الغرافيتي فنّ المقاومة والمواجهة
فريد الزاهي
27 يناير 2015
تشكيل
عمل لفنان الغرافيتي التونسي إل سيد
الغرافيتي سليل الرسوم البدائية التي سجل فيها الإنسان ما يعاينه من حيوانات ونباتات محيطة به. إنه انبثاق الرغبة في خلق المرآة التي يرى فيها ما يعيشه يوميًا وكأنه يركّز عبرها وجوده في الزمن والفضاء. والحقيقة أن الخربشات على الحائط كانت دومًا مجالًا للتعبير. ففي طفولتنا في المدن العتيقة، كانت الكتابة على الحائط والرسوم تعبيرًا عن صراع حي مع آخر أو إفشاء للأسرار والمحرمات التي لم يكن التعبير عنها ميسَّرا. ففي وقت لم تكن فيه الكتابة حظّ الجميع، كان المتعلمون يؤلّفون طليعة صبيان الحي، فيصبحون بشكل أو بآخر صوتهم الممكن.
انبثق هذا الفنّ الوليد مع ثقافة الأندرغراوند التي سعتْ إلى امتلاك الفضاء العمومي عنوةً، للتعبير عن المهمّش والغامض والملتبس، وعن أصوات من لا أصوات لهم. السمّة الأساس للغرافيتي أنه فنّ مرتجل على مساحة محددة من الحائط، يمتلك أصحابه أساليبهم الخاصّة وألوانهم المميزة وكائناتهم المعبرة عن مقاصدهم. بدأ الأمر في أنفاق المترو الفضاءات المهملة أو الهامشية في المدن الصناعية، ليمتدّ في لحظات الأزمات والصراعات إلى الأماكن النظيفة من المدينة تعبيرًا عن الاحتجاج السياسي أو ردود الفعل عن بؤس السياسات الداخلية أو الخارجية للقوى العظمى.
وإذا كان هذا الفن في البلدان العربية قد ظلّ محجوبًا نظرًا إلى السيطرة المحكمة للسلطات على الفضاء العمومي، فإن تطوّره البطيء سيعرف طفرة في السنوات الأخيرة، لأن الفضاء العمومي صار رهانًا من الرهانات الكبرى للتعبير والتغيير. من ثم، فإن هذه الممارسة الفنية "القاصرة"، بحسب تعبير جيل دولوز، سوف تنمو وتترعرع في حضن المواجهات وفي اللحظات الحاسمة.
هكذا يمكن اعتبار فلسطين البؤرة التي تبلور فيها هذا الفنّ بشكل لافت للنظر. فحين عمد المحتل إلى إقامة سور العار، الذي يجاوز سور برلين في مقاصده ومراميه وبنيته، صار هذا الفضاء الممتدّ مجالًا مرآويا للتعبير عن الحنق والغضب والتنديد، كما عن الوجود المحجوز للفلسطينيين في عقر وطنهم. هكذا يستدعي الفضاء الشباب الفلسطيني يوميًا إلى تفجير مكنونات إحساسه البصري كي يوسّع أفق عالمه. فهذه الرسوم التي تستوطن الجدار تشكل ثقوبا محتملة في الجدار، لا لترى في ما وراءه فقط، ولكن لتؤوّل وجود الذات والآخر وتربط بين ما يفصل بينه الجدار. الرسوم تبدو هنا كأنها امتداد للأرض التي تربط بين الطرفين.
هذه الوضعية الثورية هي التي سيعيشها الشباب - الغرافيتي فنّ الشباب بامتياز- في بلدان ما عُرف خطأً بـ "الربيع العربي" خاصّة في تونس ومصر. ففي تونس، لاحظت في أسفاري التي تلت مباشرة ثورتها، كيف تحول هذا الشعب المغلول إلى شعب يكتسح بتعبيره الفنّي كلّ الفضاءات التي كانت ممنوعة عليه تعبيريًا قبل. وتحوّل الشارع إلى مزيج من التظاهرات الفنّية التي تشمل ملصقات الفوتوغرافيا وفنّ الشارع والغرافيتي. بل ثمّة أيضًا فنانون غير معروفين، يعلقون لوحاتهم في ساحات المدينة على أعمدة مصابيح الشارع في الغسق. وحين تمرّ في الغد لا تجد لها أثرًا. ومن بين الأسماء البارزة: إينكمان، فاجو، إيسكا وان، مين وان. وقد نظمت المجموعة لها مؤخرًا في باريس معرضًا جماعيًا، الأمر الدّال على شرعية هذا الفنّ وتغيير النظرة إليه. إذ إن أغلب الذين يمارسونه اليوم، متخرجون من مدارس الفنون باختصاص غرافيك وديزاين، ما ينفي عن هذا الفنّ طابع الانبثاق العفوي ويمنحه استراتيجية ترغب في توكيد الذات والاختيار؛ فالمنجزات الفنية في الشارع تتحول إلى صور فوتوغرافية تؤرّخ لها وتشهد عليها قبل أن تمحوها عوامل الزمن أو السلطات المحلية. والملاحظ هنا أن هذه الأسماء تأخذ طابعا ملغزًا تعبيرًا عن التباس هذا الفنّ نفسه، وتتشبّه كثيراً بأسماء مجموعات الراب والهيب بوب التي تندرج بشكل أو بآخر في معمعتها.
وخلال الثورة المصرية وعلى امتداد الصراع الجماهيري الذي تلاها حول السلطة، عاينت شخصيًا في شوارع القاهرة كما في ميدان التحرير إضافة إلى الشعارات المخطوطة على الحائط انبثاق التعبير. لقد غدا الغرافيتي في مصر فنّ مقاومة يحرّض ويرسم الشهداء ليخلد ذكراهم، ويتابع عن كثب تطور الأحداث في البلد. فأمام خصوبة الأحداث وتقلباتها تكفي القناني اللونية لكي يمارس الشباب من الفنانين سورة غضبهم على حيطان الشوارع. وتتميز هذه الأعمال بجودة بصرية عالية. فإذا كان الغرافيتي في تونس قريبا جدًا من التقنيات الغربية للغرافيتي، فإنه هنا أقرب إلى التشكيل المصري وتشخيصيته التليدة.
لقد بدأ البعد السياسي لهذه الممارسة يتوضح مع ثورات "الربيع" العربي وبعدها في الخيبات الناجمة عنها. وهكذا صار شباب "الغرافيتي" يشحذ سكاكين نقده ويتصدى "للمقدّسات" الاجتماعية والسياسية. ففي شهر أبريل/ نيسان 2012، تعرّض الفنان السوري سمعان خوام إلى المحاكمة والسجن لمدة ثلاثة أشهر، بسبب رسمه جنودًا لبنانيين مدججين بالسلاح، إشارةً إلى الحرب الأهلية اللبنانية. مع أنه لا يوجد تشريعًا ونصًا وفعلًا ما يمنعه، خاصّة أن لبنان عرف الغرافيتي قبل العديد من البلدان العربية، وأن بعضًا من فنانيه التشكيليين المعاصرين أقاموا مشاريعهم الفنية على الجدران التي هتكت عرضها القنابل والرصاص.
يبدو فنّ الغرافيتي، شأنه شأن فنّ الكاريكاتور، سلاح مقاومة فنية ذات بعد شعبي وجماهيري وعمومي أكثر من غيره من الفنون، التي يظلّ أثرها المباشر محدودًا. والفورة التي يعرفها هذا الفنّ تحرّر الفنون البصرية من الانغلاق، وتستثمر كافة مقوماتها البصرية والتشخيصية والخطابية بهدف إنتاج أعمال قد تتعرض إلى الزوال، غير أن آثارها الوجدانية والتحريضية والفكرية توسِّع من أفق الوعي وتفتح له سماوات لم يحلق فيها فن آخر من قبل.
مقالات اخرى للكاتب
إناسة
15 أبريل 2024
آراء
25 مارس 2024
آراء
5 مارس 2024
آراء
15 فبراير 2024