}

خالد محمد عبده: التصوّف يقدّم للإنسان رؤى كثيرة

مليحة مسلماني 3 مارس 2022

 

خالد محمد عبده (مواليد القاهرة 1977) واحد من الباحثين البارزين اليوم في مجال الإسلاميات وعلوم التصوف، أتمّ دراسته للماجستير في القاهرة في موضوع "الجدل الإسلامي المسيحي"، ثم واصل دراساته العليا لنيل درجة الدكتوراه، وكان موضوع رسالته "التصوف عند محمد إقبال وجلال الدين الرومي". شغفه بالتصوف، كتجربة معرفية وسلوكية، قاده إلى خوض مسيرة بحثية طويلة في علومه وتحقيق مخطوطاته، فصدرت له العديد من الأبحاث والمؤلفات في المجال، إضافة إلى مشاركاته في مؤتمرات وندوات دولية وإلقائه المحاضرات في دول عربية وغربية عدة. حول محاور مؤلفاته وأبحاثه ـ ومن بينها: معنى أن يكون الإنسان صوفيًا، والعلاقة بين الفلسفة والتصوف، وجلال الدين الرومي، والمرأة والتصوف، والمسيح في التصوف، والتفسير الإشاري للقرآن- كان لنا معه الحوار التالي.

(*) مسيرة تمتد لحوالي عشرين عامًا في البحث في الإسلاميات والتصوف، بدأت بالماجستير ومن ثَمّ الدكتوراه، ليتبعهما العديد من الكتب بين مؤلفات وتحقيق مخطوطات العارفين الصوفيين، إضافة إلى تأسيسكم للموقع الإلكتروني المختص في التصوف "طواسين" وإشرافكم عليه؛ ما الدافع الرئيس الذي ظلّ محفزًا لكم في تلك الرحلة؟ ولماذا هناك حاجة إلى علوم التصوف اليوم؟

حفّزني على دراسة التصوّف والبحث فيه محبّتي له ورؤيتي لنفسي في رحابه باحثًا في طرق القوم الصوفيّة عن مجال تتحقّق فيه إنسانيتي أوّلًا، وأتتبع فيه خطًّا أجد فيه خطابًا مغايرًا لما هو سائد، من رؤيةٍ للعالم بما فيه من أناسيّ وأديان وأفكار، من رؤيةٍ لله الصاحب في السفر والمعين في الأزمة والمشجّع على البحث والرحلة، من رؤيةٍ تجمع الأشتات ولا تفرّق بينهم بحسب جنس أو عرق أو مذهب. وجدت في التصوّف ضالّتي بعد أن تيسّرت لي دراسة الجدل الدينيّ والمذهبيّ، ولأنّ شيئًا من الجدل لم أقنع به ولم أر نفسي فيه، مضيتُ في الطريق الذي أراه أرحب وأفضل.

أمّا عن الحاجة إلى علوم "التصوّف" بمعناه الأوسع؛ فهي حاجة يدركها المتابع لما يدور بنا ونوضع فيه من مشكلات زائفة لأنّنا عربٌ أو مسلمون فحسب! فالخطاب الدينيّ السائد إمّا مدافع عن "شبهة"، أو ملبّيًا لطلب سلطة، أو مرقّعًا خَرْقًا بغلاف حداثة وتنوير يرى فيه صلاح عالمه، وقلّة من المعنيّين بالحديث مع الجمهور من يتقنون استثمار التراث الروحيّ الإسلاميّ والكشف عن كنوزه المخبّأة، ويكفي أن يتابع الباحث ما يحدثه التصوّف من أثر على أيدي المهتدين الجدد إلى الإسلام، أو الناطقين بلسان غير عربيّ في المجامع العلميّة والمنابر الإعلاميّة.

يقدّم التصوّف للمسلم المعاصر رؤى كثيرة بتعدد مسالكه وطرائقه، أهال بعضهم التراب عليها وغيّبها وسكت عنها، رؤى تفيد الإنسان في تجربته الدينيّة وتطويرها، وتساعده على التعامل معها بحيوية وصدق، وتُريه أبوابًا ونوافذ يلج من خلالها إلى عوالم أرحب، إذْ يمكّنه التصوّف من التعرّف على كلّام الله من دون واسطة، بعيدًا عما تقوله علماء المذاهب الإسلاميّة وتجادل فيه اليوم. إنّ بعض الأفكار الحيّة في علم الكلّام الإسلاميّ والطبيعيات غُيّبت عربيًّا بسبب اهتمامنا بقضايا الخلاف الفرقيّة الزائفة، يعلّمنا التصوّف أنّ الاقتصار على الاهتمام بالظاهر والانشغال بالتفاصيل حَجْب لحياة النفوس الحقّة، فلا يمكن للغافلين الذين تحكمهم أنفسهم أن يدركوا الطريق إلى الله ولا منازله في خضمّ انشغالهم بكلّ شيءٍ من دون أن ينشغلوا بإصلاح حياتهم.

(*) اعتنت مؤلفاتك بتعريف التصوف في سياق الواقع المعاصر، فمن بينها كتاب بعنوان "معنى أن تكون صوفيًا"، كما صدر لكم مؤخرًا كتاب "التصوف بين اليوم والأمس"، فما معنى أن يكون الإنسان صوفيًا اليوم؟

كتب أحدُهم يومًا ما عن التصوّف تجربة وطريقًا ومذهبًا، أكّد في نصّه أنّ التجارب تدلّ على أنّ الاعتماد على التعريفات في فهم الشيء المعرّف فهمًا صحيحًا أمرٌ غير سليمٍ، لأنّ التعريفات كثيرًا ما تفشل في تصوير الشيء المعرّف تصويرًا دقيقًا، لا سيّما إذا اتصل هذا الشيء بحقائق روحيّة أو نفسيّة. ومع ذلك فإنّ الإنسان لا يقاوم نزعة التعرّف على الأشياء بطريقة مختصرة مركّزة رغم جنوح العقل إلى التحليل والتجزئة. وليس من الإنصاف وصف تعريفات التصوّف بأنّها خاطئة، وإنّما يمكن وصفها بأنّها ناقصة، لا تصوّر إلّا جزءًا من الحقيقة، ولا تمثّل إلّا جانبًا خاصًا تركّز عليه الاهتمام، وهذا ما جعلنا نؤمن بقلّة جدوى البحث في أصل كلّمة التصوّف في اللغة العربيّة، فعشرات الصفحات سوّدت في ذلك. وتؤكّد إيفا دوفيتري ميروفيتش Eva Devitray-Meyerovitch (ت 1999)، بعد رحلتها مع التصوّف دراسة وسلوكًا وحياة، على أنّ التعريفات المقترحة من شيوخ التصوّف الكبار ليست سوى مقاربات فحسب، فعدد الـطُرُق بعدد السالكين، ولا تُدرِكُ النفسُ إلّا ما هي مؤهّلة لإدراكه.

أرى في التصوّف التفاتة إلى صُلب التعاليم الإسلاميّة وروح الرسالة المحمّدية، إذا غاب الإنسان عن المعنى الحقيقيّ أعاده التصوّف إليه، فلا ينساق وراء غرائزه ويتعلّل بالأحكام والمباح والجائز، يعوّل على قلبه وضميره، ليصل إلى مقصود غالٍ ونفيس، لا إلى عَرَضٍ زائل وغير نافع. التصوّف أرحب من المذهبيّة والأيديولوجيات، فمعنى أن تكون صوفيّا أن تترفّع عن العنصريّة والعصبيّة والخصومات المذهبيّة، وأن تعرف أنّ شعار "نحن على الحقّ، ومن سوانا على الباطل ومن أهل الزيغ والضلال" شعارٌ مضللٌ وقاتل لفكرة الإخاء الإنسانيّ! فلم يكن المتصوّفون الأوائل وأهل التجارب الروحيّة يفعلون ذلك! فالحقّ لم يكلّف واحدًا منهم بالحديث باسمه، أو بالتكلّم نيابة عنه!

في هذا المعنى ينشد جلال الدين الروميّ قائلًا: "أيّها القلب! لماذا أنت أسيرٌ لهذا الهيكل الترابيُّ الزائل؟ ألا فلتنطلق خارج تلك الحظيرة، فإنّك طائرٌ من عالم الروح. إنّك رفيق خَلوة الدلال، والمقيم وراء ستر الأسرار، فكيف تجعل مقامك في هذا القرار الفاني؟ أنظر إلى حالك واخرج منها وارتحل من حبس عالم الصورة إلى مروج عالم المعاني. إنّك طائر العالم القدسيّ، نديم المجلس الأنسيّ فمن الحيف أن تظلّ باقيًا في هذا المقام".





(*) ناقشت في مؤلفاتك العلاقة بين الفلسفة والتصوف، واستخدم الصوفيون مصطلحات مثل "العارف" و"الإنسان الكامل" و"الشيخ المرشد" وغيرها للإشارة إلى أهل العرفان منهم ولم يستخدموا مصطلح "فيلسوف"، كما لم يسمّوا علومهم "فلسفة"؛ برأيكم، هل ثمّة لقاء بين الفلسفة والتصوف، أم أنهما طريقان معرفيّان يفترقان؟

يظنّ كثيرون أنّ التصوّف والفلسفة ينتميان إلى مرتبتين منطقيّتين مختلفتين؛ فحجّة الإسلام الغزاليّ الصوفيّ أطلق رصاصة الرحمة على الفلسفة كما يقول الأب فريد جبر. ومن هنا اعتبروا أنّ التصوّف والفلسفة في خصومة دائمة، لكن يحقّ لنا أن نتساءل هل عرف الفكر الإسلاميّ هذه الخصومة القطعيّة؟ أفلا يوجد صوفيّ جمع بين علومه التي أتقنها ودرسها وعلم الفلسفة وهي من أمّهات العلوم؟ هل الإنسان حواسٌ وإدراك حسيّ وعقل مجرّد فحسب؟ أليس للقلبِ - كما يقول العارفون وأصحاب القلوب- أو لقوة أخرى في الإنسان دورٌ في مساعدته على تجاوز وتيرة حياته العاديّة إلى أحوالٍ لا يجد لها تفسيرًا أحيانًا بالمنطق المعهود؟ أليس يقومُ فينا مدٌّ روحانيّ لا تقيّده الحواس ولا المادة ولا يصدمه مكان ولا يحدّه زمان؟ ألسنا نشعر بذلك في أعماقنا فتحضرنا أحوال غريبة أو نستحضرها أحيانًا؟

إنّ الإيمان بالفصل بين العلوم التي نشأت في رحاب الحضارة الإسلاميّة قصورٌ يصيب المتديّن المتعصّب لمذهبه وتيّاره فحسب، فلم تعد الأجيال المعاصرة تنظر إلى هذا الفصل بعين الرضا أو تقبله كما يفعل بعض المسلمين، فرفض الشباب المسلم المعاصر هذه العصبيّة وأعلن رفضه لها. وتتمثّل صور هذا الرفض في إقبالهم على مطالعة الأدبيّات المخالفة لمذهبيّتهم الموروثة، ومخالطة المخالفين مذهبيًّا، والتعرّف على ما لديهم من أفكار وآراء حُجبت عنهم في السابق بحكم التربية والتعليم المتعصّب. كذلك يظهر رفضهم من خلال الانفتاح على الدراسات الغربيّة الحديثة، التي ينصبّ عملها على قراءة وتحليل "تراث الإسلام"، وتتناول جميع الفرق والمذاهب دون استبعاد لأيٍّ منها مهما بدا شاذًا أو غير مقبولٍ لدى جماهير المسلمين والمؤسسات الدينيّة.



العودة إلى جلال الدين الروميّ

(*) لجلال الدين الرومي، تجربةً روحية وشعرًا وتراثا صوفيًا، حضور جليّ في أبحاثكم، ومن بينها كتابكم الصادر مؤخرًا "حضور جلال الدين الرومي في الثقافة العربية". لماذا هذا الاهتمام بالرومي تحديدًا؟ ما أكثر ما يميز التجربة الروميّة بشموليتها عن نظيراتها من التجارب العرفانية الأخرى في العالم العربي؟ إلى أي مدى تحضر هذه التجربة اليوم في الثقافة العربية؟ وما التأثير الذي تتركه فيها سواء على المستوى الفكري أو الثقافي الشعبي؟

العودة إلى جلال الدين الروميّ فيها التماس لمعاني الجمال والروحانيات التي زخرت بها الثقافة الإسلاميّة، ومحاولة للاقتراب من تراث الصوفيّة الفارسيّ الذي ظلّ مجهولًا فترة كبيرة عند المتلقي العربيّ، فما تُرجم من هذا التراث في بدايات القرن الفائت لم يعد يلقى اهتمامًا ودَرْسًا كما كان، فإذا قارنّا ما أنتجه أعلام الدراسات العربيّة بالأمس وما أُنتج حاليًا وقفنا على هوة كبيرة في الاهتمام العربيّ برموز التصوف الإسلامي المدوّن باللغة الفارسية. لذا فإنّ إعادة قراءة الروميّ اليوم ومحاولة التعرّف على حضوره العربيّ تجعلنا نعيد رسمَ خريطتنا المعرفية بشكل صائبٍ، فإذا كان تقييم الروميّ من المحبّين يقتصرُ على ترديد أحكام العظمة والمبالغة في تبجيله، ومن المخاصمين يقتصرُ على القدح في ديانة الروميّ، فإنّنا من خلال القراءة نستعيدُ موقعنا الثقافي من جديدٍ. 

يتميّز التصوف المولوي بميزات عدّة؛ فعند مطالعتنا لأعمال الروميّ نرى كيف يعيد بناء الذات وتأسيسها من خلال التقاطه لمظاهر الجمال والفن من صور الحياة اليوميّة ونشاطات أهل الحِرف والصّناعات والباعة والمهمّشين، رادًّا إياها إلى أصولها الإلهيّة ومذكّرًا بالأصل الإنسانيّ المغيّب، فالغالبُ على أهل التدين ما يُنشر من صور العنف والانغلاق، لذا فإن استحضار نموذج الروميّ يصبح ضرورة ملحّة اليوم. ويجمع المفكّرون والمحقّقون على أنّ كتاب المثنوي يُعدُّ في طليعة المأثورات الأدبيّة العالمية، وقد علت مكانته، وذاعت شهرته في كلّ مكان، حتى لا تكاد تخلو لغة من اللغات الحيّة من ترجمة للمثنوي، وقد سيطرت ألوانه الفنيّة على القلوب منذ مئات السنين، وقد كان الروميّ صورة مجسَّمة للعشق الإلهيّ من الرأس إلى القدم، وكلماته هي التعبير عن رسالة العشق من البداية إلى النهاية، وعلى حدِّ قوله: "لو خلا قلب الإنسان من العشق لم يبق من آدميّته، إلا صنمٌ من لحمٍ ودم بدل الحجارة، والشعبُ الخالي من العشق لا يعدو أن يكون أكوامًا من التراب".



(*) اعتنت مؤلفاتك كذلك بمقام المسيح في الإسلام والتصوّف؛ وعلى الرغم من أنه يشكل موضوعًا للجدل العقائدي إلا أن تجلّيات حضوره وأمّه مريم عليهما السلام، في أدبيات العارفين، كثيرة ومتنوعة وتشير إلى أهميته في التجربة العرفانية والسلوكية في الطريق، ما الذي يشير إليه حضور المسيح في التصوف وأدبياته؟

تسعدنا الصور المرسومة للسيّد المسيح في التراث الصوفيّ. لقد رأى الصوفية في المسيح أنفسهم، فأعادوه حيًّا بالجسد والتجربة والمواقف، قد يكون ما سجّلوه عن المسيح في أعمالهم أسطورة أو رمزًا أو قصة من نسج خيالهم كان بطلها المسيح الحيّ حقًّا بولادتهم هم، وهي "الولادة الثانية" التي كثيرًا ما يشيرون إليها، حينما نقرأ أنّ صوفيًّا يعتبر قلبَ الإنسان بمثابة عيسى، وذِكْر الله كـَلَبن مريم، فإذا مَنح الإنسان الروحَ غذاءها تطّهرت وتقوّت، ووُلِد عيسى الباطنُ (مسيحُها) في حناياها، وتظل تبحث عن هذا المسيح الغائب مع الصوفيّة دون أن تكون بحاجة لقصة من قصص بني إسرائيل أو التفاتة لما يقوله التاريخ، هذا باب آخر من الأبواب المفتوحة على عالم لا تدركه الكلمات.


(*) لديك شغف أيضًا بموضوع المرأة والتصوف وبتجارب العارفات من النساء على مرّ التاريخ، وغنيّ عن القول نُدرة المصادر التي تتحدث عن سِيَر العارفات، سواء تلك الحديثة أو القديمة؛ إلى أي مدى تحضر المرأة رمزيةً وتجربةً في التصوف وأدبيّاته، وهل ستخصّصون مستقبلًا بحًثا موسّعًا في الموضوع؟

آمن الصوفيّ أنّ المراتب الروحيّة مفتوحة للمرأة كما للرّجل، فالإنسان ذاتٌ أمام الله، لا فرق بين واحد وآخر لا بالجنس ولا باللون ولا بالسنّ، الفرق هو في مرتبة قربه من الله. لم تكن المرأة غائبة من وجدان الصّوفي وتجربته، بل كانت رفيقته في طريق العشق للمعشوق الأوحد. ويؤكد قولنا أنّ كثيرات من نساء المتصوّفين الكبار كنّ شريكات لأزواجهنّ في الطريق إلى اللّه، كزوجة الحكيم الترمذيّ شريكته في ولايته، وفاطمة زوجة ابن خضرويه التي شهد لها البسطاميّ بمقام الفتوّة، وقال عنها ذو النون: هي وليّة من أولياء الله، وهي أستاذي. إنّ النساء كنّ بابًا لشُهود المتصوفة لله، فحيث أنّ الحقّ سبحانه لا يُشاهد مجردًا عن المواد أبدًا، حتّى لو شاهد الرائي نورًا فالنور مادة، فشهود الإنسان للحقّ سبحانه في النساء هو أعظم شهود وأكمله، وهنا تصبح المرأة الإنسان بابًا مفتوحًا يعبر منه الشاهد إلى الجمال المطلق من خلف حجاب الصور.

لقد حفل التاريخ الإسلاميّ بالعديد من العابدات السالكات من كافة الفرق الإسلاميّة، وإن حظيت نساء "أهل السنّة" باهتمام الباحثين دون غيرهن من أهل الفرق الأخرى كالخوارج والشيعة، رغم إشارات الكتّاب إلى أسماء العديدات من السالكات، ومن ذلك ما نبّهنا إليه الجاحظ في أعماله بذكره لتينك النسوة المشهورات بالعبادة والزهد في الفرق الإسلاميّة. كانت المواقف متعددة من هذا التراث الوفير الذي تظهر فيه المرأة فاعلة في المجتمع ومساهمة في بناء علومه ومؤثّرة في نهضته، مما انعكس على نظرات الباحثين ومعالجاتهم لموضوع سِيَر السالكات المؤمنات، بحيث يمكننا بعد تدبّر أعمالهم أن ننظر إلى الموضوع من وجهات عديدة تفيد في استثمار ذلك التراث، ويمكننا تلخيصها في المحاور الآتية: 1-المرأة في التصوف. 2- تاريخ المرأة الصوفيّة (ذكر النسوة المتعبّدات). 3-المرأة موضوعًا للدرْس الصوفيّ. 4-المرأة باحثة ومنتجة في الدراسات الصوفيّة. وينصبّ اهتمامنا شخصيًا على محور تاريخ المرأة الصوفيّة (ذكر النسوة المتعبّدات) بغية التعرف والكشف عن حضور النساء في كتب المناقب والتراجم.


(*) أخيرًا، يحتل التفسير الإشاري (أو الذوقي) للقرآن اليوم حضورًا هامًا في المشهد البحثي في التصوف، ولك في هذا المجال تحقيقٌ لمؤلفات ثلاثة من العارفين كتبوا تفسيرات صوفيّة لسورة يوسف، وهو كتاب "التفسير الصوفي لسورة يوسف"، إضافة إلى أنك انتهيت موخرًا من تحقيق تفسير أبو الحسن علي بن محمد الديلمي للقرآن الكريم؛ ما هو التفسير الإشاري للقرآن؟ ولماذا هناك حاجة إليه اليوم؟

تختلف تجربة كلّ صوفيّ عن غيره بحسب ما وصل إليه وما رُزقه من فهم ومعرفة، كما تختلف تفاسير أهل الظاهر للآية الواحدة، فهل يلغي الصوفيّ التفاسير الظاهريّة بما يقدّمه لنا من أذواق جديدة حول معاني الآيات؟ يرى ابن عطاء الله السكندريّ، حكيم المتصوّفة (ت709هـ)، أنّ ما يفعله الصوفيّ ليس إحالة للظاهر عن ظاهره، ولكنّ للآية مفهومًا، منها ما جُلبت له (أسباب النزول) ودلّت عليه في عُرف اللسان، وهناك أيضًا أحكام باطنة تُفهم عن الآية لمن فتح الله قلبه، فلا يصدنّك عن تلقّي هذه المعاني من أهل التصوف أن يقول ذو جدل ومعارضة: هذه إحالة لكلام الله، فليس ذلك بإحالة، وإنّما كان يكون إحالة لو قالوا: لا معنى للآية إلّا هذا، وهم لم يقولوا ذلك. على أنّ الصوفيّ حريصٌ على تدبّر التفاسير الظاهرة والتعرّف على ما جاء فيها، ويؤكد حجّة الإسلام الغزاليّ (ت505هـ) على أنّه لا مطمع في الوصول إلى الباطن قبل إحكام الظاهر، ومن ادعى فهم أسرار القرآن ولم يُحكم التفسير الظاهر، فهو كمن يدّعي البلوغ إلى صدر البيت قبل مجاوزة الباب، أو يدّعي فهم مقاصد الأتراك من كلامهم وهو لا يفهم لغة الترك.

ويحسن بنا أن نذكر مثالًا على التفسير الصوفيّ يوضّح للقارئ هذا اللون من التفسير، حينما قرأ أبو يزيد البسطاميّ قوله تعالى: ﴿إِنَّ الْمُلُوكَ إِذَا دَخَلُوا قَرْيَةً أَفْسَدُوهَا وَجَعَلُوا أَعِزَّةَ أَهْلِهَا أَذِلَّةً وَكَذَٰلِكَ يَفْعَلُونَ﴾ [سورة النمل:43] فسّر الآية قائلًا: "أراد بذلك أن عادة الملوك إذا نزلوا قرية أن يستعبدوا أهلها، ويجعلوهم أذلّة لهم، ولا يقدرون أن يعملوا شيئًا إلّا بأمر الملك، وكذلك المعرفة، إذا دخلت القلب لا تترك فيه شيئًا إلّا أخرجته ولا يتحرك فيه شيءٌ إلّا أحرقته". ونلاحظ في تفسير البسطاميّ للآية أنّه حافظ على المعنى الظاهر للآية، وعن طريق المشابهة بين ما تفعله الملوك من إفساد واستعباد وما تفعله المعرفة بقلب الإنسان ذكَرَ لنا ذوقه وإشارته الصوفيّة حول هذه الآية.

لكنّه في سياق آخر قدّم لنا لونًا تفسيريًا مغايرًا، حَظيَ بحوار صوفيّ من ابن عربيّ بعد فترة من الزمن؛ فحينما سمع أبو يزيد قارئًا يتلو قوله تعالى: ﴿إِنَّ بَطْشَ رَبِّكَ لَشَدِيدٌ﴾ [سورة البروج: 12]، فقال: "بطشي أشدّ". أي إنّ بطشي أشدّ من بطش الله عز وجل. وقد حظيت هذه العبارة التي نطق بها البسطاميّ باهتمام الصوفيّة وغيرهم من العلماء، وصُنّفت ضمن "شطحات الصوفيّة"، إلّا أنّ ابن عربيّ فسّرها بشكل مقبول، معتبرًا أنّ المخلوق إذا بطش فلا يكون في بطشه شيءٌ من الرحمة، بل قد يخالطه الانتقام فيزيحه عن العدالة، أما بطش الله عز وجل وإن كان شديدًا ففيه رحمةٌ بالمبطوش به.

هذا العالم الرحب من القراءات والتأويلات هو ما جعلني أهتمّ بالتراث الصوفيّ لتنوعه وثرائه وفتحه الباب لي على عالم لا ينتهي جماله.


الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.