقامتهم (أرسطو كان استثناء من هذا)، وعاشوا أغلب حياتهم داخل فقاعة عرِف فيها القليل من التفاصيل الجغرافية، والقليل جدًا من التاريخ السابق، والقليل جدًا كذلك من التفاصيل الخاصة بالعالم الطبيعي الذي كانوا يشاهدونه ويلمسون تأثيراته الكبيرة في حيواتهم؛ لكنّ عقولهم مع أنها كانت غارقة في مجمل المعرفة المعاصرة لهم (إشارة إلى موسوعيتهم في حقول عديدة من المعرفة- المترجمة) غير أنها كانت أقرب إلى صفحات بيضاء tabula rasae، فارغة تقريبًا، جاهزة دومًا لأن تنغمس بشغف في أي بحث أو استكشاف معرفي، وهي حاضرة دومًا لأن تفكّر في أي شيء وكلّ شيء من غير وهن أو كسل أو بلادة. كانت لتلك العقول غاية موجّهة نحو حب المعرفة ولم يكن أي شيء ليعيق ذلك الحب الطاغي. ربما يمكن لكلّ منا أن يصبح نظيرًا لهؤلاء المفكّرين العظام بعد أن تعمل الخوارزميات الحاسوبية على تطهير عقولنا من كلّ المعرفة غير الضرورية التي نرهقُ بها عقولنا، وحينها فقط يمكن لعقولنا أن تصبح مثل عقول أعاظم المفكّرين الإغريق في القدرة على التفكير، والبحث، والاندهاش، والتأمّل، والتخيّل، والخلق، وابتداع الأفكار ومساءلتها وتطويرها.

تأسيسًا على ما سبق من محاججة، فإنّي أرى الثورة الخوارزمية المعاصرة كحملة تطهير ضرورية تمكّنُنا من إزاحة عبء الأحمال الثقيلة المتراكمة للحياة الفكرية المعاصرة عن أكتافنا وبكيفية تجعلنا نستعيد براءتنا العقلية الأولى التي تلوّثت كثيرًا وشابتها الكثير من المعوّقات التي لطالما ثلمت قدرتنا العقلية وشلّتها عن الفعل القصدي الموجّه بقوة وثبات وشجاعة.

المجتمع الجديد، مجتمع ما بعد الذكاء الاصطناعي Post-AI Society، قد يشهد نشوء إقليدس جديد، أو أفلاطون جديد، أو هيرودوتس جديد. قد تبدو هذه الفكرة خيالية؛ لكنّ الشخوص الجديدة نظراء إقليدس وأفلاطون وهيرودوتس ربما ينتظرون فقط الأجنحة التي ستمكّنهم من التحليق عاليًا وكأنهم ينبعثون من رماد أجساد المفكّرين السابقين.

لو كانت إمكانية خلق نظراء جدد للمفكرين الإغريق السابقين هي الفائدة الحقيقية الممكنة لتطهير عقولنا من العمل الروتيني الرتيب الذي يمكن بسهولة تركه للحواسيب والروبوتات فسأكون في غاية التوق انتظارًا لتحقيق تلك الإمكانية المجيدة.

قراءات إضافية:        

- The Map of Knowledge by: Violet Moller (Picador)
- AI: Its Nature and Future by: Margaret A Boden (Oxford)
- Power and Progress by: Simon Johnson and Daron Acemoglu (Basic)

 

* سايمون وينشستر Simon Winchester: كاتب وصحافي ومؤرّخ بريطاني ولد عام 1944 في لندن. يقيم حاليًا في ولاية ماساتشوستس الأميركية بعد أن حصل على الجنسية الأميركية. ألّف كتبًا مهمة عديدة آخرها الكتاب المنشور عام 2023 بعنوان: Knowing What We Know: The Transmission of Knowledge From Ancient Wisdom to Modern Magic

(*) الموضوع المترجم أعلاه منشور في صحيفة "غارديان" البريطانية بتاريخ 19 يونيو/حزيران 2023 ضمن سلسلة The Big Idea الأسبوعية. العنوان الأصلي للمادة باللغة الإنكليزية هو:

Will AI make Us Stupid?

 

  

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.