}

ولكنه ضحك كالبكا

راسم المدهون 18 يناير 2024
أجندة ولكنه ضحك كالبكا
دغش متكلمًا في جنازة حفيده التي أقامها الجيش الإسرائيلي
في ذروة اشتعال حرب الإبادة التي يعيشها قطاع غزة جاء خبر لا يشبه الأخبار كلها: حفيد "الشاعر الفلسطيني" سليمان دغش ابن قرية "المغار" لاقى مصرعه وهو يقاتل في صفوف الجيش الإسرائيلي الذي يهاجم غزة. إلى هنا ظلّ الخبر يتعلق بحفيد سليمان دغش، لكن تتمة الخبر والفيديو المرافق له بيّنا أن "الجد" قام بالمشاركة في تشييع القتيل ضمن الجنازة التي أقامها الجيش الإسرائيلي وحضرها ضباطه وجنوده والتي اختتمها الجد بإلقاء كلمة تأبين لحفيده.

في الإعلام وفي وسائل التواصل الاجتماعي اشتعلت التعليقات والآراء عن "الشاعر الذي خرج من جلده" وارتدى جلد عدوه القومي والوطني، وهي كلها كانت تعليقات توضح أن الجد إياه كان يعرف بالتحاق حفيده بجيش العدو في سياق "الخدمة الإلزامية" ولم يتبرأ من ذلك بل لم يأت على ذكره من قريب أو بعيد، فيما بينت تعليقات أخرى أن الجد، الشاعر، والذي يطلق على نفسه لقب "سفير الشعر الفلسطيني" لم يعرف عنه أحد أنه اتخذ يومًا موقفًا معارضًا أو "معترضًا" على سياسات الحكومات الإسرائيلية المتعاقبة أو عن عدائه للاحتلال الذي ينكّل بأبناء شعبه في الضفة الغربية وقطاع غزة والقدس والذي يمارس ضد أهله في الجليل والمثلث والنقب سياسة التمييز العنصري وعنوانها الأبرز إقامة دولة يهودية "صافية" تخلو حتى من أولئك الذين يخدمون اليوم في "جيش الدفاع الإسرائيلي" ومنهم حفيده القتيل.

إنه حقًا ضحك كالبكا، فالشاعر البائس الذي غاص في تلك الفعلة بكل ما تجسّده من عار قال بفعلته أنه مقتنع "تمامًا" أنه "ابن طبيعي" لتلك الدولة وأنه يذهب في الدفاع عنها وعن أفعالها حتى إلى حد مقاتلة "أهله السابقين" سعيًا لتأكيد جدارته بالانتماء الجديد، وهي مسألة تدفعني للابتعاد عن الغرق في تفاصيل حيثيات المشهد، ومنه مثلًا أن أبناء طائفة الموحدين في فلسطين يؤدون خدمة عسكرية إجبارية في جيش العدو، وهذه بالطبع حقيقة واقعية لكنها لا تلغي ولا تنسينا أن كثرًا من أبناء الطائفة رفضوا تلك الخدمة وتحملوا مشقة الاعتقال وكثيرًا من أشكال العسف والاضطهاد بسبب رفضهم، وهو ما لم يفعله الحفيد والجد معًا، فكانت نتيجته الواقعية انخراط الحفيد القتيل في حرب غزة جنديًا في صفوف الغزاة ضد الشعب الفلسطيني الذي كان يومًا ما شعبه، وكان أفراده أهله.

أبناء طائفة الموحدين في فلسطين يؤدون خدمة عسكرية إجبارية في جيش العدو، وهذه بالطبع حقيقة واقعية، لكنها لا تنسينا أن كثرًا من أبناء الطائفة رفضوا تلك الخدمة وتحملوا مشقة الاعتقال والاضطهاد بسبب رفضهم


هي أيضًا واقعة نشاز في سياق كفاح فلسطينيي الاحتلال الأول من أجل حقوقهم المشروعة وأهمها حقهم في المساواة ورفضهم للقوانين العنصرية التي تجعلهم في مكانة أقل، غرباء في وطنهم رغم أنهم هم أصحاب البلاد الأصليون وهم أول المتضررين من تحويل أرض فلسطين إلى دولة يهودية تقوم على منح كافة الحقوق والامتيازات لليهود على حساب الفلسطينيين من كافة الأديان والطوائف. في حالة "دغش" التي استنكرها الفلسطينيون وبالذات المثقفون استعاد الجميع ما حظي به سليمان دغش من اهتمام أدبي لا يستحقه، هو الذي حصل على جائزة أدبية من الاتحاد العام للأدباء العرب باعتباره شاعرًا فلسطينيًا قبل أي سبب آخر، وتجاهل من منحوه تلك الجائزة خروجه على وحدة وتآلف أدباء الجليل والمثلث والنقب، ناهيك عن التزامه بالبعد عن قضاياهم وقضايا المواطنين الفلسطينيين الذين يعيشون في فلسطين، وذلك يجعلنا نعود للتساؤل عن دور المؤسسات الثقافية الفلسطينية التي خدعها دغش والتي استنكرت بعد ذلك "واقعة" مشاركة حفيده في محرقة غزة ومقتله على يد المقاومة الفلسطينية الباسلة، ثم الدور المشين الذي لعبه سليمان دغش بالمشاركة في جنازته وإلقاء كلمة تأبين له كان مثيرًا للسخرية أن يختتمها بدعوته للسلام "بين الجميع". أعتقد أن المؤسسات الثقافية الفلسطينية مدعوة بعد هذه الواقعة المخزية إلى التدقيق وإلى الفرز الوطني للأفعال الواقعية وليس لمجرد الكلام والادّعاء.

نقول هذا وفي البال أسماء شعراء وكتّاب فلسطينيين من طائفة الموحدين ساهموا بإبداعهم ومواقفهم الشجاعة في إثراء الثقافة الوطنية الفلسطينية وإغناء الحركة الوطنية الفلسطينية وفي مقدمتهم الشاعر الراحل سميح القاسم.

هي واحدة من أسطع قضايا الحياة الثقافية الفلسطينية وأشدها احتياجًا إلى صرامة الفعل المقاوم الذي نعتقد أنه مفتوح للكل الفلسطيني ولكن بشروط الالتزام بقضيتي الوطن والشعب، خصوصًا وأن واحدة من ركائز الحياة الفلسطينية الوطنية جماهير الاحتلال الأول عام 1948 الذين يقفون على أرض الوطن وأرض التجربة والذين عاشوا عذاب مواجهة الاضطهاد وأشكاله المختلفة منذ الحكم العسكري المباشر بصوره الدامية وقوانينه المؤلمة والذين شكلوا على مدار سبعين عاما ونيف إرثًا كفاحيًا نعتزّ به ونحرص عليه، إذ من هناك بالذات نهضت حركة ثقافية وإبداعية عظيمة قدّمت شعراء وروائيين ومبدعين في المجالات كلها نجحت في الحفاظ على الهوية الوطنية، ورسّخت صمود الشعب الباقي على نحو شكل رافعة كبرى للأهداف والطموحات الوطنية. ويكفي أن نتذكر هنا الدور الذي لعبته الثقافة ورموزها الأهم في بلورة وعي فلسطيني وطني يضيء نوره على الحياة الفلسطينية ويرفدها في صورة مستمرة بنسغ الحياة.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.