}

القرن العشرون من خلال الأدب والفكر

حسونة المصباحي 19 يوليه 2024
تغطيات القرن العشرون من خلال الأدب والفكر
أميركيون في طوابير الانتظار خلال أزمة الكساد الكبير (1921/Getty)

لم يعرف قرنٌ من القرون التي سبقته حروبًا مُدمِّرةً، وكوارثَ، وأحداثًا هامَّةً على جميع المستويات، مثلما كانت حال القرن العشرين. فقد سقطت إمبراطوريَّتان كانتا تهيمنان على جزءٍ هامٍّ من أوروبا، أعني بذلك الإمبراطوريَّة العثمانيَّة، والإمبراطوريَّة النمساويَّة- المجريَّة. وفي النِّصف الأوَّل من القرن العشرين، شهد العالم حربين كونيَّتين. وبين هاتين الحربين، استولى على السُّلطة الفاشيُّون بزعامة موسوليني في إيطاليا، وفعل النَّازيُّون الأمر ذاته في ألمانيا ليحرقوا الكتب المعارضة لأفكارهم العنصريَّة والشُّوفينيَّة، وليجبروا مئات المثقَّفين والشُّعراء والمفكِّرين على الفرار إلى المنافي. ومن تبقَّى منهم أُرسلوا إلى المحتشدات، أو اختاروا الصَّمت تجنُّبًا لما يمكن أن ينجم من عواقب وخيمةٍ في حالة ما إذا ما جاهروا بمواقفهم.
وفي الفترة نفسها التي صعد فيها الفاشيُّون والنَّازيُّون إلى سُدَّة الحكم، اندلعت حربٌ أهليَّةٌ في إسبانيا لتفضي في نهايتها إلى انتصار الفاشيِّين بزعامة الجنرال فرانكو الذي سيظلُّ في السُّلطة حتَّى وفاته عام 1976. كما شهدت أوروبا ثوراتٍ اشتراكيَّةً مثل الثَّورة البلشفيَّة عام 1917. وفي عام 1929، واجه العالم الرَّأسماليُّ أخطر أزمةٍ اقتصاديَّةٍ في تاريخه الحديث. وقد كان لتلك الأزمة انعكاساتٌ واضحةٌ وجليَّةٌ على الأدب في أوروبا، وفي الولايات المتَّحدة الأميركيَّة. وتحت تأثيرها، صدر عدد من الرِّوايات التي تعكس الواقع المرير الذي كان يعيشه ضحاياها في القرى، وفي المدن والعواصم الكبيرة. ومن بين هذه الرِّوايات يمكن أن نذكر "عناقيد الغضب" لجون شتاينبك، و"طريق التَّبغ" لأرسكين كالدويل، و"سفرة في آخر اللَّيل" للوي فارديناند سيلين، وثلاثيَّة دون دوس باسوس التي حملت عنوان: "الثَّروة". وفي هذه الرِّواية الضَّخمة التي لاقت نجاحًا هائلًا، حاول باسوس أن يبرز الأخطاء، والممارسات السِّياسيَّة والماليَّة، والاقتصاديَّة والاجتماعيَّة، التي أدَّت إلى تلك الأزمة الخانقة. كما سعى إلى أن يبيِّن أنَّ تدهور القيم الأخلاقيَّة في عالمٍ أصبح يسيطر عليه الجشعون للمال والثَّروة كان سببًا أساسيًّا هو أيضًا في انهيار الاقتصاد الرَّأسماليّ.
الرِّواية صدرت عام 1936. وفي البداية يركِّز جون دوس باسوس على تصوير "السَّنوات السَّعيدة" التي عاشتها الولايات المتَّحدة الأميركيَّة في العشرينيات من القرن الماضي. ففي تلك الفترة عرف الاقتصاد الأميركيُّ ازدهارًا لم يسبق له مثيل، فازداد ارتفاع الإنتاج بنسبٍ غير متوقَّعة. وبدأ الأميركيُّون بمختلف مشاربهم يشعرون أنَّهم لن يعرفوا الفقر أبدًا. لذلك لم يتردَّد الرَّئيس هوفر في القول، وذلك عام 1928: "في أميركا نحن اليوم قريبون جدًّا من الانتصار النِّهائيِّ على الفقر. ونحن أكثر قربًا من تحقيق ذلك من أيِّ بلدٍ آخر في تاريخ الإنسانيَّة برمَّته". لكن عقب مرور عامٍ فقط على ذلك الخطاب المفعم بالتَّفاؤل، والثِّقة في المستقبل، انهار الاقتصاد العالميُّ والأميركيّ، وأضحت المدن التي كانت زاهيةً بالأمس القريب كئيبةً ومُوحشةً تعجُّ بالعاطلين عن العمل، واليائسين، والمتسوِّلين، والجوعى، والفاقدين لأيِّ بصيصٍ من الأمل. وقد تمكَّن جون دوس باسوس من أن يضع إصبعه على الجرح العميق، وأن يحلِّل بأسلوبه الرِّوائيِّ الرَّفيع الأوضاع التي أفضت إلى أزمة 1929. وفي روايته هو يدين بشدَّةٍ الباحثين عن الثَّروات السَّهلة، وتجَّار الكحول السِرِيِّين، وعصابات الجريمة المنظَّمة، وأصحاب رؤوس الأموال الكبيرة الباحثين عن الرِّبح السَّريع. أمَّا مصير الإنسانيَّة فلا يعني لهم شيئًا يُذكر. وفي روايته، يشنُّ جون دوس باسوس هجومًا عنيفًا على أولئك الذين سمَّاهم "الأثرياء الجُدد"، مثل تايلور، مُبتكر الطَّريقة العلميَّة المثلى في العمل لـ"مقاومة الكسل" بحسب تعبيره، وهنري فورد الذي حصل على ثروةٍ طائلةٍ اعتمادًا على الأفكار المسبقة لوالدته التي احتفظ بها مثلما "يحتفظ بالأوراق الماليَّة الجديدة داخل خزانة".

تشرتشل وروزفلت (Getty)


ولم ينسَ جون دوس باسوس أن يوجِّه نقدًا لاذعًا للمؤسَّسات الإعلاميَّة المتعاطفة مع أصحاب رؤوس الأموال الكبيرة، وأيضًا إلى أولئك الذين حكموا بالإعدام على نيكولا ساكو، وبارتولوميو فانزاتي، العاملَيْن الإيطاليَّيْن المهاجرَيْن اللذَيْن لم يقترفا أيَّة جريمةٍ سوى أنَّهما كانا يريدان أن يتمتَّعا بحياةٍ كريمةٍ في بلاد "الثَّروة الكبيرة"...
بعد الحرب الكونيَّة الثَّانية، انقسمت القارَّة العجوز إلى شطرين، شطرٍ غربيٍّ تقوده الولايات المتَّحدة الأميركيَّة كزعيمةٍ لما يُسمَّى بـ"العالم الحرّ". وشطرٍ شرقيٍّ بقيادة ما كان يُسمَّى بالاتِّحاد السُّوفياتيِّ، الذي كان يتزعَّم ما كان يُسمَّى بـ"الكتلة الاشتراكيَّة". ولن ينتهي هذا الانقسام إلَّا عندما انهار جدار برلين في خريف عام 1989.
وانطلاقًا من النِّصف الثَّاني من القرن العشرين، شرعت الإمبراطوريَّتان الاستعماريَّتان اللَّتان كانتا تهيمنان على بلدانٍ كثيرةٍ في إفريقيا وآسيا، أي بريطانيا وفرنسا، تفقدان نفوذهما، لتمنحا في النِّهاية الاستقلال للبلدان المولَّى عليها. ومن الطَّبيعيِّ أن تكون لكلِّ هذه الأحداث، وللحربين الكونيَّتين، ولفترة الحرب الباردة بين الكتلة الاشتراكيَّة، والعالم الرَّأسماليّ، تأثيراتٌ وانعكاساتٌ هامَّةٌ على المستوى السِّياسيِّ والفكريِّ والفنِّيِّ والأدبيّ.




ومثَّلَ القرنُ التاسعُ عشرَ الذي شهدَ ظهورَ حركاتٍ فلسفيةٍ وأدبيةٍ كالرومانسيةِ، والوضعيةِ، والماركسيةِ، والواقعيةِ، والطبيعيةِ، والرمزيةِ وغيرِها، تميَّزَ القرنُ العشرونَ ببروزِ حركاتٍ وتياراتٍ فلسفيةٍ وفنيةٍ وأدبيةٍ كان من أشهرِها السورياليةُ، والوجوديةُ، والبنيويةُ، والفلسفةُ الجديدةُ، والروايةُ الجديدةُ... إلخ. وكلُّ هذه الحركاتِ والتياراتِ كانت نقديةً في جوهرِها، ومُناهِضةً للنظمِ السياسيةِ القائمةِ، وللرأسماليةِ والإمبرياليةِ، وللحروبِ، وللعنفِ في مختلفِ أشكالِ مظاهرِهِ. وأغلبُ رموزِها كانوا مدافعينَ شرسينَ عن الحريةِ والعدالةِ وحقوقِ الإنسانِ. مثلما كانت حالُ فلاسفةِ الأنوارِ. لذلك لم يترددوا في استعمالِ أقلامِهم لمواجهةِ السلطاتِ السياسيةِ والقضائيةِ والعسكريةِ لا في بلادِهم وحدَها، وإنما في عددِ من البلدانِ الأخرى. كما نددوا بالحروبِ الاستعماريةِ مُناصرينَ قضايا الحريةِ والاستقلالِ. فقد ناهضَ رومان رولان الحربَ الكونيةَ الأولى من خلالِ سلسلةٍ من المقالاتِ حملت عنوانَ: "فوق الجلبة". وكان من أوائلِ المثقفينَ الأوروبيينَ الذين ساندوا الزعيمَ الهنديَّ الماتهاما غاندي، مُظهرًا إعجابَه الشديدَ بسياستِه التي تعتمدُ "المقاومةَ السلبيةَ". وكان أندريه مالرو في سنِّ العشرينَ لما انطلقَ إلى ما كان يُسمى في ذلك الوقتِ بـ"الهندِ الصينيةِ" (فيتنام اليوم) لينتقدَ السياسةَ الاستعماريةَ هناك. وعند عودتِه إلى باريس، هاجمتْه القوى اليمينيةُ، وزجتْ به في السجنِ بتهمةِ سرقةِ آثارٍ بوذيةٍ من كمبوديا. ومن وحي رحلاتِه إلى جنوبِ شرقيِّ آسيا كتبَ مالرو رائعتَه "الوضعُ البشريُّ" التي صورَ فيها ثورةَ الشيوعيينَ الصينيينَ في العشرينياتِ من القرنِ الماضي. وكان مالرو من قادةِ المقاومةِ الفرنسيةِ ضدَّ الاحتلالِ النازيِّ، مناصرًا للجنرالِ ديغول. وقبلَها كان قد حاربَ في صفوفِ الجمهوريينَ خلالَ الحربِ الأهليةِ الإسبانيةِ التي اندلعتْ عام 1936. وقد ازدادَ اهتمامُ مالرو بالسياسةِ بعد أن أصبحَ يتمتعُ بشهرةٍ عالميةٍ واسعةٍ في المجالِ الأدبيِّ. وفي الستينياتِ من القرنِ الماضي، وكان آنذاك وزيرًا للثقافةِ والإعلامِ في حكومةِ الجنرالِ ديغول، التقى بشخصياتٍ سياسيةٍ كبيرةٍ أمثالِ الرئيسِ المصريِّ جمالِ عبدِ الناصرِ، والزعيمِ الهنديِّ نهرو، والزعيمِ الصينيِّ ماو تسي تونغ. وعن لقاءاتِه بهؤلاءِ كتبَ صفحاتٍ رائعةً في كتابِه الضخمِ الذي حملَ عنوانَ: "مذكراتٌ مضادةٌ".
وبرغمِ نزعتِه الفردانيةِ، ورفضِه لأيِّ شكلٍ من أشكالِ الالتزامِ السياسيِّ، لم يترددْ أندريه جيد في فضحِ الجرائمِ الاستعماريةِ في كلٍّ من الكونغو والتشادِ وذلك خلالَ الزيارةِ التي قام بها إلى هذين البلدينِ عام 1925.

 جون شتاينبك (Getty)


وفي الثلاثينياتِ من القرنِ الماضي، كان إلى جانبِ مالرو في "لجنةِ الكتابِ" التي تم بعثُها بهدفِ التصدي للفاشيةِ والنازيةِ. وخلافًا للكتابِ والمثقفينَ المتعاطفينَ مع الثورةِ البلشفيةِ، لم يجاملْ أندريه جيد صديقَه مكسيم غوركي الذي كان قد دعاه لزيارةِ ما كان يُسمى بالاتحادِ السوفياتيِّ. وعن تلك الزيارةِ كتبَ سلسلةً من المقالاتِ اللاذعةِ ضدَّ الاشتراكيةِ، مُنتقدًا كبتَ الحرياتِ العامةِ والخاصةِ، وساخرًا من "الواقعيةِ الاشتراكيةِ" في الأدبِ والفنِّ.




وقد تميزتْ فترةٌ من بين الحربينِ العالميتينِ في فرنسا بظهورِ كتابٍ أثارَ جدلًا واسعًا بين مختلفِ التياراتِ الفكريةِ. وكان بعنوانِ: "خيانةُ المثقفينَ". وهو من تأليفِ جوليان باندا الذي كان قد انتقدَ بحدةٍ المثقفينَ الفرنسيينَ الذين ينقسمونَ بحسبِ رأيِه إلى قسمينِ: قسمٌ مع "الأمةِ الفرنسيةِ". وهو يعني بذلك المثقفينَ القوميينَ الشوفينيينَ، وقسمٌ مع "الطبقةِ" مُشيرًا بذلك إلى المثقفينَ الذين كانوا مُتعاطفينَ مع الثورةِ البلشفيةِ، ومع الماركسيةِ، ومقولةِ "الصراعِ الطبقيِّ". ولا يعيبُ جوليان باندا على المثقفينَ الفرنسيينَ دفاعَهم عن القضايا السياسيةِ العادلةِ مثلما فعلَ فلاسفةُ الأنوارِ، أو إميل زولا، وإنما هو يعيبُ عليهم وضعَ ذكائِهم ومواهبِهم في خدمةِ أحزابٍ وتياراتٍ سياسيةٍ وأيديولوجيةٍ.
ومثلَ مالرو، انضمَّ ألبير كامو إلى حركةِ المقاومةِ الفرنسيةِ ضدَّ الاحتلالِ النازيِّ. وكان على رأسِ تحريرِ جريدةِ "المعركة"، لسانِ الحركةِ المذكورةِ. وفي سنواتِ شبابِه، كان قد كتبَ في جريدةِ "الجي ريبيبليكان" سلسلةً من المقالاتِ فيها وصفٌ بدقةٍ وموضوعيةٍ لحياةِ البؤسِ والشقاءِ التي كان يعيشُها المزارعونَ في منطقةِ "القبائلِ" الجزائريةِ، مُستعرضًا المظالمَ الرهيبةَ المسلطةَ على هؤلاءِ من قِبَلِ السلطاتِ الاستعماريةِ، والمعمرينَ الفرنسيينَ. غيرَ أنَّ صاحبَ "أسطورةِ سيزيف"، و"الإنسانِ المتمردِ"، سوف يرفضُ في ما بعدُ إمضاءَ العريضةِ الشهيرةِ التي أعدَّها عددٌ كبيرٌ من المثقفينَ الفرنسيينَ مطالبينَ من خلالِها بمنحِ الجزائرِ استقلالَها، ومحاكمةِ الجنرالاتِ بسببِ الجرائمِ التي ارتكبوها خلالَ حربِ التحريرِ الجزائريةِ التي اندلعتْ عام 1954. وقد فسرَ كامو رفضَه ذاك قائلًا بأنه لو خُيّرَ بين العدالةِ وأمهِ لاختارَ أمهُ!
وكانت مسيرةُ جان بول سارتر سلسلةً من المعاركِ الفكريةِ والسياسيةِ العنيفةِ في أغلبِها. وقد بدأَ حياتَه وكأنه غيرُ مبالٍ بالسياسةِ وهمومِها ومشاكلِها. وفي روايتِه: "الغثيانُ" التي أصدرَها في الثلاثينياتِ من القرنِ الماضي، هو يحملُنا إلى عالمٍ يتسمُ بالخواءِ والسوداويةِ من خلالِ شخصٍ ينظرُ إلى العالمِ الخارجيِّ باحتقارٍ وازدراءٍ. لكن بعدَ الحربِ العالميةِ الثانيةِ، ألقى سارتر بنفسِه في قلبِ المعاركِ الفكريةِ والسياسيةِ في فرنسا وفي العالمِ بأسرِه مُتخليًا عن سلبيتِه التي وَسَمَتْ مسيرتَه في مرحلةِ الشبابِ. وعبرَ مجلةِ "الأزمنةِ الحديثةِ" التي أسسَها، راحَ يروّجُ لأفكارِه مدافعًا عن قضايا الحريةِ والعدالةِ، ومناصرًا الشعوبَ المضطهدةَ والمستعمَرةَ، مادحًا الاشتراكيةَ، مشهرًا بالعنصريةِ البيضاءِ، وممجدًا الثوراتِ المسلحةَ، خصوصًا الثورةَ الفيتناميةَ والثورةَ الكوبيةَ. وكان سارتر من أوائلِ الموقعين على العريضةِ المطالبةِ باستقلالِ الجزائرِ. وبسببِها قطعَ علاقتَه مع ألبير كامو، وشنَّ عليه معركةً قاسيةً عادًا إياه "مثقفًا خارجَ التاريخِ".
وخلال الثورة الطّلابيّة التي اندلعت في ربيع عام 1968، شارك سارتر ورفيقة حياته سيمون دو بوفوار في المسيرات والتظاهرات الطلاّبيّة، مردّدين الشعارات نفسها التي كانوا يطلقونها. وكانت الشرطة الفرنسيّة تهمّ باعتقاله بتهمة "إثارة الشغب"، غير أن الجنرال ديغول منعها من ذلك قائلًا: "لا يجوز اعتقال فولتير!”. ولم يكتف سارتر بمساندة الطلبة الثائرين، بل ساند أيضًا التيّارات اليساريّة المتطرّفة، والحركات الماويّة (نسبة الى الزعيم الصيني ماو تسي تونغ). وكان يوزّع جريدة "قضيّة الشعب" الناطقة باسمها. وعلى برميل وقف ليحرّض العمال على الثورة. وفي السنوات الاخيرة من حياته، ضعف بصر سارتر، فأخذ يستعين بشاب من أصل يهودي يدعى بني ليفي للتجول في الشوارع، والذهاب الى المقاهي والمطاعم. وكان ذلك الشاب قد تحمّس في سنوات شبابه الأولى إلى أفكار الزعيم البلشفي ليون تروتسكي الذي اغتيل في المكسيك عام 1940 من قبل مخابرات ستالين. لكنه ارتدّ  في ما بعد عن ذلك ليصبح قبلانيًّا متطرفًا، مطلقًا لحيته على طريقة رجال الدين اليهود، ومتردّدًا على القدس لقراءة التوراة أمام حائط المبكى. ومع سارتر، كان يخوض نقاشات حول مسائل تتصل بالديانة اليهوديّة، وبتاريخ اليهود، وملوك إسرائيل القدماء. ويبدو أن صاحب "الوجود والعدم" أعجب بما كان يطرحه صديقه الشاب من أفكار، لذا بات ملازمًا له، مُثيرًا بسلوكه الغريب غضب واستياء رفيقة حياته سيمون دو بوفوار. وأكثر من مرة تدخلت بحزم لتخليصه من هيمنة الشاب اليهودي، غير أنها لم تفلح في ذلك. وقد ظلّ  ذلك الأمر قائمًا حتى وفاة سارتر عام 1980.
ولم تكن البلدان الأوروبية الأخرى غائبة عما شهده القرن العشرون من فوران في المجال الفكري والأدبي والفني. ففي برلين شهدت الحركة التعبيريّة صعودًا واضحًا. وفي عام 1918 ألقى هولسنباك محاضرة أعلن فيها عن تأسيس الحركة "الدادئيّة". ويعد مرور عامين على ذلك، افتتح المعرض العالمي لـ"الدادئية" في قاعة "بورخارد". وحول مجلة "العاصفة" التقت الاتجاهات الجديدة، والمتميّزة في مجال الفن من أمثال كاندينسكي، وفرانز مارك، وشاغال. وقد شهدت معارض الرسامين الجدد إقبالًا كبيرًا من قبل الجمهور. وبعد أن كانت برلين مدينة السينما والمسرح، أصبحت مدينة الكاباريهات التي يتهافت عليها الناس بأعداد وفيرة، وفيها يستمتعون برقصات غانيات شبه عاريات. ويتحدث غيورغ هايم عن برلين في تلك الفترة كما لو أنها آلهة من آلهات الشر! ولعلّ أروع من صّوّر حياة برلين في الفترة الفاصلة بين الحرب الكونية الأولى، والسنة التي صعد فيها النازيون إلى السلطة، هو الفريد دوبلن صاحب رائعة "برلين ــ ألكسندر بلاتز"، التي صدرت عام 1929، أي قبل الانفجار الكبير بوقت وجيز. عن هذه الرواية، كتب أحد النقاد يقول: "إن رواية "برلين - ألكسندر بلاتز" ليست ملحمة برلين وحدها، وإنما هي ملحمة البؤساء والهامشيين، والمهمّشين". ولكي يتوصّل ألفريد دبلن إلى الكشف عن روح برلين، كان عليه أن يتصفّح وثائق الإحصائيّات، وأن يُحصي عدد المواليد والأموات، وأن يدرس حالة المعامل، وأن ينتبه إلى إفلاس الأشخاص، وأن يتعرّف على حياة العاطلين عن العمل، وأن يطّلع على الأوضاع في مستشفيات الأمراض العقلية والنفسيّة، وأن يزور ملاجئ الأيتام والشيوخ، وحتى رياض الأطفال. وقد صورت هذه الرواية جحيم برلين. لذا جاءت قاتمة، مفعمة باليأس والألم. وفيها يلتقي المشوّهون، والبغايا، والأثرياء، والخونة. وجميع أبطالها يعكسون أوضاع أشخاص حقيقيين أحرقهم جمر برلين في سنوات "الصخب والعنف". وقبل أن يطبق عليها الليل النازي بظلماته ليؤدي في ما بعد إلى تقسيمها إلى شطرين، كانت برلين تسعى إلى أن تجد في الحياة الصاخبة، وفي وهج الفنون الجديدة، ما يمكن أن ينسيها جراحها وأوجاعها. وكانت تريد أن تغضّ الطّرف عن أوضاع اجتماعية وسياسية قاسية ومُرّة كانت فيها الفتاة الجميلة تشترى بسيجارة، أو بقطعة من الخبز. وفي لافتة مستوحاة من قصيدة لفالتر ماهوينغ، يمكننا أن نقرأ: "برلين... راقصك هو الموت!"...
وقد تجاوبت الولايات المتحدة الأميركية مع ما كان يحدث في القارة العجوز من ثورات فكرية وفنية وأدبية، ليبرز فيها روائيون كبار، أمثال ويليام فوكنر، الذي حوّل الجنوب الأميركي إلى فضاء أسطوري، وإرنست همنغواي الذي ربط جسرًا متينًا بين بلاده، وبين البلدان الأوروبية، وسكوت فيتزجيرالد، الذي عكست أعماله خيبات وانكسارات "جيله الضائع"، كما سمته غيرترود شتاين، وإزرا باوند، الذي كان يلقب بـ"وزير الثقافة الأوروبية من دون حقيبة"، وجون دوس باسوس، وكرسن ماك كلارس، وهنري ميلر، وريتشارد رايت، وترومان كابوتي، وويليام بوروز، وبول بولز، الذي عاش ودفن في طنجة، وغيرهم.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.