}

إسرائيل تمحو غزة التاريخية أيضًا

لوكاس كاترين 28 يونيو 2024
ترجمات إسرائيل تمحو غزة التاريخية أيضًا
لوكاس كاترين: مؤرّخ وكاتب بلجيكي فلمنكي من مواليد 1947
ترجمة وتقديم: عماد فؤاد
في مقال لافت نشره المؤرّخ البلجيكي البارز لوكاس كاترين مؤخرًا، وخصصه لرصد الإبادة الوحشية التي يمارسها جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ أكتوبر الماضي للتاريخ الأثري الفلسطيني في غزة، أشار إلى أن إسرائيل دمّرت ما يزيد على 200 موقع أثري في غزة تدميرًا كليًا، أو جزئيًا، ومنها عدد من المساجد الأثرية المهمة، وعلى رأسها المسجد العمري الكبير، ومسجد السيد هاشم، الذي يعد من أقدم مساجد غزة، وأكملها بناء، فيما قام جيش الاحتلال بنهب مواقع أثرية أخرى نقلت محتوياتها بالكامل إلى تل أبيب، كما حدث مع الموقع الأثري لمدينة أنثيدون الهلنستية القريبة من بيت لاهيا، مشيرًا إلى أن الأمر: "لا يقتصر على إبادة الشعب الفلسطيني في ’إبادة جماعية محتملة’ بحسب محكمة العدل الدولية، بل إن تاريخ الشعب الفلسطيني يتعرّض للتدمير على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي بشكل ممنهج ومتعمّد منذ أكتوبر الماضي".
هنا ترجمة لمقال لوكاس كاترين، الذي يعد أحد أكبر المناصرين للقضية الفلسطينية في المنطقة الهولندية اليوم، حتى أُطلق عليه "مؤرّخ القضايا المنسية":

"إذا اتخذت موقفًا "محايدًا" في حالات الظلم، فإنك تقف إلى جانب الظالم"- هكذا قال الأسقف الجنوب أفريقي ديزموند توتو، الحائز على جائزة نوبل للسلام عام 1984. واليوم، لا يسعنا إلّا أن نقف مع المظلوم، خاصة بعد أن دمّر جيش الاحتلال الإسرائيلي أكثر من 200 موقع أثري وتاريخي في غزة منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي، ولا يزال جيش الاحتلال يستخدم "البحث عن أنفاق حماس" ذريعة ليستمر في تدمير المساجد والمستشفيات بطريقة بربرية بشعة، حتى وصل بهم الحال إلى قتل المرضى رميًا بالرصاص وهم في أسرتهم في مستشفى الشفاء، وكذلك أعدموا الأطباء الذين أرادوا البقاء مع مرضاهم، حتى المشرحة جرفوها بما فيها من جثث لم تدفن بعد!
حين نتحدث اليوم عن المواقع الأثرية الفلسطينية، فإن أوّل ما يتبادر إلى أذهاننا بشكل أساسي المواقع المذكورة في الكتاب المقدّس، والموجود أغلبها وسط فلسطين، حيث بدأت الحفريات الأثرية هناك من قبل المتخصصين في الكتاب المقدس في وقت مبكر. فالأوروبيون كانوا مهتمين بشكل رئيسي بذلك الماضي التوراتي، ولم تكن غزة مثيرة لاهتمامهم التاريخي.
تغير هذا الوضع سريعًا عندما قام عالم الآثار البريطاني وليم فلندرز بيتري، في الفترة بين 1931 و1934، بحفريات واسعة النطاق في موقع "تل العجل" في بلدة المغراقة جنوبي مدينة غزة، وكانت فلسطين آنذاك تحت الانتداب البريطاني من قبل عصبة الأمم. نشر بيتري نتائج اكتشافاته الأثرية لاحقًا في كتاب من مجلدين بعنوان: "غزة القديمة". كشفت تلك الحفريات عن مبانٍ أثرية من طبقات عدة يعود تاريخها إلى العصرين البرونزي الوسيط والعصر الحديدي. ووفقًا لفلندرز بيتري، فإنها تعود إلى شعب من "الحرفيّين والصيادين والتجار".




وبالإضافة إلى بقايا المباني الأثرية، عثر بيتري على مشغولات أثرية نسائية مصنوعة من البرونز والفضة والذهب. وقد سرقت إسرائيل كثيرًا من هذه المصوغات والقطع الأثرية، بما في ذلك 50 تابوتًا أثريًا من موقع تل العجل عام 2008. والآن، تعرض الموقع الأثري من جديد لأضرار جسيمة بسبب القصف المستمر من قبل الطيران الإسرائيلي.

بولو- سيتي
مَن الذين سكنوا تلّ العجل والمواقع المحيطة به؟
نعلم من المصادر المصرية أن شعبًا اسمه بولو ـ سيتي/ Pulu-seti استوطن الموقع منذ عام 1194 قبل الميلاد، ومن هذا المصطلح جاءت كلمة Palestine، وهم الذين عاصروا الانتقال من العصر البرونزي إلى العصر الحديدي. وفي أوائل القرن الثاني عشر قبل الميلاد، كان يسكن المنطقة التي نعرفها اليوم بفلسطين أعراق منها: الفلسطيون على الساحل، والكنعانيون في المدن، والإسرائيليون في قرى الخيام في الداخل. وكان الإله الرئيسي لغزة هو مارناس داجون/Marnas Dagon  أو (الرب داجون)، إله المطر والحبوب والزراعة، وهنا ظهرت شجرة الزيتون لأول مرة في التاريخ كرمز له، كناية عن الخصوبة والتآلف والسلام.
اشتهرت غزة بصناعة المنسوجات منذ قرون طويلة، وخلال الحروب الصليبية تعرفت أوروبا على المنسوجات الفاخرة الآتية من غزة وبلاد الشام، والتي أصبحنا نطلق عليها منذ ذلك الحين اسم Gaas، نسبة إلى Gaza، وفي رسالة لاتينية للصليبيين يعود تاريخها إلى عام 1279، ونجد بالفعل إشارة إلى هذه المنسوجات الفاخرة باسم الغزاتوم/ Gazzatum.

أُدرجت مدينة أنثيدون/ Anthedon بالقرب من بيت لاهيا على قائمة اليونسكو (Getty)

مدينة أنثيدون
عندما اجتاحت إسرائيل قطاع غزة قبل أشهر عدة، كان لا يزال هناك عدد من علماء الآثار الفرنسيين والأوروبيين، من بينهم رينيه إلتر، وجان بابتيست همبرت، وكلاهما من المدرسة الكتابية والأثرية في القدس، وعالم الآثار السويسري مارك أندريه هالديمان، وقد أدلوا بشهاداتهم في وسائل الإعلام المختلفة حول نهب وتدمير الآثار التاريخية والأثرية على يد جيش الاحتلال.
أُدرجت مدينة أنثيدون/ Anthedon الساحلية الهلنستية الواقعة بالقرب من بيت لاهيا في قطاع غزة الحالي على قائمة اليونسكو للتراث العالمي، حيث كشفت الحفريات عن مناطق أثرية من العصر الحديدي إلى العصر البيزنطي والإسلامي، بما في ذلك المنازل الهلنستية، والهياكل الرومانية، والمقابر البيزنطية، ولاحظ علماء الآثار جدران المنازل المطلية والمزخرفة بالفسيفساء على الطراز النبطي، وهو ما يربط المنطقة بالبتراء، أشهر المدن النبطية في الأردن، حيث احتل الرومان مملكة الأنباط في عام 106م. وقد صرح عالم الآثار الفرنسي جان بابتيست همبرت لصحيفة "لوريان لوجور" اللبنانية الناطقة بالفرنسية إن الموقع الأثري لمدينة أنثيدون تم تجريفه بالكامل على يد جيش الاحتلال الإسرائيلي، بزعم البحث عن أنفاق حركة حماس.

دير القديس هيلاريون
تأسس دير القديس هيلاريون في قرية أم العمرو عام 329م على يد هيلاريون، أبو الرهبنة الفلسطينية. وهو الأقدم في فلسطين، وأكبر دير تم التنقيب عنه في الشرق الأوسط حتى اليوم. وكان هذا الدير يضم كنيسة ومعمودية وغرفًا للرهبان، وأظهرت الفسيفساء في الكنيسة البيزنطية صورًا للروبيان، والسمك المدخّن، والهليون، وبيض الدجاج والحمام، والرمان، وتفاحة من جنة عدن. وكان في إمكان الجمهور زيارة الموقع سابقًا، لكن الجيش الإسرائيلي منذ دخوله إلى غزة نهب مخزن القطع الأثرية الخاص بالدير.



وهنالك فيديو نشره إيلي إسكودو/ Eli Escudo، رئيس سلطة الآثار الإسرائيلية، على إنستغرام يقول فيه: "لقد تم نقل نائب مدير سلطة الآثار إلى غزة على عجل لجلب محتويات مخزن مليء بالآثار".

مساجد غزة
يضم حي الدرج وسط مدينة غزة مسجدين مهمين، أولهما مسجد السيد هاشم، نسبة إلى جدّ النبي محمد، هاشم بن عبد مناف، والثاني هو المسجد العمري الكبير، نسبة إلى عمر بن الخطاب الذي أدخل الإسلام إلى غزة وبقية فلسطين عام 637م، ويقال إن الموقع نفسه كان موقعًا لمزار مارناس داجون/ Marnas Dagon، أو الرب داجون، إله غزة الرئيسي قبل ثلاثة آلاف عام.
في القرن الخامس، تم اكتشاف كنيسة بيزنطية أصبحت لاحقًا مسجدًا مع ظهور الإسلام. ومن جديد، تحولت إلى كنيسة نورماندية خلال الحروب الصليبية، وقد تم الحفاظ على بقايا كبيرة من هذه الكنائس عندما تم بناء المسجد الجديد في عهد صلاح الدين الأيوبي (1187م). وضم المسجد أيضًا مبنى كبيرًا خصص للمكتبة، وعندما تم غزو غزة عام 1967، اعتقد الإسرائيليون أن كنيسًا يهوديًا هناك، وبالفعل كان المسجد يحتوي على نقش لشمعدان يهودي، وهو عبارة عن شمعدان ذي سبعة أفرع على أحد أعمدته، لكن الأبحاث التاريخية اللاحقة أثبتت أن العمود الأثري تمت سرقته من مدينة الإسكندرية المصرية، وبالطبع كانت المعابد اليهودية قائمة هناك في ذلك الوقت، ولكن الحال لم تكن هكذا في غزة، حيث تم تدمير المسجد ومكتبته بالكامل أثناء الاجتياح البري الذي شنته إسرائيل على القطاع في الثامن من كانون الأول/ ديسمبر الماضي.

تأسس دير القديس هيلاريون في قرية أم العمرو عام 329م على يد هيلاريون (Getty)

وكأن المطلوب ألّا يتم "إبادة" سكان غزة فحسب، بل يجب أيضًا "محو" و"إبادة" و"طمس" تاريخهم كله. إن التناقض بين التغطية الإعلامية الدولية الحالية للحرب البشعة على قطاع غزة صارخ، مقارنةً بالتغطية الإعلامية الضخمة التي حظي بها تدمير تنظيم الدولة الإسلامية لمدينة تدمر السورية بين عامي 2015 و2016، حتى لنكاد نجد اليوم القليل من المعلومات الكافية عن هذه "الإبادة الثقافية" التي يمارسها جيش الاحتلال في غزة منذ أن اجتاحها بريًا على مواقع الإعلام الغربية، لكننا نجد توثيقًا دقيقًا لهذه الإبادة لمواقع غزة الأثرية في مجلة "صمود"، والتي تصدرها اللجنة الهولندية الفلسطينية، حيث وثقت انتهاكات جيش الاحتلال الإسرائيلي منذ تشرين الأول/ أكتوبر الماضي في عدد من أعدادها.

*لوكاس كاترين: مؤرّخ وكاتب بلجيكي فلمنكي من مواليد 1947، له عدد من الكتب والدراسات التاريخية، خاصة عن الصراع العربي الإسرائيلي، وضد التيار الغربي المناصر لدولة الاحتلال. منذ بداية مشواره البحثي عام 1969، وحتى اليوم، قدم كاترين أكثر من 23 مؤلفًا عن العالم العربي، والحضارة الإسلامية، والأندلس، واللوبي الصهيوني، وتناول في مؤلفاته العلوم الإسلامية من الهندسة والجبر، وعلوم الفلك، والجغرافيا، والطب، إضافة إلى المذاهب الفلسفية، وكتب ابن رشد، وابن سينا، وكتب المتصوفة، وصولًا إلى العمارة الإسلامية، وكتب التفسير، والنص القرآني، وتاريخ العرب الحديث.

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.