إذا كان ديفيد غروسمان (كاتب إسرائيلي) قال ذات مرّة إن إسرائيل تحوّلت إلى قلعة حصينة، "حيث يعيش الناس في خوف دائم من المجهول"، فإن حايا بولاك، الكاتبة والفنانة التشكيلية الهولندية، والناجية من الموت في أفران الغاز في أثناء الحرب العالمية الثانية، ترى أن هذه القلعة لم تعد حصينة بما يكفي بعد السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، وهي تُلقي باللوم في ذلك على بنيامين نتنياهو وحكومته المتطرفة، كما على ما تصفه بأنه "ضيق نظر حماس السياسي".
في كتابها الجديد "رسالة في الليل... تأمّلات حول إسرائيل وغزّة" (*)، تناقش الكاتبة المولودة عام 1941 لناشطين يهوديّين انخرطا في المقاومة الهولندية ضد الاحتلال النازي خلال الحرب العالمية الثانية، عددًا من الأفكار المتّصلة بالصراع العربي الإسرائيلي المعقّد، على خلفية تفجر الأحداث الأخيرة في قطاع غزة، من خلال بحث تاريخي وتقص سياسي، لكن - وقبلهما – عبر نظرة إنسانية لا تزال تؤمن بـ"العدل الإلهي" وفقًا لتعبيرها.
تغوص حايا بولاك في تاريخها الشخصي لتستخرج خلاصة تجربتها كيهودية ناجية من المحرقة، والتي تتفق فيها مع ما أعلنته خليفتها حنّه آرندت قبل سبعين عامًا من الآن، حين اعتبرت أنه "لا أمن لإسرائيل ما دامت تتّخذ من العنف والحروب نهجًا للتعامل مع جيرانها العرب"، لهذا لم تتردد بولاك في الإعلان عن استيائها من الانحياز السريع لشعبها الهولندي إلى جانب إسرائيل مباشرة بعد هجمات حماس بدون أن يفهموا حقيقة الصراع، فتقول في حوار لها مؤخرًا مع صحيفة "تراو" الهولندية: "عندما أعلن مارك روته، رئيس الوزراء الهولندي، وقوف بلاده جنبًا إلى جنب مع إسرائيل بعد هجمات السابع من أكتوبر الماضي، فكرتُ على الفور: هذا إطلاق ليد حكومة لا خير فيها".
في سنوات حياتها الأولى، اختبأت بولاك مع والديها في بيوت سرية عدة هربًا من النازيين، الذين نجحوا بعد وشاية في القبض على والديها وقادوهما إلى أحد معسكرات الاعتقال الهولندية، حيث مات الأب خنقًا بالغاز عقابًا له على مقاومته النازيين، فيما تنجو حايا الطفلة بأعجوبة بعد أن تم تهريبها وسط أطفال عائلة هولندية باسم مستعار، وتُنقذ الأم لاحقًا من الموت بعد انتهاء الحرب لتجتمع من جديد مع ابنتها الضائعة، هذه المعاناة الطويلة هي ما تقف بولاك أمامه في كتابها الجديد، قائلة إن نتنياهو "شوّه المعنى الحقيقي لليهودية، لأنه وحكومته المتطرفة تسببا في معاناة الملايين من الفلسطينيين كما الإسرائيليين، بإصرارهم على الدخول في حرب لا طائل من خلفها، سوى خلق أجيال جديدة من الراغبين في الانتقام".
منذ ظهورها بمطلع تسعينيات القرن الماضي بروايتها الأولى "مجرد ظهيرة يوم جمعة آخر" (1989)، اُعتبرت بولاك أحد الأصوات اليهودية "المعتدلة" في المشهد الثقافي والتشكيلي الهولندي، ودعّم انخراطها لاحقًا في العمل السياسي المناصر لحقوق الشعب الفلسطيني من تأكيد هذا التلقي لأعمالها الروائية اللاحقة، فقد كانت بولاك عضوًا في فريق التوصيات التابع للجنة دعم منظمات السلام وحقوق الإنسان الإسرائيلية (SIVMO) عام 2016.
هذه الخبرة الحياتية الطويلة كانت دائمًا المعين الذي كتبت منه حايا بولاك أعمالها الروائية الصغيرة، ومن بينها: "الأب الثاني"، و"سالكا" التي استوحتها من شخصية أمها في أثناء مقاومتها النازيين، و"بعد الحدود" و"عشاق خجولين" (2011)، و"عشرون دقيقة" (2015)، وكتابها اللافت "الرجل الذي لم يكره اليهود" (2018)، وصولًا إلى روايتها الأخيرة "حزن السلام" (2023). كما شكل فقدانها لابنها الأكبر عام 2006 انعطافة حادة في مسيرتها الأدبية، وهو ما ظهر لاحقًا في روايتها "في انتظار الشفق" (2014) التي كتبتها سعيًا منها لتأبين روح ابنها، وفي العام نفسه تصدر بولاك مجموعتها الشعرية "تقرير عن وفاة غير رسمية" (2014) أيضًا في رثاء ابنها الغائب.
هذا التاريخ الطويل من الانشغال بالجذور اليهودية والصراع العربي الإسرائيلي قاد الكاتبة اليوم - وقد تخطّت عقدها الثامن - إلى البحث من جديد في الكثير من المسلّمات التاريخية التي صارت تحكم الصراع العربي الإسرائيلي منذ عقود، ما أوصلها في تأملاتها تلك إلى وضع يدها على العديد من المشكلات السيكولوجية التي تتحكم اليوم في نفوس المنادين بالحرب من أبناء جلدتها، عبر نصوصها التي تكتبها في شكل رسائل مفتوحة إلى عائلتها التي تعيش في إسرائيل، والتي تقول لأحد أبناء عمومتها من سكان أريحا في إحداها: "على اليهود خاصة أن يرفضوا أن يعاني غيرهم ممّا عانوا هم أنفسهم منه".
في السطور التالية، نترجم الفصل الافتتاحي من كتاب حايا بولاك الجديد "رسالة في الليل... تأمّلات حول إسرائيل وغزةّ":
رسالة في الليل
1
في الوقت الذي أخطّ فيه السطور الأولى لهذا المقال، تنهال القنابل على غزّة كما تتساقط الصواريخ على إسرائيل، شهور مرَّت اليوم على السابع من أكتوبر/ تشرين الأول الماضي، حين انقلبت الدنيا رأسًا على عقب، ثمة أربع شموع حانوكا متوهجة تحترق في غرفتي، وفيما تتوسل عائلتي في إسرائيل لأجل حدوث معجزة، أجدني مشغولة البال بالتفكير في مقال قرأته للتوّ في هآرتس (صحيفة إسرائيلية ليبرالية لا يقرأها سوى خمسة بالمئة من السكان)، يحكي المقال عن صحافيّين شابين هما الفلسطيني الغزاوي أحمد الناعوق والإسرائيلي يوفال أبراهام Yuval Abraham، شابان في العشرينات من عمريهما، يؤمن كل منهما بأن معرفة "العدو"/ "الآخر" يمكن أن تقرّب السلام.
في عام 2019، أطلق الصحافيان معًا دعوة إلى سكان غزة للكتابة عن حياتهم اليومية، عن همومهم ومخاوفهم ورغباتهم، ونشرت الرسائل تحت عنوان "عبر الجدار" Across the Wall على أحد المواقع الإخبارية الإسرائيلية، وتصل الرسائل، ليس فقط إلى عيون الإسرائيليين، بل وأيضًا إلى قلوبهم، وفور الإعلان عن المشروع عبر موقع فيسبوك، عرض 150 إسرائيليًا ترجمة الرسائل من العربية إلى العبرية، وهو ما حدث بالفعل، صحيح أنها كانت خطوة متواضعة، لكنها وُجدت، لتفتح الحروف شقًا في عتمة ذلك الشريط المجهول من الأرض المكتظة بالسكان، لتدخل إليهم قليلًا من الضوء والهواء.
لم تكن الهموم اليومية فقط هي محور رسائل أهل غزّة، فالفقر والديكتاتورية كانا منتشرين أينما تنقلت في ذلك الشريط الصغير من البلاد، ورغم ذلك، وبفضل شقوق النور التي خلقتها الكلمات والجمل التي كتبها البسطاء، شعر سكان غزة أنهم أوصلوا أصواتهم إلى الآخر، وكشفت هذه الرسائل أننا جميعًا متشابهون، بشر عاديون نحب الخروج في العطلات مع العائلة والأصدقاء إلى الحدائق والبحر، نحتفل بأعياد ميلاد أبنائنا الصغار ونقلق على أدائهم الدراسي أو نتباهى به، نحن متشابهون، وقعنا في الحب وتزوجنا وطبخنا ووضعنا أطفالنا في الأسرّة ليناموا بأمان، حوّلت هذه الرسائل سكان غزة في نظر الإسرائيليين من جيران معادين يختفون خلف أسوار وجدران عالية، إلى أناس يشبهونهم.
لقد التقى الصحافيان، أتخيّل أنهما التقيا في مكان ما في أوروبا، ربما في مؤتمر ما، وقد تبادلا أطراف الحديث، ربما تصادف أن وجدا نفسيهما على الطاولة ذاتها وأمامهما العديد من المنشورات والكتب، أو انتظرا في غرفة الاستقبال نفسها، ربما حدث الأمر هكذا؛ انخرطا في حديث وسرعان ما فوجئا بتشابه همومهما وأحلامهما، ارتديا معطفيهما وقرّرا مواصلة الحديث في المقهى، تخيّلتهما جالسين متقابلين حول طاولة مقهى خشبية بنّية اللون، يشربان القهوة السوداء، الكثير من القهوة السوداء، مع الكثير من السكر، وبينما يتحدثان، يقتربان على الطاولة من بعضهما البعض بوجهين شاحبين، متأثرين باتفاقهما وإحساسهما بالحماسة والأمل، كان ذلك قبل السابع من أكتوبر/ تشرين الأول 2023 بأربع سنوات، بدا متشابهين، وكان ذلك واضحًا لعيون رواد المقهى، كلاهما له شعر داكن وعينان سوداوان تحت حاجبين داكنين، ولأحدهما لحية طويلة، ملابسهما نظيفة، يتهامسان بنبرة عفية، لا بدّ أنهما أخوان أو أبناء عمومة كما اعتقد المحيطون بهما، هكذا - في مخيلتي - ولدت خطة الأمل هذه هناك، في المقهى.
لبضع سنوات، ستُقرأ رسائل "عبر الجدار" في إسرائيل بعد ترجمتها إلى العبرية بعيون مفتوحة عن آخرها أحيانًا، ومترددة أحيانًا أخرى، لكنها كانت تُقرأ على كل حال، شارك في المشروع المزيد من المتطوعين من كلا البلدين، ثم جاء السابع من أكتوبر الماضي، يوم المجزرة السادية التي ارتكبتها حماس، والتي راح ضحيتها أكثر من 1200 قتيل إضافة إلى 230 رهينة، معظمهم من نشطاء السلام اليساريين الشباب. انقلب العالم رأسًا على عقب، فيما كان مشروع "عبر الجدار" يحوم فوق إسرائيل وغزة، ضائعًا بين القنابل والصواريخ، عاليًا في السماء الرقمية، من المؤلم أن نعرف، كما كتبت مجلة Foreign Affairs الأميركية المتخصصة في تحليل العلاقات الدولية في 25 أكتوبر 2023، أنه قبل ذلك الهجوم مباشرة، كانت الغالبية العظمى من سكان غزة محبطة من قيادة حماس ولم يؤيد معظمهم أيديولوجيتها.
بعد السابع من أكتوبر وما تلاه من أسابيع، كان الصحافي الغزاوي أحمد الناعوق في مكان ما في إنكلترا حيث لا يمكنه العودة إلى بلده، أفترضُ أنه في العاصمة لندن، وبسبب قلقه الشديد من التقارير المخيفة الواردة من بلده، لم يكن يريد شيئًا إلا العودة إلى عائلته، لكن الحدود مغلقة في وجهه، إلى أن يتلقى أحمد أخبارًا تفيد بأن جميع أفراد عائلته، 23 شخصًا، مدفونون تحت أنقاض منزلهم، لينتهي مشروع السلام بين الرجلين الملهمين نهاية مفاجئة، وربما أيضًا نهاية للصداقة بينهما.
أرى الشاب الفلسطيني الغزّاوي يتجول في شوارع لندن، يهبط المساء، ثم يحلّ الليل، يمشي ويمشي، محاولًا أن يستوعب موت عائلته بكاملها، هكذا... في لحظة واحدة، يردّد مع كل خطوة: "أنا وحدي، وحدي... فقدت أبي وأمي، أجدادي، أخوتي وشقيقاتي وعائلاتهم الصغيرة، كلهم رحلوا، وبقيت وحدي".
يتجلّى نور الفجر مرة أخرى وينفجر النهار، فيما أحمد الناعوق يمشي، لا يزال يمشي.
2
هذا الاجتثاث من كل شيء مألوف لي، عشت سنوات جميلة مع زوجي الثاني الكاتب نول فان دايك، قُتلت عائلته في الحرب، لم يبق له هو أيضًا أجداد أو أبوان، قُتل أعمامه الأربعة مع عائلاتهم الصغيرة، وكان عليه وهو في الرابعة عشرة فقط من عمره، أن يواصل حياته بعد هزيمة النازيين وتوقيع السلام، لم يكن قد نجا من المحرقة سوى أخته الصغيرة وشقيق والدته الأصغر، بقيت ثلاث شظايا من عائلة فان ديك الكبيرة وعائلة مويس الأصغر.
كان الصبي البالغ من العمر 14 عامًا يخزّن أحزانه في صندوق صغير - لكنه متين - تحت جلده، في مكان ما بمحاذاة معدته، هكذا تحدّث عنه، قال إنه أغلق الغطاء بضجة مدوية، بعد أن خزّن أحزانه وذهب، كان في الحادية عشرة من عمره عندما مزّقت أمّه نجمة داود عن سترته وسترة أخته الصغيرة، سار الطفلان بلا نجوم في شارعهما ممسكين بأيدي "أعمام" غرباء، لقد نسي الآن مَنْ كانوا، ظلّت الأخت الصغيرة تلتفت إلى الوراء وهي تلوّح، لكن الصبي لم يلتفت، لم يلوّح لأبيه وأمه اللذين كانا نصف مختبئين خلف ستائر النافذة، يراقبان طفليهما وهما يسيران في الشارع حتى يدوران حول الزاوية، قبل أن يختفيا عن أنظارهما.
مُحيت ذكرى والديّ زوجي من ذاكرته، ذكريات المنزل الذي كبر فيه، نعم، لقد كانت لديه ذكريات، صور واضحة وضوح الشمس للغرف، للسلالم المؤدية إلى الطابقين الأول والثاني، ومنها إلى العلية، وفي السقف كانت هناك الفتحة المؤدية إلى العلية، كان هو الوحيد - واقفًا على الدرابزين – الذي يستطيع أن يرفع نفسه بذراعيه الفتيّتين ويزحف إلى الداخل، حيث كان يحب اللعب في عرينه، العرين ذاته الذي - عندما اندلعت الحرب، وبناءً على طلب والديه - خبّأ فيه بعض اللعب النحاسية وألبوم صور.
لقد تذكر كل هذا بالضبط، لكن الغرف في ذاكرته ظلّت عارية، غير مأهولة، المطبخ أيضًا، وكذا غرف النوم. كانت الحديقة مهجورة في ذاكرته، ولم يتذكر أباه ولا أمه، رغم أنه كان في الحادية عشرة من عمره عندما انفصل عنهما، لم يكن يعرف السبب، بل لاحظ ذلك فقط، لكن قبل وفاته بأيام قليلة انبعثت داخله - مجددًا - بصيرة ما، من الصعب عليّ الآن أن أكتب عن هذه اللحظة، لكنني أجبر نفسي لأفعل، وأعلم أن "نول" كان ليوافقني، كأنني أسمعه الآن يقول لي: نعم... أخبريهم... أخبريهم. بكتابتي لهذه السطور، ها أنا أفعل: كنّا قد عرفنا للتو أن حالته لن تتحسّن، كان جالسًا ضعيفًا وهزيلًا على كرسيّه، فيما يخيم الهدوء على البيت بعد أن غادر بعض أصدقائنا للتو، نطق "نول" اسمي وهو يهم بالنهوض، فنهضت واقفة ليعاود هو الجلوس منهكًا، نظر كل منا إلى الآخر، ثم قال: "كان عليّ أن أراهم يموتون في غرف الغاز".
هذا الشعور الطاغي بالذنب الذي اعترى زوجي في هذه اللحظة، لمجرد أنه نجا مما لم ينج منه أهله، جعلني أيضًا أطرح السؤال الصعب: هل كان كلّ ذنب عائلته "أنهم كانوا يهودًا"؟ هل كانت المحرقة جزاء ستة ملايين يهودي فقط لأنهم كانوا يهودًا؟ وبالمثل: هل كان أفراد عائلة الصحافي الفلسطيني أحمد الناعوق مذنبين لأنهم فقط فلسطينيين؟
حماس أذنبت... لكن حكومة نتنياهو المتطرفة أذنبت هي الأخرى... والمستوطنون في الضفة الغربية أيضًا مذنبون لاستيلائهم على الأراضي الفلسطينية ومحاصرة سكانها، كما أن العالم كله – ذلك الذي لا يزال صامتًا، مكتوف الأيدي، غير مبالٍ – مذنب هو الآخر، حكومة نتنياهو مذنبة لاحتلالها شعبًا آخر وحرمانه من حريّته، وهو ما يؤكد ما قاله ديفيد غروسمان مؤخرًا: "إن إسرائيل بسلوكها هذا تُنكر إنسانية الآخر".
من يدفع الآن الثمن؟ إن الفلسطينيين هم من يدفعون الثمن، من أعمارهم وحيواتهم، الثمن الذي كان يجب أن تدفعه حماس وحكومة نتنياهو، ثمن لامبالاة قادة العالم، يدفعه الفلسطينيون من دمائهم يوميًا، كما يدفعه مواطنو إسرائيل بعد ضياع أمنهم.
(*)Chaja Polak, ‘Brief in de nacht, Gedachten over Israël en Gaza’, Cossee Essay, Amsterdam 2024.