}

ندوة تعاين سيرة سلمى الخضراء الجيوسي ومسيرتها: نبع فيّاض

عمّان- ضفة ثالثة 3 أكتوبر 2023
أجندة ندوة تعاين سيرة سلمى الخضراء الجيوسي ومسيرتها: نبع فيّاض
من الندوة

ضمن فعاليات دورة هذا العام من معرض عمّان الدولي للكتاب، أقيمت مساء الخميس الماضي ندوة حملت عنوان "د. سلمى الخضراء الجيوسي: جسرٌ بين الشرق والغرب" أدارها الزميل جعفر العقيلي وشارك فيها الشاعر يوسف عبد العزيز والناقد د. فخري صالح ود. رشأ الخطيب ولينا الجيوسي ابنة الراحلة سلمى الخضراء الجيوسي (1926-2023).

عاينت الندوة سيرة السنديانة ومسيرتها، متنقّلة في موضوعات تناولها بين الجانب الإنسانيّ من سيرتها، والجانب الإبداعي البحثيّ الترجميّ من مسيرتها.

بعد تقديم غير تقليديّ تحدث خلاله جعفر العقيلي عن خصوصية العلاقة التي تجمع أسرته بأسرة الراحلة، وصولًا إلى تسمية ابنته سلمى على اسمها، جاء الدور على الشاعر يوسف عبد العزيز الذي مرَّ في ورقته على السيرة والمسيرة مستهلًا هذا المرور بالتوقف عند طفولة الخضراء الجيوسي: "في جوّ تسوده الرّوح الوطنية، وحب الثقافة نشأت الطفلة سلمى. وتفتّح وعيُها أوّل ما تفتّح على وطنها المحتلّ من قبل الاستعمار البريطاني. ذلك الاستعمار المجرم الذي كان يخطّط منذ البداية لسرقة فلسطين، وإعطائها للصهاينة. كانت الطفلة سلمى تعيش في فترة طفولتها في مدينة عكّا، وعند اشتعال الثَّورة الفلسطينيّة الكبرى في عام 1936، حيث قامت المظاهرات وعمّت أنحاء فلسطين، صارت سلمى تشارك مع زميلاتها في التظاهر. كان عمرها ثماني سنوات حين جرت مطاردتها مرَّةً من قبل رجال البوليس البريطاني، ومن ثمّ اعتقالها. في تلك الأثناء عرفت والدتُها بالأمر، فذهبت إلى مركز الشرطة، وعملت على إطلاق سراحِها".

كما أشار عبد العزيز إلى وقوف سلمى المعلّمة في وجه الإدارة الإنكليزيّة للكليّة، حيث كانت تلك الإدارة تحرص على تبعيّة مطلقة لها من قبل المعلّمات والطّالبات، الأمر الذي رفضتهُ سلمى، فصرخت في وجه المديرة قائلةً: أنتم مجرّد محتلّين، ولا بدّ لكم من مغادرة البلاد آجلاً أم عاجلًا.

موقفٌ آخر يتوقّف عنده يوسف عبد العزيز في ورقته، ويتلخّص ذلك الموقف بعلاقة المعلّمة سلمى بالطالبة (حياة البلابسة)، ولأن حياة كانت فقيرة وبلا أب، فقد كانت تقف إلى جانبها، فشغّلتها فترةً من الوقت، في الإذاعة الفلسطينية في القدس. ولمّا ازدادت ظروف حياة مشقّةً اضطرت حياة لترك الكليّة والعمل مُدَرّسةً في قرية (دير ياسين) القريبة. ذهبت حياة إلى (دير ياسين)، وبعد فترة وجيزة قامت العصابات الصّهيونية بارتكاب المذبحة المعروفة بمذبحة (دير ياسين)، التي جرت في التّاسع من شهر نيسان/أبريل 1948. في تلك المذبحة قُتِلَتْ حياة، فبكت عليها المعلّمة سلمى، وسبّبت لها جرحًا عميقًا في الرّوح.

عبد العزيز يختم ورقته بالتأكيد على الفهم العميق الذي تحلّت به سلمى الخضراء الجيوسي لمعنى الثقافة، ومقتبسًا هنا كلامًا قالته سلمى في مناسبة ما: "ثمّة صورة سلبية مرسومة لنا في العقلية الغربية ينبغي أن تتلاشى، هذا بالإضافة إلى أنّ تلك الصورة المزرية إيّاها تسلّلت إلى أعماقنا، فبتنا مسكونين بهاجس التّخلّف المرعب. لا يوجد أمامنا غير المجابهة، وغير المزيد من هذه المجابهة، نحن أمّة عظيمة لديها ثقافة عظيمة، ولكنّ ذلك كلّه يتطلّب منّا مزيدًا من العمل والفاعلية. لقد تمّ إهمال التبادل الثقافي، تمّ إهمال التّرجمة من وإلى العربية. كلّ مركّبات التّخلّف لا بدّ لها أن تنتهي".

الناقد فخري صالح ركّز في ورقته للندوة على شعرية الخضراء الجيوسي ومشروعها للترجمة الذي أطلقته في عام 1980.

يقول صالح في ورقته: "انطلاقًا من هذا الوعي بتجربة سلمى الخضراء الجيوسي، يمكن النظر إلى معظم ما أنجزته، من شعر، ونقد، وبحث، وترجمة، وعمل أكاديمي، وموسوعي، وعلى رأس ذلك كله، مشروعها الكبير الذي أسسته عام 1980 لترجمة الأدب العربي إلى الإنكليزية (بروتا). فقد نشرت مجموعتها الشعرية الأولى "العودة من النبع الحالم" عام 1960، ولم تنشر بعدها سوى قصائد متفرقة قامت بجمعها ونشرها عام 2021 في عنوان "صفونا مع الدهر" (الدار الأهلية للنشر، عمان). ففي "العودة من النبع الحالم" تتقاطع رياح التغيير في الشعر العربي، في خمسينيات القرن الماضي، مع الرغبة في التطوير الشكلي، والانعتاق من أسر القوالب والتقاليد الشعرية التي كبلت الشعر العربي طوال قرون، وإتاحة المجال للفرديَّة الذاتية للتعبير عن نفسها، بفضل الاحتكاك بالشعريات العالمية الوافدة إلى العالم العربي، من خلال الاطلاع الشخصي، أو عبر الترجمة. وينبغي أن نشير هنا إلى أنَّ سلمى الجيوسي كانت قريبة من جماعة شعر في ستينيات القرن الماضي، وقد نشرت بعض قصائدها في مجلة "شعر"، وكذلك مقالاتها النقدية. وهو ما أثَّر، دون شك، في رؤيتها الشعرية، ووعيها النقدي، ودور الحداثة في الخروج من الهزيمة التي تعرَّض لها الفلسطينيون خاصةً، والعرب عامةً، في مرحلة النكبة. أما على صعيد الكتابة الشعرية، فيمكن أن نلحظ لدى سلمى الجيوسي تأثيرات الشعراء الرواد، وعلى رأسهم بدر شاكر السياب، الذي ترجع قصائده صداها واضحًا في "العودة من النبع الحالم"، سواء على صعيد الإيقاعات، والنبرة، وحتى الموضوعات. كما يمكن أن نلحظ تواصل عوالم سلمى الشعرية مع شعر مواطنتها الفلسطينية فدوى طوقان (1917- 2003)، خصوصًا في مجموعتيها الشعريتين: "وحدي مع الأيام" (1952)، و"وجدتها" (1957)، مع نبرة تموزيَّة خفيضة الصوت أحيانًا، وعالية أحيانًا أخرى، لا بدَّ أنها تسربت إليها من احتكاكها بشعر السياب، بصورة أساسية، وكذلك شعر خليل حاوي، وأدونيس، ونذير العظمة. في خضم هذه التأثيرات، والتقاطعات، ورياح التغير التي هبت على القصيدة العربية في خمسينيات القرن الماضي، تسعى الشاعرة إلى التعبير عن فرديَّتها كامرأة عربية تعيش في مجتمع ما قبل حداثي، وفلسطينية تعيش آلام أهلها المنكوبين الذين فقدوا وطنهم وهويتهم. ويبدو عنوان المجموعة الشعرية "العودة من النبع الحالم" عتبة لفهم التجربة الوجودية التي تنطلق منها قصائد المجموعة، في سعيها إلى تصوير المفارقة التي تسم حياة الفلسطينيين، وانتقالهم من زمن الطمأنينة، وثبات الأرض والجغرافيا تحت أقدامهم، إلى لا يقين المنفى، ورخاوة الوجود كلاجئين، غير مرغوب فيهم، يحاولون لمِّ شظايا حياتهم المهشَّمة".

ولا يتردد صالح باقتباس بعض من شعر سلمى: "نحن من جيل اليتامى... نحن من جيل القلوب الضائعة/ أمنا قد كونتنا من جحيم الأمس، من لوعته/ من تباريح قرون هاجعة./ فإذا ما ولدتنا فوق جفن الفجر، في روعته،/ وتفتحنا وقد أعشى مآقينا السنا/ نحن لم نغتر... لم نهتف هي الدنيا لنا/ حلوة، غراء، نشوى، رائعة/ بل عرفنا حظنا/ ورمينا العمر في ميعته/ بين فكي الحياة الجائعة".

صالح يختم ورقته بالقول: "لقد أنجزت سلمى، تلك المرأة الفلسطينية العظيمة، للثقافة والأدب العربييْن، ما لم تصنعه مؤسسات عربية كبيرة، لديها من المال والإمكانات، أكثر مما حازته سلمى الخضراء الجيوسي".

في بعدٍ شخصيٍّ حول علاقتها بالراحلة تحرّكت ورقة د. رشأ الخطيب التي تحمل عنوان "جسر الأندلس... بين سلمى وأنا". تقول الخطيب عن سلمى إنها "امرأة لا تعرف التعب، لا تعرف المستحيل، طاقة لا تهدأ، ووهجٌ لا ينطفئ، وحيوية لا تخفُت، والأجمل من هذا كله أنها تفيض عليك ببعض ما يسكن فيها، ولا بد أن يصيبك من وجهها قبس".

وتضيف: "وهكذا بدأت ما أحب أن أسمّيَهُ (صداقة الأجيال) التي جمعَتْني بهذه القامة الأدبية التي لم أكن أحلم بمثلها يوما، وضمَّتْنا أصبوحات وأمسيات لطيفة عديدة في منزلها، العامرِ بمن يقدّرون عطاءها. ومن فضول القول الإشارةُ إلى تواضعها الجمَ، وذوقها وأناقتها في التعامل، ومخاطبة الناس على قدر عقولهم وطبقاتهم ومكامنِ تميزهم؛ ما يعني أن واحدًا من أسرار نجاحها، هو مقدرتها على مد الجسور والتواصل نحو الآخرين".

الخطيب تختم ورقتها بالقول: "هذه سلمى، الجسرُ بين الشرق والغرب، التي يُثني عليها من عرفها في كل ما كتبوه عنها؛ لأنها استطاعت أن تجمع الشرق والغرب في مزيجٍ عجيب، وازنَتْ فيه بين جذورها وأصولها، وبين أغصانها النضِرةِ المتطلعةِ إلى الفضاء الواسع"، رائية أن فرضَ سلمى نفسها على الدوائر الأكاديمية العالمية احترامها واحترام حضارتها، جاء نتيجة حتمية لِـ"عملها الجاد وإنجازها الرصين، لتقول لكل من ظنّ أنها أقدمت على مغامرة غير محسوبة، إن احترام الآخر لنا نابعٌ من تقديرنا لذاتنا".

وأمّا بالنسبة لورقة ابنتها لينا، فسنكْتفي بالتوقف عندما ختمت به لينا تلك الورقة: "اتصفت، بحياتها وبعملها، بالدقة والمثابرة وأيضًا القدرة على إدراك مهمة اللحظة، والسرعة في إنجازها. أذكر العمل على الموسوعة الضخمة عن الحضارة الإسلامية في الأندلس. كنت عندها في البيت في بوسطن حين اكتشفتْ أن مجهودًا كبيرًا يُبذل لعقد مؤتمر احتفالي كبير عن تاريخ ودور اليهود في الأندلس، وأدركتْ أن ذكرى المئوية الخامسة لسقوط الأندلس في 1492 سيلحقُنا قريبًا. الوقتُ   قصير وما من مجهود من أي جهة في العالم العربي، أو الإسلامي لإحياء هذه الذكرى. والأندلس الإسلامية هي التي كانت في الأساس منارة العالَم وبالتأكيد أوروبا في ذلك العصر. لم تجد من اهتم في العالم العربي، هي تبحث عن تمويل لمؤتمرٍ مهمٍّ وأيضا لمجموعة دراسات عن الحضارة الإسلامية في الأندلس تغطي كلَّ جوانبها. فكرت أخيرًا في الآغا خان الذي يهتم جدًا بالعمارة الإسلامية وتاريخها. فاتصلت هاتفيا بأولِغ غرابار، أستاذ جامعي كبير في هارفارد، يختص في مجال الفنون والعمارة الإسلامية، وشرحت مشروعها وسألته إن كان يستطيع أن يساعَدها مع الآغا خان. قال لها ممكن، تعالي الأسبوع القادم لنتحدث. في خلال عشرين دقيقة كانت وصلت مكتبه في هارفارد. اندهش بجرأتها، بعزيمتها، بجديتها وبالدافع الذي يحيي رؤيَتها والتزامها، وقال لها بالحرف: فقط لهذا سأعملُ كلَّ جُهدي أن أساعَدك في تحقيق المشروع وإقناع الآغا خان في تمويله. وهكذا كان؛ فُعقد مؤتمر في قرطبة في عام 1992، في البيت العربي الوحيد الذي بقي في المدينة، افتتحه ملك إسبانيا، ونُشِرت موسوعة الأندلس في 1100 صفحة في السنة نفسها، واسْتُقبلت في الأكاديمية الغربية باحتفاءٍ هائل، لمنهجيتها، لعمقها، لشمولية محتواها، وأصبحت معتمدة في الجامعات دون استثناء. هذه هي سلمى".    

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.