}

هل هناك شيء اسمه "لعبة كاملة"؟

ماركوس دو سوتوي 18 يوليه 2024
ترجمات هل هناك شيء اسمه "لعبة كاملة"؟
لعبة الثعابين والسلالم لها جذور غير غربية (Getty, India)

ترجمة: لطفية الدليمي

عندما كنتُ في طور البلوغ قبل سنوات بعيدة أحببتُ أن أتشارك وشقيقتي لعبة الثعابين والسلالم Snakes and Ladders. أظنّ أنّ كلينا حينها اعتقدنا- بيقين لا تشوبه شائبة- أنّ كلًا منّا كان مسؤولًا مسؤولية كاملة لإرسال شريكه في اللعب خاسرًا نحو الأسفل عبر واحدٍ من الثعابين القصيرة أو الطويلة، أو رفعه ظافرًا نحو الأعلى عبر واحد من السلالم القصيرة أو الطويلة كذلك. أعلمُ اليوم، بالطبع، أنّنا كنّا حينها مذعنين لرحمة عشوائية حجر النرد، ولم نكن بأيّ شكل من الأشكال لنمتلك تأثيرًا حقيقيًا في مآلات اللعبة لكلّ منّا، فوزًا كانت أم خسارة.

بالإضافة إلى ما سبق، افترضتُ حينها أنّ هذه اللعبة كانت ابتداعًا غربيًا بالكامل؛ لكنّ رحلاتي الحديثة إلى الهند كشفت لي أنّ هذه اللعبة لها جذور غير غربية فضلًا عن جوانب روحية غير متوقّعة. ترى إحدى التأويلات (التفسيرات) لهذه اللعبة أنها استُخدِمت على نطاق واسع لتكون وسيلة تعليمية بشأن السعي لطلب التحرّر من تقلّبات الكارما Karma ومُعيقات الشغف. بمقارنة الكارما مع اللعبة فإنّ الاحسانَ إلى الآخرين يحصل على مكافأة بسلّم صاعد إلى الأعالي؛ في حين أنّ الثمالة والعربدة وإيذاء الآخرين تكون مكافأتها المنتظرة ثعبانًا يقود إلى المراتب الواطئة. المربّع الذي يقود إليه سلّمٌ صاعد يمثلُ موكشا Moksha: التحرّر من دائرة سلسلة الموت وإعادة الولادة اللانهائية. رأى هنود آخرون أنّ لعبة الثعابين والسلالم تمثلُ المصير البشري الذي فحواه أنّ مسار حياتك أبعدُ ما يكون عن قدرتك في التحكّم والسيطرة، وأنّ المآلات الطيبة والسيئة في حياتك إنّما هي خاضعة لقوى لا تخضع لسيطرة المرء عليها.

هذه الرؤية للحياة التي تنطوي عليها هذه اللعبة بكلّ فوضويتها وعبثيتها القاتلة هي أحد الأسباب التي جعلتها تجربة شخصية غير مرغوبة. باختصار، صارت هذه اللعبة توصف بأنّها لعبة سيئة Bad Game. إذًا، ما الذي يجعلُ لعبةً ما تستحقُّ الوصف بأنّها لعبة جيّدة حقًا؟ إنّ مثل هذه اللعبة يجبُ أن تحوي على عنصر الوساطة Element of Agency؛ بمعنى أن تتيح لك القدرة على التعبير عن نفسك وإظهار قدراتك (بدلًا من الارتكان الكامل إلى عنصر العشوائية والحظ والمصادفة). تستخدمُ الألعاب في الهند كممارسة تقليدية ضاربة القدم في حفلات الزواج لكي توفّر لكلّ ثنائي (رجل وإمرأة) حديثي الزواج وسيلة منظّمة ليعرفا طريقة تفكير بعضهما، وبخاصة عندما يكون الزواج قد جرى بطريقة مدبّرة لم تُتِح للزوجين وقتًا كافيًا للتعرّف إلى بعضهما. الألعاب، بهذا السياق، هي فرصةٌ لمشاركة التجارب بما يشبه تجربة الرقص مع من تحب. في كلّ رقصة جيّدة، كما في كلّ لعبة جيّدة، أنت تحدّد خطواتك، ورفيقك في اللعب أو الرقص يستطيع تفسير هذه الخطوات واتخاذ الخطوات اللاحقة بناءً على الخطوات الحالية.

إرفنغ فِنْكل Irving Finkel، الذي يعملُ مسؤولًا عن المخطوطات واللغات والثقافات الرافدينية القديمة في المتحف البريطاني، يرى أنّ الألعاب تعملُ على شحذ مهاراتنا الذهنية في قراءة أفكار الآخرين عبر جعل أنفسنا نفكّرُ كما لو كنّا في مواقعهم. سنفكّرُ حينها: ماذا سأفعل؟، وبسبب هذه القدرة للألعاب فإنّها كانت خصيصة ملازمة لكلّ ثقافة راقية. يذهبُ فنكل أبعد من هذا فيرى أنّ الألعاب تطوّرت جنبًا إلى جنب مع تطوّر الوعي البشري. يحاجج فنكل أنّنا لو تخيّلنا الكيفية التي يفكّر بها كلّ لاعب في الحركة اللاحقة فإنّ هذا التخيّل هو أقربُ ما يكون إلى وسيلة نستبطنُ بها الحياة الداخلية (الذهنية) للآخرين، وتلك خصيصة مميّزة لكلّ مهارة اجتماعية أساسية يتوجّب حيازتها من قبل كلّ حيوان اجتماعي (الإنسان حيوان اجتماعي بالتأكيد). من المثير أن أشير هنا إلى أنّ فنكل هو المسؤول عن فكّ مغاليق شفرة القواعد لواحدة من أقدم الألعاب الموثّقة في التاريخ المسجّل: تلك هي لعبة ملكية نشأت وشاعت في مدينة أور Ur قبل 4500 سنة من تاريخنا الحالي، (تقع أور جنوبي العراق قرب مدينة الناصرية- المترجمة) وقد أعيد اكتشافها خلال تنقيبات آثارية في المدينة جرت في عشرينيات القرن الماضي. كان اللاعبون في تلك اللعبة الملكية يتنافسون على قطع ثمينة (مثل أحجار كريمة) حول لوح اللعب مستعينين بنرد ذي شكل يشبه الهرم.

لعبة الثعابين والسلالم، كما نعرف، لا توفّرُ لنا أيّ نوعٍ من الإمكانيات لولوج عقول اللاعبين المشاركين ومعرفة ما الذي يفكّرون فيه أثناء اللعب؛ لذا ربّما ستكون الألعاب التي تعتمدُ على استراتيجيتنا الخالصة (بعيدًا عن أي عنصر من عناصر الحظ أو المصادفة) مثل الشطرنج أو لعبة Go مثالًا للكمال المُفْتَرَض الذي يثيرُ نوازعنا الظريفة. المدهشُ في الأمر لكثيرين منّا أنّ لعبة الشطرنج- التي تمتدّ جذورها إلى الهند أيضًا- تضمّنت في شكلها الاولي دورًا للنرد الذي سيحدّد أيّ القطع يُسمَحُ لنا بتحريكها؛ لكن عندما تمّ حظر المقامرة والألعاب التي تعتمدُ على عنصر الحظ في الثقافة الهندية، وجد لاعبو الشطرنج حينها وسيلة تجنّبهم عواقب الاستنكار بأن عمدوا بكلّ بساطة لإلغاء دور النرد في نقلاتهم؛ فصاروا هم وحدهم من يتحكّمون في هذه النقلات، وهذا أمرٌ قاد بالطبع لأن يجعل الشطرنج لعبة يعتمد الفوز فيها على الذكاء الشخصي في حساب النقلات ومآلاتها اللاحقة وليس شيئًا أبعد من هذا.

أخبرْني باللعبة التي تلعبها وسأقول لك من أنت!!  


مع أنّ ألعاب الشطرنج وGo تمتاز بجمال فائق وأناقة فكرية باذخة، فإنّ اعتمادها على الاستراتيجية الشخصية وحدها بدلًا من الحظ يجعلها عُرْضة لنوع آخر من المعضلات: ما لم يكن المتبارون متماثلين في قدراتهم إلى أقصى الحدود الممكنة فإنّ نتيجة اللعبة ستكون قابلة للتخمين بصورة مسبّقة. في اللعبة الكاملة Perfect Game يتوجّبُ دومًا أن تتاح لك فرصة الفوز بحركة استثنائية غير محسوبة حتى لو كانت قدراتك أدنى من قدرات منافسك في اللعبة. بعبارة أخرى: تفترض اللعبة الكاملة حتمية وجود عنصر من عدم القدرة على التخمين المسبق بالنتيجة. نحنُ في النهاية نلعب لعبة ما بسبب وجود فرصة لأن يغلب أحدٌ منّا الآخر، ولو عرفنا النتيجة مسبقًا فليس ثمّة معنى أو رغبة في اللعب. لا أحد منّا يرغب في لعب لعبة نتيجتُها محسومة. اللعبة ستكون حينها سخيفة مملّة ومفتقدة تمامًا لعنصر الامتاع. لو لعب مثلًا غاري كاسباروف أمام دونالد ترامب في جولة شطرنج فلن تجعل هذه اللعبة الناس في أقاصي العالم يقفون على أطراف أصابعهم منتظرين النتيجة. النتيجة محسومة سلفًا!!

إذًا، الموضوعة الأساسية في أية لعبة كاملة هي في اقتران عنصر الاستراتيجية الذهنية الشخصية مع عنصر عدم القدرة المسبقة على التنبؤ Unpredictability بمن هو الفائز المحتّم. كل لعبة كاملة يجب أن تضمن استمرارية عنصر عدم القدرة على توقّع الفائز لأبعد زمن ممكن، وهذا أحد العناصر المميّزة في تصميم كلّ لعبة تسعى لأن تكون لعبة كاملة جيّدة. لعبة Monopoly، على سبيل المثال، تفتقد هذه الخاصية؛ إذ ما أن يحرز المرء تفوّقًا واضحًا فيها فسيكون من المتعذّر، بل المستحيل، عكسُ النتيجة المحتومة.

أحد العناصر الأخرى المميّزة للّعبة الكاملة هو قواعدها البسيطة التي تجعلك تفهمها في مدى زمني قصير بسرعة كبيرة. لديّ تجربة سيئة مع أفراد عائلتي؛ تعلّمتُ من خبرتي المسبقة معهم أنّهم لا يطيقون الاصطبار لتلقّي تعليمات اللعب لأكثر من دقيقتين لأنّ قدرتهم ضئيلة للغاية على الانتباه والمتابعة بحيث ترسّخت عندي قناعة بأنني إذا لم أجعلهم يتعلّمون القواعد خلال دقيقتين من بدء حديثي معهم فقد خسرتهم إلى الأبد كلاعبين محتملين معي!! لننتبه هنا: بساطة القواعد لا تعني نتائج متكرّرة متماثلة. في اللعبة الكاملة يجب أن تقترن بساطة القواعد مع إمكانية النتائج المختلفة في كلّ مرّة، وهذا بالضبط ما يجعل اللعبة تستحقّ التكرار واللعب مرة بعد أخرى.

إلى أين يقودنا هذا السعي نحو اللعبة الكاملة؟ لو أتيح لي الخيارُ فسأختارُ لعبة الطاولة Backgammon لأنها مليئة بالدراما والمنعطفات المفاجئة والانقلابات غير المتوقّعة. يمكنُ أن تتغيّر الحال وتنقلب الأوضاع بكيفية دراماتيكية مع كلّ رمية نرد، وكما يحصل في رياضيات الفوضى Chaos فإنّ تغيّرات صغيرة قد تقود الأمور في اتجاهات جديدة وغير متوقّعة تمامًا. يمكن للمبتدئ في هذه اللعبة أن يتغلّب على خبير فيها؛ لكن حتى في الأحوال التي يكون فيها النرد معاكسًا لك يمكنك لو اتّبعتَ استراتيجية ذكية أن تمسك بزمام اللعبة وتنهيها لصالحك. لا يمكن لقواعد هذه اللعبة أن تكون أكثر بساطة ممّا هي عليه؛ لكن برغم ذلك ففي آلاف المرات التي لعبتُ فيها هذه اللعبة انتهت اللعبة بطريقة مختلفة كل مرّة. هذه اللعبة (لعبة الطاولة أو النرد كما تسمّى اختصارًا) هي واحدة من أكثر الألعاب تحقيقًا لشروط اللعبة الكاملة المتاحة والممكنة، وفضلًا عن هذه الميزة النوعية فهي أيضًا واحدة من أقدم الألعاب التي عرفتها البشرية، ويمكنُ تتبّعُ آثار أصولها الأولى في اللعبة التي فكّك فنكل شفرتها في المتحف البريطاني.

ليس بوسعي آخر المطاف، وكما هو متوقّعٌ بالطبع، سوى التأكيد بأنّ اللعبة الكاملة- شأنها شأن الكتاب الكامل- مسألةٌ تحكمها الذائقة الشخصية. البعض يحبّ التفلّت من كلّ قاعدة ضابطة للعب وترك الأمور للنرد لكي يحدّد مصير اللعبة. آخرون يفضّلون الإبقاء على عنصر بشري ذهني يعملُ على شحذ قدراتهم الفكرية سعيًا وراء أفضل ستراتيجية ممكنة.

أخبرْني باللعبة التي تلعبها وسأقول لك من أنت!!  

*****


قراءات إضافية:
     

- Seven Games: A Human History. by Oliver Roeder (WW Norton & Co)

- How Life Imitates Chess. by Garry Kasparov (Cornerstone)

- The Monopolists: Obsession, Fury and the Scandal Behind the World’s Favourite Board Game. By Mary Pilon (Bloomsbury)

(*) ماركوس دو سوتوي Marcus Du Sautoy: أستاذ الفهم العام للعلوم وأستاذ في الرياضيات في جامعة أكسفورد. رئيس الجمعية الرياضياتية. نشر عددًا من الكتب التي لاقت رواجًا عالميًا كبيرًا، كما قدّم عددًا من الوثائقيات لحساب الـBBC. آخر كتبه المنشورة هو:

Around the World in 80 Games: A mathematician unlocks the secrets of the greatest games.

وقد نُشِرَ في أكتوبر/ تشرين الأوّل عام 2023.

*الموضوع المترجم أعلاه منشور في صحيفة "غارديان" البريطانية بتاريخ 9 أكتوبر/ تشرين الأوّل 2023 ضمن سلسلة The Big Idea الأسبوعية. العنوان الأصلي للمادة المترجمة هو:

 Is there such a thing as the perfect game?

مقالات اخرى للكاتب

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.