}

عن نظرية التجلّي في فكر الأمير عبد القادر الجزائري

مليحة مسلماني 12 مارس 2024

في كتابه "نظرية التجلّي في فكر الأمير عبد القادر الجزائري"، يتناول الباحث الجزائري فرعون حمو بتفصيل وافٍ عقيدة التجلّي في الفكر الإسلامي بعامّة، على اختلاف مذاهب ومشارب أئمّة الإسلام وعلمائه، وفي فكر الأمير عبد القادر الجزائري بخاصة، ذي المشرب الأكبريّ، نسبة إلى الشيخ الأكبر محي الدين ابن العربي، الذي يُعتبر شيخ الأمير عبد القادر وأستاذه الروحي، ويعدّ ابن العربي بدوره أول منظِّر ومفسّر لعقيدة التجلّي الصوفية في تاريخ الإسلام العقائدي.

يعمل فرعون حمو أستاذًا محاضرًا بجامعة عبد الحميد بن باديس بولاية مستغانم في الجزائر، ويأتي هذا الكتاب استمرارًا لمسيرته الأكاديمية والبحثية، التي تضم الكثير من الأبحاث والدراسات في علوم التصوّف، والتي ينجزها بدقّةِ وموضوعيةِ الباحث الأكاديمي، وبحسّ وشغفِ العارف المنتمي إلى التصوّف معرفةً وسلوكًا عمليًا، فامتلك حمو بذلك القدرة على الكتابة في التصوف من داخله، ليخاطب من هُم داخله وخارجه، من مستويات مختلفة من القرّاء، من صوفيّين، ومثقفين وباحثين، وفلاسفة شرقيين وغربيين، ومسلمين وغير مسلمين. 

الكتاب بالأصل هو أطروحة أعدّها الباحث لنيل درجة الدكتوراه، أما رسالته للماجستير فكانت في "فلسفة الاختلاف عند الأمير عبد القادر الجزائري". لكنه في هذا الكتاب ــ الواقع في 594 صفحة (من القطع الكبير)، والصادر حديثًا عن دار ألفا للوثائق بالجزائر- يُمْعِن في قراءة وتحليل عقيدة التجلّي، التي يرى أنها جوهر التصوف و"علبته السوداء" التي يمكن من خلالها تفسير كل شيء، كما يعتبرها "العقيدة الرَّحْميّة الأمّ التي عنها تفرّعت كل العقائد، ومنها انبجست كل الأفكار والتصورات، وهي الترجمة المباشرة لعقيدة التوحيد".

وفي تقديمه للكتاب، يستعرض الشيخ، والعارف الأكبريّ، عبد الباقي مفتاح، الخطوط العريضة للتجلّيات الوجودية عند الشيخ الأكبر ابن العربي، ومصادرها في كتبه، ومعانيها وأصنافها، معتبرًا أن ابن العربي ووَرَثة علومه، وفي مقدمتهم، في القرن الثالث عشر الهجري، الأمير عبد القادر، هم أبرز من أفصَحَ بجلاء وتفصيل، في سياق التراث الإسلامي والعالمي، عن تجلّيات الأسماء الإلهية في جميع المراتب الوجودية.

أنثروبولوجيا أبناء البلاد

يطرح فرعون حمو، في مقدمّة كتابه، أسئلةً حول ما إذا كان البحث في التصوّف بعامة، وفي أفكار الأمير عبد القادر بخاصة، يسهم في حلّ قضايا الواقع المعاصر، وفي تقديم حلول عمليّة لمشاكل الإنسان الراهنة، وعمّا إذا كان فهم وتحليل عقيدة التجلّي يساهم في تحقيق السلام وتجسيد الشراكة بين بني البشر. وهو يذكر أن طرح نظرية التجلّي الصوفية للتحليل والدراسة يؤدي  إلى إقحام البحث الأنثروبولوجي إلى عتبة الفضاء الديني، لما يطرأ خلال البحث من تقاطع مع بعض المعاني الاصطلاحية التاريخية التي تنتمي إلى علم الأنثروبولوجيا.

كما يرى الكاتب أن هناك حاجة ماسّة إلى ما يسمّيه علماء الاجتماع "أنثروبولوجيا أبناء البلاد الأصليين"، من خلال العمل على إثراء العلوم الإنسانية، بإضافات تنظيرية ومنهجية جديدة، تقوم على أسس معرفية تنطلق من الخصوصيات الثقافية، وتتواءم مع الواقع العربي الإسلامي، خاصة في ظل إقرار الفكر الأنثروبولوجي الحديث بالعلاقة بين النظرية والممارسة، إذ يبدو أنه من غير الممكن الفصل بينهما في مجال العلوم الاجتماعية والإنسانية. لذا، يحضر هذا الكتاب، حول التجلّي عند الأمير عبد القادر، كمنجَزٍ بحثيّ أنثروبولوجيّ صوفيّ دينيّ، لكاتبٍ تشبّع بالثقافة الجزائرية العربية الإسلامية والصوفيّة.  

يرى فرعون حمو أن عقيدة التجلّي في الإسلام لها ما يؤسّسها في النصوص الدينية وما يؤكد مشروعيتها


الإحيائية كتأويل للتجلّي

يفترض الكاتب أن نظرية التجلّي هي تصويب وتأسيس شرعي ديني إسلامي لفكرة الأنيميزم الأنثروبولوجية، وهو ما يتناوله في الفصل الأول الذي يستعرض فيه بعض التحليلات، من منظور علم الإنسان، للأنساق الدينية. وبحسب البحوث فإن الدين هو ظاهرة اجتماعية إنسانية ثقافية ملازمة للوجود الإنساني، فالمقدّس، كما يقول عالم الأديان ميرسيا إلياد، هو عنصر من عناصر الوعي وليس مرحلة من مراحل تاريخ الوعي؛ "ذلك أن عالمًا ذا معنى ــ والإنسان لا يسعه أن يعيش في العماء أو الخواء ــ هو حصيلة سيرورة جدلية يمكننا أن نسميها عملية تجلّي المقدس".

ويطرح الكاتب الإحيائية، أو المذهب الحيوي أو الأنيميزم، باعتبارها تمثّل تأويلًا أنثروبولوجيًا لنظرية التجلّي. وهي، أي الإحيائية، نظرية صاغها إدوارد تايلور وتعني "الاعتقاد في وجود الأرواح في كل شيء"، وتعني أيضًا "الاعتقاد الذي يضفي على الظواهر الطبيعية الحياة أو الروح، أو بمعنى آخر النزوع نحو إسباغ بعض الخصائص فوق الطبيعية أو الروحية على أشياء من قبيل النباتات والمعالم الجيولوجية، والظواهر المناخية وغيرها...".  

وإذا كانت الإحيائية تشير إلى الاعتقاد بسريان الحياة في جميع الموجودات، بما فيها الجمادات والمواد الجسمانية الأخرى، فإن هذا المبدأ يحظى بحضور جليّ في المرجعيات النصّية الإسلامية، وهو ما تشير إليه الكثير من الآيات القرآنية، من بينها الآية "إِنَّا عَرَضْنَا الْأَمَانَةَ عَلَى السَّمَاوَاتِ وَالْأَرْضِ وَالْجِبَالِ فَأَبَيْنَ أَن يَحْمِلْنَهَا وَأَشْفَقْنَ مِنْهَا وَحَمَلَهَا الْإِنسَانُ إِنَّهُ كَانَ ظَلُومًا جَهُولًا" (الأحزاب :72)، فنسبَ للسماوات والأرض الشفقة والإحساس وهما من سمات الحياة، إضافة إلى ما ورد في القرآن حول تسبيحَ الأشياء كلها: "وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ وَلَٰكِن لَّا تَفْقَهُونَ تَسْبِيحَهُمْ " (الإسراء: 44)، وما نُسب كذلك إلى الهدهد والنمل من الكلام. يضاف إلى ذلك أحاديث نبوية كثيرة تؤكد شيوع فكرة الأنيميزم في الإسلام، كقول النبي محمد عليه السلام "هذا أُحُد جبلٌ يحبّنا ونحبّه". وبذلك يمثل هذا المعنى للإحيائية الترجمةَ الأنثروبولوجية لمعنى نظرية التجلّي القرآنية الإسلامية.

يستعرض الكاتب تبعًا لذلك تمثّلات الأنيميزم عند كل من الشيخ الأكبر والأمير عبد القادر؛ فعند الأول كل شيء في الأكوان حيّ بما ذلك الجماد، فالحياة سارية في كل الموجودات، ويقيس ابن العربي على الآية "وَإِن مِّن شَيْءٍ إِلَّا يُسَبِّحُ بِحَمْدِهِ"، فإذا ثبت له التسبيح فهو حيّ، وهو ما يقرّ به المؤمنُ بالقرآن، وصاحبُ الكشف الذي يشهد تسبيح الموجودات من جماد وغيره فيشهد حياتهم. يثبت الأمير عبد القادر كذلك الحياة لكل ما سوى الله باعتباره تجليًّا مباشرًا لله، فعنده "العالم الجسماني الطبيعي محلّ الظهور الإلهي الكماليّ، إذ لولا الكثيف ما عُرف ولا سُمِع خبر اللطيف، وظهور الحق تعالى بالأجسام أكمل من ظهوره بالأرواح"، و" العالم كله ذو روح، لأن العالم كله إنما كان عن الطبيعة والعناصر، وهي مظاهر الأسماء". 

صورة الأمير بين الظاهر والباطن

يقدم الكاتب في الفصل الثاني سيرة مفصّلة لحياة الأمير عبد القادر الجزائري (1807 – 1883)، ليتابع القارئ عبر سلسلة من الأحداث الهامة المرتبة زمنيًا، حياةً حافلة بالعمل السياسي والجهادي المقاوِم للاستعمار الفرنسي للجزائر، إضافة الى تجربته الصوفية، التي تمثلت خلاصتها في كتابه "المواقف في بعض إشارات القرآن إلى الأسرار والمعارف"، وهو كتابه الوحيد في علوم التصوف والعرفان، ويعتبر أهم ما كتبه بين مؤلفاته الأخرى. وأهم مواضيع كتاب المواقف، كما يرى حمو، حقيقةُ وحدة الوجود بالمعنى الإسلامي الأصيل والعرفاني العميق، لا بالمفهوم الفلسفي الإلحادي الذي يخلط بين الخالق والمخلوق، بل بالمفهوم القرآني في توحيد الأفعال ووحدة الأسماء الصفاتية وأحاديّة الذات.

يسلط الكاتب الضوء على أهمية المكوّن الثقافي والروحي في فهم فكر الأمير عبد القادر ومواقفه؛ ذلك أن تكوينه الروحيّ والثقافة التي تلقّاها في صغره لعبا دورًا مؤثرًا في توجيه سلوكه وبلورة مواقفه خلال مسيرة حياته، وشكّلا رؤيته للوجود والحياة. كما يرى الكاتب أن صورة الأمير العسكري طغت على صورة الأمير الصوفي والمثقف في كثير من الكتابات التي تناولت حياته السياسية والحربية، ذلك أنها كتابات أخذت بالجزء غالبًا، وغفلت عن قراءة الحدث التاريخي كاملًا بسياقه الشمولي.

وبينما أُشْبِع الجانب السياسي والعسكري في حياة الأمير بحثًا، إلا أن الجانب الروحي ظلّ غائبًا عن حقل الدراسة، وذلك لأسباب عديدة من بينها غموض هذا الجانب في حياة الأمير، وبسبب ثقافة التأريخ لدى المؤرخين العرب والمسلمين، التي تميل غالبًا إلى الاختزالية والانتقائية وافتقاد النسقية والرؤية الكلية، خاصة إذا كانت الشخصية موضوع البحث تنتمي إلى الطائفة الصوفية. ويشير حمو في هذا السياق إلى وجهة نظر الباحث برينو إتيان، الذي يرى أن الصعوبة في تتبع حياة الأمير عبد القادر تعود إلى "احتجاب شخصيته الحقيقية وراء الأسطورة الوطنية الجزائرية، بينما كانت حياته الفعلية كلها نوعًا من السرّ الروحي، حتى وهو يمارس دوره في تسيير شؤون العامة، فهو في صميمه كأنه غائب عن العالم".

يقسّم الباحث المسار الصوفي الروحي للأمير عبد القادر إلى ثلاث مراحل هي: التعلّق والتخلّق والتحقّق. ويتم ذلك للإنسان بسلوكه الطريق إلى الله، بتخلية النفس من الصفات الذميمة والتحلّي بالصفات الحسنة، إضافة إلى تَحْلِية القلب بالذكر والعبادات. والتعلق يكون بارتباط القلب بالله مقابل ترك التعلق بما سوى الله. أما التخلق فهو التحلّي بأسماء الله، قولًا وفعلًا، ثم يحصل التحقق الذي هو الوصول إلى أقصى درجات الصفاء واللطف، فيصير العبد ربّانيًا.

ومرحلة التعلّق في حياة الأمير هي التي تمتد منذ ولادته عام 1807، حتى مبايعته أميرًا للقيام بالجهاد ضد الاستعمار الفرنسي، إضافة إلى طيلة فترة جهاده التي انتهت عام 1847، وهي مرحلة تعرّفه بالتصوف وتعلّقه به وبأهله ومطالعته كتبهم. تقع المرحلة الثانية، وهي التخلّق، ضمن فترة سجنه مدة خمس سنوات تقريبًا، إضافة إلى السنوات الأولى من استقراره في دمشق، حيث بدأ يتخلّق بأخلاق الصوفية ويسير على نهجهم بالخلوة والانقطاع إلى الله عما سواه. أما المرحلة الثالثة ــ التحقق والفتح فكانت حين دخل ما يسمى عند الصوفية مقام الفناء في رسول الله. ويرى الكاتب أن نظرية التجلّي تجسّدت في سلوك الأمير عبد القادر الإنساني والسياسي والعسكري والاجتماعي، الذي كان "رجل الله قبل أن يكون رجل سياسة ودولة".

كتاب "المواقف..." هو كتاب عبد القادر الجزائري الوحيد في علوم التصوف والعرفان، ويعتبر أهم ما كتبه بين مؤلفاته الأخرى


التجلّي في التصوّف

يتناول الكاتب في الفصل الثالث نظرية التجلّي ومحدّداتها في فكر الأمير عبد القادر، ويسبق الحديث عن ذلك أجزاء تتناول التجلّي في اللغة، وفي القرآن والحديث، وعند علماء المسلمين، وفي التصوف. وهو يستعرض التفسيرات المختلفة للآيات التي وردت فيها الكلمة أو مشتقاتها، أبرزها آية "فَلَمَّا تَجَلَّى رَبُّهُ لِلْجَبَلِ جَعَلَهُ دَكًّا وَخَرَّ مُوسَى صَعِقًا" (الأعراف: 143)، التي تدل بشكل واضح على تجلّي الله للجبل. ويرى الكاتب أن الآية تؤصّل لعقيدة التجلّي من حيث المبدأ. ويعزز مبحثه في هذا السياق بأحاديث نبوية في التجلّي، منها قول النبي محمد عليه السلام "يتجلّى لنا ربّنا ضاحكًا يوم القيامة".

يرى حمو أن عقيدة التجلّي في الإسلام لها ما يؤسّسها في النصوص الدينية وما يؤكد مشروعيتها. وبالاستقراء الشامل لآيات القران يَستنتج أن النص القراني يؤكد عقيدة التجلي التي يعتقد بها أكابر الصوفية. والتجلّي بمعناه الصوفي هو "إشراق ذات الله وصفاته، أو ما ينكشف للقلوب من أسرار الغيوب". ويقول الشيخ السراج الطوسي "التجلّي هو إشراق أنوار إقبال الحق على قلوب المُقبِلين عليه"، ويقول الإمام القشيري التجلّي هو "إشراق أنوار الحق على قلوب المريدين". أما الشيخ زكريا الأنصاري فيقول إن التجلي هو "ظهور الذات في حجب الأسماء والصفات تنزّلًا"، وعند أبي العباس التيجاني "التجلّي عبارة عن ظهور الحق سبحانه وتعالى".

وعقيدة التجلي عند الشيخ الأكبر ابن العربي هي أهم وأعظم علوم الحقائق، ذلك أن "مدار العلم الذي يختص به أهل الله تعالى على سبع مسائل، من عرفها لم يعتص عليه شيء من علم الحقائق، وهي: معرفة أسماء الله تعالى، ومعرفة التجلّيات، ومعرفة خطاب الحق عباده بلسان الشرع، ومعرفة كمال الوجود ونقصه، ومعرفة الإنسان من جهة حقائقه، ومعرفة الكشف الخيالي، ومعرفة العلل والأدوية". والتجلّي عنده هو "ما ينكشف للقلوب من أنوار الغيوب، وهو على مقامات مختلفة...". والتجلّي الإلهي عند الشيخ الأكبر "دائمٌ لا حجاب عليه لكن لا يُعرف أنه هو". كما ينقل الكاتب قراءة سعاد الحكيم لعقيدة التجلّي عند ابن العربي، التي ترى بدورها أنها العماد الذي يبني عليه الشيخ الأكبر رؤيته في وحدة الوجود، فهو بالتجلي يفسّر الخلق، وكيفية صدور الكثرة عن الوحدة دون أن تتكثّر الوحدة الوجودية. 

التجلّي عند الأمير عبد القادر

يرى الكاتب أن نظرية التجلّي بمعناها الأكبريّ (نسبةً إلى الشيخ الأكبر): "تسري في كل المنظومة التنظيرية عند الأمير عبد القادر، فبها يفسر كل شيء"؛ يقول الأمير: "كل شيء من الأشياء هو تجلٍّ من تجلّياته تعالى". وتنقسم التجلّيات عند الأمير عبد القادر إلى قسمين هما: التجليات الوجودية، والتجليات الاعتقادية. والتجليات الوجودية تظهر في الأكوان، فالكون والمخلوقات كلها مظاهر التجلي الإلهي، وهذا التجلّي يستمر ويتبدّل ولا ينقطع: "فمن نظر بعينه المقيّدة لا يرى إلا الأشياء المقيدة، ومن نظر بعين روحه الباطنة رأى الأشياء الباطنة من الأرواح وعالم المثال المطلق والجن، وكلها أكوان وحُجُب. ومن نظر بوجهه ــ وهو سرّه ـــ رأى وجوه الحق تعالى التي له في كل شيء...". أما التجليات الاعتقادية فظهورها يكون في الأذهان والأفكار.

وعند الأمير عبد القادر التجلّي في الصور ثابت شرعًا وكشفًا، وهو يرى أن من رفضوا هذه العقيدة من علماء الإسلام مكابرون ومغالطون، وبذلك فإن كبار فقهاء الإسلام الذين لا يؤمنون بعقيدة التجلّي هم في خانة العوام أي "المتكلّمين في التوحيد العقلي، الذين منعوا تجلي الحق في الصور". وعلم التجلي عند الأمير هو العلم الصحيح الحقيقي الوحيد، وما عداه لا يعتبر علمًا عند أهل التصوف: "ولا علم عند القوم إلا ما حصل عن تجلٍّ، فإذا كان العلم حاصلًا عن نظر في دليل عقلي، فليس بعلم عند الطائفة". ويقول الأمير: "وليس غرض القوم (الصوفية) إلا العلم المتعلق بالله الحاصل من التجلّيات الإلهية، لا العلم من طريق العقل والنظر...".

ويعرض الكاتب لأمثلة ضربها الأمير عبد القادر الجزائري كي يقرّب لقرّائه مفهوم نظرية التجلّي؛ ذلك أن تصوّر تجلي الله في العقول صعب جدًا كما يقول الأمير، ولذا تصوره أكثر الناس، من أصحاب العقول المقيّدة بالأكوان والزمان والمكان، بالحلول أو الاتحاد أو السريان، ويقول: "والطائفة المرحومة (أهل التصوف) أدركت تجلّيات الحق تعالى في الصور، وما اشتبه عليهم بحلول أو اتحاد ولا بغير ذلك مما أشبه على غيرهم".

ومن بين الأمثلة الإيضاحية التي يضربها لتقريب التجلي: إشراق نور الشمس على العالم؛ فالعالم إذا لم تشرق عليه الشمس كان كالعدم لا وجود له، ولا يتميز بعضه عن بعض، حتى إذا أشرقت عليه الشمس ظهر للموجودات وتميّز بعضها عن بعض. ولا يكون ظهور نور الشمس في أجزاء العالم بحلولها فيها، ولا باتصاله به، ولا بانتقالها إليه، ولا بتغيرها عما كانت عليه، كما لا ينفصل بعضها عن بعض. وبالمثل يكون وجود وظهور وتعيّن المخلوقات بإشراق نور الله عليها، يقول الأمير: "وظهور نور الشمس وإشراقه على أجزاء العالم يختلف بحسب صفاتها، وقوابلها، واستعداداتها، وهو شيء واحد غير متعدّد، ولا متجزّئ ولا متلوّن، وإنما عدّدته ولوّنته أجزاء العالم بحسب صقالتها وكثافتها، ودنسها وشفافتها، فتجلّي الوجود الحق على العالم كله، لا فرق بين جليل وحقير، وصغير وكبير، ولكن لا يظهر في صورة إلا بحسب قابليّتها".

أخيرًا، يرى فرعون حمو، بعد مراجعته للمرتكزات الدينية والفكرية لنظرية التجلّيات الصوفية، أنها "عقيدةٌ جامعة تنزع نحو الشمول والنسقية، وترتقي إلى تصنيفها كنظرية"، وأن نظرية التجلي "تمثل أوج ما وصل إليه العرفان الإسلامي. وتُعدّ مفتاحًا لحل إشكاليات كثيرة في المعتقدات الدينية، وهي آلية مهمة لفهم الكثير من الآيات القرانية والنصوص الروائية... فهي عقيدة تمتلك فعلًا كل مواصفات النظرية، وهي رؤية كاملة متكاملة في تفسير مقولات الوجود والماهية...".

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.