تعرّف ويكيبيديا اللغة الهولندية بأنها "إحدى اللغات الجرمانية الغربية، ويبلغ عدد الناطقين بها حوالي 22 مليونًا كلغة أم، وما يقرب من 5 ملايين كلغة ثانية، وتعتبر الهولندية لغة رئيسية في كل من هولندا وبلجيكا وسورينام، مع مجموعات صغيرة في أجزاء من فرنسا وألمانيا والعديد من المستعمرات الهولندية السابقة. وهي كلغة مرتبطة ارتباطًا وثيقًا باللغات الجرمانية الغربية: الإنكليزية والفريزية الغربية والألمانية، وإلى حدٍّ ما باللغات الجرمانية الشمالية. والهولندية محكية أيضًا في بعض الدول الأفريقية مثل ناميبيا، وهي كذلك إحدى اللغات الرسمية لجنوب أفريقيا، كما تعدّ الهولندية مصدرًا للعديد من اللغات الكريولية ومنبعًا للغات المشتقّة مثل اللغة الأفريكانية"، ووفقًا لهذا التعريف، لا يزيد عدد المتحدّثين بالهولندية حول العالم عن 30 مليون نسمة فقط!
كذلك، لم تكن هولندا من البلدان الأوروبية التي توسّعت في احتلال مناطق من العالم العربي على غرار الإنكليز والفرنسيين، ومن ثمّ تأخّر وصول الأدب الهولندي إلى العالم العربي طويلًا، وبعد أن شهدنا ترجمة عدد من الأعمال الأدبية عن لغات وسيطة مثل الفرنسية (البلجيكي هوغو كلاوس (1929 - 2008) نموذجًا) أو عن الإنكليزية (مولتاتولي (1820 - 1887) وروايته الشهيرة "ماكس هافِلار" مثلًا)، أصبحنا نرى في السنوات الأخيرة ظهور عدد من الأعمال الأدبية الهولندية والبلجيكية اللافتة في العربية مترجمة مباشرة عن لغتها الأصلية الهولندية، بتوقيع المترجمة السورية أمينة عابد، والتي لفتتني ترجمتها الجميلة لرواية الكاتب الهولندي هاري موليش "الاعتداء" (دار الكرمة) حال صدورها عام 2017، ثم تتابعت ترجماتها الأخرى، ومن بينها: "البحيرة السوداء" (2020) وهي الرواية الأولى للكاتبة الهولندية هيلا هاسّه (1918 - 2011) والصادرة عام 1948 حاملة اسم بطلها "Oeroeg"، و"الحرب والتربنتين" للكاتب البلجيكي ستيفان هیرتمانس (2022)، و"أوهام العقل" (2024) للهولندي برنلف (1937 - 2012)، وأخيرًا تحفة الهولندي هاري موليش (1927 - 2010) "اكتشاف السماء" والتي صدرت مؤخرًا عن داري "سرد" و"ممدوح عدوان" السوريتين.
تحمل بعض ترجمات أمينة عابد تعريفًا مقتضبًا عنها، لا يفيد إلّا بأنّها "مترجمة سورية، ولدت عام 1970 في مدينة عفرين، ثم درست في حلب ومدينة لايدن الهولندية، حيث بدأ اهتمامها بالأدب الهولندي"، وهذا التعريف المقتضب بالمترجمة جعلني أطرح عليها السؤال الأول:
(*) دعينا نبدأ كما يقولون منذ البداية: ما الذي دفعك قبل 30 عامًا للمجيء إلى هولندا، كيف ومتى بدأت الرحلة من عفرين التي ولدت بها ثم إلى حلب ثم إلى لايدن الهولندية؟
ولدت في قرية معراته التابعة لبلدة عفرين السورية عام 1970، ثم انتقلت مع عائلتي وأنا ابنة 4 سنوات للسكن في عفرين، حيث درست حتى المرحلة الثانوية، ثم انتقلت إلى الدراسة في كلية الاقتصاد في مدينة حلب، وتزوجت عندما كنت في السنة الثانية من الدراسة، وأثناء تقديمي آخر امتحانات السنة الرابعة، اضطر زوجي إلى مغادرة سورية لأسباب سياسية، ولحقت به بعد انتهائي من الامتحانات، لم أنجح في بضع مواد، لذلك لم أحصل على شهادتي الجامعية، وانتهى بنا المطاف في هولندا عام 1994.
(*) هل يحتاج المترجم كل هذه السنوات من الاحتكاك باللغة قبل أن يترجم عنها؟ أتساءل بسبب بدايتك المتأخرة مع الترجمة عن الهولندية، كيف بدأت رحلتك مع الترجمة الأدبية ومتى؟
لا، لا يحتاج المرء إلى سنوات كثيرة من الاحتكاك بلغة ليستطيع الترجمة عنها، لكن لي حكاية أخرى مع الترجمة. عندما وصلت إلى هولندا لم يخطر في بالي أنني سأعمل في الترجمة الأدبية. تعلمت الهولندية مثل كل القادمين الجدد، درست في معهد متوسط للاقتصاد وإدارة الأعمال، وحصلت بعد التخرج على وظيفة في مكتب محاسبة. بعد سنتين من العمل في هذا المجال، حدثت معي مشكلة صحية. توقفت عن العمل ودخلت في صراع طويل مع المرض. عندما تكيّفت بعد سنوات مع وضعي الصحي، أردت أن أستأنف العمل في المجال المالي، فالتحقت بالمعهد العالي للإدارة الحديثة في الشركات، لكن بعد سنتين اضطررت إلى التوقف بسبب انتكاسة صحية جديدة دامت أكثر من سنة. توصلت في ذلك الوقت إلى قناعة بأن المجال المالي لا يناسبني. كان ذلك في عام 2011. كانت القراءة جزءًا من برنامجي اليومي في كل مراحل حياتي وفي إحدى الفترات صارت الترجمة هوايتي، فترجمت مختارات شعرية للكاتب والشاعر الهولندي بول ماراينيس ونشرتها في دمشق بعنوان "مكعبات الثلج"، ولكن في تلك السنة بدأت أنشغل جدّيًا بالترجمة الأدبية، واجهتني صعوبات كثيرة بسبب ندرة المراجع والدراسات عن الترجمة الأدبية من الهولندية إلى العربية، وعدم وجود معاهد ترجمة متخصّصة في هاتين اللغتين، وكذلك ندرة الروايات الهولندية المترجمة إلى العربية، لمقارنة النص المصدر مع النص الهدف. لذلك اعتمدت على الجهود الذاتية في اكتساب الخبرة في هذا المجال، من خلال الاطّلاع على دراسات عامة في الترجمة الأدبية، ومقارنة ترجمات عربية بمصادرها الإنكليزية.
(*) اختيارك للترجمة الأدبية رغم مصاعبها، خاصة عن لغة صغيرة مثل الهولندية، ألا يشكّل اليوم تحديًّا في عالم عربي يوجّه كل اهتمامه في الترجمة عن اللغات الأكثر انتشارًا كالإنكليزية أو الفرنسية أو الإسبانية، ويغضّ الطرف عن آداب لغات صغيرة الحجم وبالتالي التأثير من وجهة النظر التسويقية العربية؟
أعتقد أن الاهتمام العربي بالترجمات عن اللغات التي ذكرتها، له أسباب تاريخية إلى جانب أنها واسعة الانتشار، فقد كانت لبريطانيا وفرنسا وإسبانيا مستعمرات ومناطق انتداب في العالم العربي، لذلك نشطت حركة الترجمة عن هذه اللغات وإليها، أما هولندا فلم تربطها علاقات من هذا النوع بالعالم العربي، ولأن لغتها أقل انتشارًا من هذه اللغات الثلاث، بقيت الأعمال المترجمة عن الهولندية وإليها في إطار محدود، وغالبًا مترجمة عن لغة وسيطة مثل الإنكليزية أو الفرنسية، مثل رواية "ماكس هافِلار" لمولتاتولي، و"العشاء" لهيرمان كوخ، و"يوميات أنَّا فرانك". هذا يسري أيضًا على الاتجاه المعاكس، فمثلًا كتاب "ألف ليلة وليلة" تُرجم إلى الهولندية عن الفرنسية في أربعينيات القرن الماضي وخمسينياته، وفي وقت متأخر جدًا صدرت ترجمته عن العربية مباشرة، عندما بدأت دور النشر الهولندية تهتم بالأدب العربي بعد أن فاز نجيب محفوظ بجائزة نوبل عام 1988. كذلك هناك أسباب أخرى، من أهمها ندرة الكفاءات في الترجمة الأدبية وصغر الجالية العربية في هولندا مقارنة بالدول الثلاث المذكورة. كان المغاربة المكوّن الأساسي حتى وقت قريب للجالية العربية الذين استقدمتهم هولندا للعمل في ستينيات القرن الماضي من ذوي التعليم المتدنّي، ولم يخرج من بينهم أدباء ومترجمون إلا بعد جيلين أو ثلاثة أجيال، على الرغم من أن هولندا شهدت في العقود الأخيرة ازديادًا ملحوظًا في عدد المهاجرين من ذوي التعليم العالي، إلّا أن عدد المترجمين لا يزال دون المستوى المطلوب. صحيح أن دور النشر العربية تختار منشوراتها وفق معايير معينة، تلعب ضمنها إمكانية التسويق دورًا هامًا، لكن الرواية من حيث جودتها الأدبية ومدى أهميّتها للقارئ العربي تلعب دورًا أيضًا، والمشكلة تكمن في ندرة مساحات التواصل وبالتالي التعاون بين دور النشر والمترجمين.
(*) أعتقد أن أوّل ترجماتك عن الأدب الهولندي كانت مع رواية "الاعتداء" لهاري موليش، والتي صدرت عام 2017 عن دار الكرمة، وأخيرًا صدرت لك ترجمة لرواية ثانية لهاري موليش وهي "اكتشاف السماء"، كيف لمست الفرق الأسلوبي بين العملين كقارئة وكمترجمة، خاصة مع المكانة النقدية التي تحتلتها رواية "اكتشاف السماء" في الأدب الهولندي، بوصفها أحد أكثر الأعمال الأدبية الفلسفية صعوبة وتشابكًا؟
في عام 2014 شاركت في ورشة ترجمة أدبية في أمستردام ومراكش، ترجمت أثناءها رواية "الاعتداء" لموليش، بعد ذلك حاولت نشرها في العالم العربي بدون جدوى، إلى أن تواصلت مع دار الكرمة عن طريق أحد الزملاء، وأبدت استعدادها لنشرها. هناك فرق واضح في الأسلوب الذي يستخدمة موليش في العملين؛ في "الاعتداء" يستخدم الأسلوب السردي من خلال عرض أحداث متسلسلة، تكمن وراءها أحيانًا أفكار فلسفية ونظريات نفسية، يجب على القارئ أن يستشفها بنفسه. أما في "اكتشاف السماء" فأسلوبه أقرب إلى الأسلوب التأملي من خلال عرض تأملات فردية ونقاشات على لسان شخصيات الرواية، عن العلم والدين والكون والفلسفة واللغة والسياسة والفن المعماري. هذه الشخصيات على جانب كبير من الثفافة – عالم لغوي، عالم فلك، نحَّات، أستاذ جامعي في الهندسة المعمارية، وهلم جرا- كل منهم لديه اهتمام بالقضايا الإنسانية العامة إلى جانب القضايا المتعلّقة بمهنته، هذه التأملات والنقاشات تحدث ضمن حبكة روائية محكمة، زاخرة بالأفكار التي تجعل القارئ يتوقف عن القراءة بين الحين والآخر ليتأمّل فيها ويفسّرها وربّما ليحدّد وجهة نظره. وهو بهذا المعنى أقرب إلى الأسلوب الشعري المتّسم بالغموض وازدواجية المعنى، التي يمكن لكل قارئ أن يفسّرها حسب معرفته وخبرته، تمامًا مثل الأفكار الفلسفية التي لا تعطي إجابات حاسمة لكنها تحثّ المرء على التفكير.
قدّمت أمينة عابد أربع ترجمات لأعمال روائية لكتّاب هولنديين من جيل الكبار وهم، من اليمين، هاري موليش وبرنلف وستيفان هيرتمانس وهيلا هاسّه |
(*) إذا افترضنا أن خلف كلّ مترجم للأدب "كاتب" من نوع ما، يختار وينتقي ما يترجمه المترجم قبل أن يفرض عليه السوق نوعية ما يترجم من كتب، والملاحظ أنك مخلصة للترجمات الروائية، فهل هذا يُعدّ تماشيًا مع السوق أم عدم ارتياح لترجمة الشِّعر أو الأنواع الأدبية الأخرى؟
لا أُحصر ترجماتي في الروايات، وإن كنت أحبّذها أكثر من الأنواع الأدبية الأخرى، وإنّما على ما يُطلب منّي وأراه مثريًا للقارئ العربي، فمثلًا ترجمت مجموعة قصصية للأطفال بعنوان "كتاب من أجلك" تضمنت أكثر من عشرين قصة وقصيدة، نشرت هنا في هولندا، وكذلك مذكرات للكاتبة الهولندية أنَّا روت فيرتهايم بعنوان "الإوز يأكل خبز البط"، ونصوصًا أدبية، وقصائد شعرية، ومقالات صحافية في إطار فعاليات أدبية وثقافية مختلفة، كما ترجمت أيضًا قصتين للأطفال: "ماذا تفعل؟" و"بيتي في حديقة الحيوانات"، صدرتا في العالم العربي، وقبل ما يقارب السنوات التسع ترجمت رواية بمبادرة ذاتية، لكنني لم أتمكن حتى هذه اللحظة من نشرها في العالم العربي، فتعلمت من هذه التجربة أن أعتمد في نشاطي الترجمي على الطلب.
(*) قدّمت أربع ترجمات لأعمال روائية لكتّاب هولنديين من جيل الكبار وهم هاري موليش وبرنلف وهيلا هاسّه، ورواية واحدة للبلجيكي ستيفان هيرتمانس، هل يمكننا أن نقول إن هناك فوارق لغوية لاحظتِها بين "هولندية" هولندا و"فلمنكية" البلجيكيين؟
الفلمنكية، أو الفلامندية كما يسمّيها البعض، هي لغة هولندية يتحدّثها الفلمنكيون القاطنون في إقليم فلاندر في بلجيكا، ولكن بلكنة مختلفة عن لكنة الهولنديين. الفلمنكية والهولندية متماثلتان على العموم، ولكن هناك فوارق في بعض المفردات، الأمثال والأقوال المأثورة، وقواعد النحو. أثناء ترجمتي رواية "الحرب والتربنتين" للكاتب البلجيكي ستيفان هيرتمانس، كنت أضطر في كثير من الأحيان إلى الاستعانة بالقاموس الهولندي الفلامندي، أعتقد أننا نستطيع تشبيههما بلهجتين عربيتين، على سبيل المثال اللهجة العراقية واللهجة السورية.
(*) وما الذي تشتغلين عليه الآن من ترجمات، وهل هناك مشاريع أخرى ستصدر قريبًا؟
الآن أعمل على مقالة عن الترجمة الأدبية من الهولندية إلى العربية ستنشر على موقع مركز الخبرات في الترجمة الأدبية. بعد ذلك سأبدأ بترجمة رواية وقّعت مؤخرًا عقد ترجمتها.