}

هل المقلّون في الكتابة أكثر حظًّا في الخلود؟

فريد الزاهي 15 فبراير 2024
آراء هل المقلّون في الكتابة أكثر حظًّا في الخلود؟
محمد شكري والطيب صالح كاتبان مقلَّان

لا أدري لماذا ظللتُ منذ يفاعتي إلى اليوم أمْيل إلى الاهتمام بالكتاب المقلّين، الذين لا يصلنا منهم إلا كتاب واحد أحيانًا، ويتوقفون عن الكتابة بسبب الموت المبكّر، أو الانتحار، أو بتغيير اهتماماتهم الحياتية. وفي بداياتي، أستاذًا جامعيًا متدربًا، فرض علي رئيس الشعبة من غير استشارتي تدريس الأدب الجاهلي لشعبة الدراسات الإسلامية، وهو يعلم علم اليقين أن تكويني فلسفي. وعوض أن أدرّس الطلبة عيون الشعر الجاهلي (المعلقات)، لم أختر منها إلا معلقة طرفة ذات الطابع الوجودي التي كانت أقرب إلى توجهاتي. اكتشفت عددًا من الشعراء المجهولين من شذراتهم من خلال جمّاعيْها أبي الفضل الظبي في المفضليات، والأصمعي في الأصمعيات. ثم اكتشفت وقتًا طويلًا بعد ذلك كتاب محمد صالح الضامن عن الشعراء المقلين في الأدب العربي، فأبهرني شعرهم المنسي...
وحين قرأت لموريس بلانشو وكتاباته عن الشذرية في شبابي المبكّر بفرنسا أدركت أن مصير "الحداثة" يوجد في أصلها، وأن عقلانيتها ليست سوى كبت لقوة مصادرها. لقد حببني هايدغر في ابن عربي، مثلما حببني موريس بلانشو في أسلوب كتابة الجاحظ، والنفري، وغيرهما. تمامًا مثلما حببني دولوز، وغواتاري، ودريدا، في الهوامش والحواشي والتأويل. وأنا أعني هنا أن الجزء الظاهر من المجْلدة يخفي كنوزًا كثيرة يهملها اليومي والعادي والمتواضع عليه؛ وأن ما يهمله الآني يحافظ عليه التاريخ في ذاكرته.

الوفرة والندرة وحربائية المعنى
لقد دأبنا على اعتبار أن الكاتب والفنان والسينمائي هو من ينتج سلسلة من الأعمال التي بها يبني صرحه الثقافي. بيد أننا في الواقع لا نتذكر من الكاتب في غالب الأحيان إلا كتابًا أو أكثر بقليل يلخص وجوده في ذاكرتنا، ومن الشاعر إلا قصيدة واحدة، أو ما يربو عنها بقليل، جعلناها مثوى له في حساسيتنا الشعرية. وإذا نحن استثنينا الدارس والمتخصص فإن هذه القاعدة تستدعي السؤال: هل إن هؤلاء المبدعين يقضون حياتهم في التأليف والكتابة والإبداع كي لا يتركوا في نهاية المطاف للتاريخ إلا كتابًا، أو عملًا واحدًا يلخصهم لمتلقيهم؟ إنه لقدر ساخر هذا، إذ إن هؤلاء لا يتحكمون بتاتًا في ما مصير ما ينتجون لدى جمهور المتلقين.




لنأخذ مثالًا وحيدًا يحيل في حقيقة الأمر، وبشكل موارب، إلى عدد من الروائيين في العالم العربي. حاز الطاهر بن جلون في بداية مشواره الروائي على جائزة غونكور عن رواية "ليلة القدر"، غير أن القراء يفضلون عليها رواية سابقة عليها تدل عليه هي: "موحا المجنون، موحا الحكيم"، خاصة وأن رواية غونكور، كما سيكتشف ذلك المتخصصون، تمتح نسغها ومبدأها من رواية عبد الكبير الخطيبي "كتاب الدم". لقد أصدر الطاهر بن جلون عشرات الروايات باللغة الفرنسية، مثلما أصدر بعض مجايليه من الكتاب بالعربية ما قد يضاهيها. غير أنها أضحت أشبه بالروايات الموسمية (éphémères) التي تذبل كي تترك المكان لوردة موسمية جديدة. لم يصدر محمد شكري نصوصًا حكائية كثيرة في حياته، غير أن سيرته الذاتية "الخبز الحافي" و"الشطار" تلخص عبوره في كينونة الأدب العربي (والعالمي). ولم يترك لنا الطيب صالح نصوصًا حكائية كثيرة، غير أن "موسم الهجرة إلى الشمال" تظل رواية كلاسيكية في الأدب العربي. ونحن لا نذكر لغسان كنفاني غير رواية "رجال تحت الشمس"، لأنها وسمت متخيلنا الأدبي في السبعينيات، ومن إميل حبيبي سوى "الوقائع الغريبة في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل"، رغم طول عنوانها المفرط.



الانقطاع عن الكتابة بعد عمل وحيد يكون وراء تكريس هذا العمل، خاصة إذا كان ناجحًا. ذلك ما عاشه الأدب الأميركي مع هاربر لي، بعد روايتها الوحيدة التي صدرت عام 1960 بعنوان: "لا تطلقوا النار على الطائر الساخر"، التي لاقت نجاحًا باهرًا، وأضحت من كلاسيكيات الأدب الأميركي. في 2014، عثرت محاميتها على مخطوط رواية جاءت تتمة للرواية الشهيرة. وأصدرتها في السنة الموالية بعنوان: "رحْ واتركْ هناك حارسًا"، غير أن الرواية لم تحظ بالاهتمام الذي حظيت به سابقتها، نظرًا لضعف أسلوب الكتابة. فخمسين عامًا بعد صدور الرواية الباهرة لم تنجح الرواية الثانية في أن تضاهيها. هل هو عامل الزمن والتوقف عن الكتابة، أم تطور نظام "البيست سيلر" في أميركا، وتغير الأذواق الأدبية في عصر العولمة؟
قبلها، يمكن النظر إلى حال إميلي برونتي أنموذجًا في هذا المضمار. فبعد أن نشرت المرأة في أواخر النصف الثاني من القرن التاسع عشر عدة قصائد، أصدرت رواية "مرتفعات ويذرينغ" عام 1847. عاشت الرواية لوقت في ظل رواية شارلوت برونتي "جين إير"، التي صدرت قبلها بشهر، غير أن الرواية ما لبثت أن اعترف بها النقاد لكثافتها وكتابتها القريبة من الرومانسية الألمانية التي كانت تحظى حينها بإشعاع عالمي، وهو ما جعل منها من أشهر الروايات في نهايات القرن الماضي.
وما حدث لرواية ج. د. سالنجر لا يحيد عن هذا السياق. فقد أصدر عام 1951 رواية "صياد القلوب"، فأصبح بها ذائع الصيت، نظرًا للغته المبتكرة، ولإمساكه بخيبات المراهقين في تلك الفترة. بيد أن المؤلف لم يصدر بعد ذلك سوى مجموعتين قصصيتين ليتفرغ للعيش في خلوة متفاديًا اللقاء بالصحافة والاختلاط بعوالم الأدب والثقافة، ولينقطع نهائيًا عن الكتابة.

نكهة الكتاب المقلّين
ثمة كاتبان مغربيان كانا وراء التفكير في هذا المقال. أولهما الأمين الخمليشي، صاحب مجموعة قصصية بعنوان "اشتباكات" أصدرها في السبعينيات، تتضمّن قصة رائعة أشبه بالحلزون بتقنيات حكائية مبتكرة رائعة. فقد انقطع هذا الكاتب عن ممارسة الكتابة حتى نسيه القراء إلا من جايلوه وعرفوه، مع أنه كان ذا نبرة جديدة في القصة والحكي تجاوز بكثير مستوى عدد ممن استمروا في الكتابة و"وجدوا" موطئ قدم لهم في "سرديات" الحكي الروائي والقصصي في المغرب. وثلاثة عقود بعد ذلك أصدر مجموعة قصصية "عربة مدام بوفاري" مرت مرور الكرام في "عصر الرواية" الذي ساد لدينا. أما الثاني فليس غير صديقنا محمد الشركي الذي يقترن ذكره برواية واحدة هي "العشاء السفلي"، التي صدرت في منتصف الثمانينيات. أصدر بعدها ثلاثة كتب في الشعر والتأملات. بيد أن محمد الشركي، الذي كان يبشر بكتابة روائية مميزة، لا يعد نفسه منقطعًا عن الكتابة، لأن له نمطًا معينًا في الحياة والعزلة، خارج مدارات التلفزيون والصحافة والمهرجانات واللقاءات الثقافية. وسيعود بعد ثلاثة عقود بدوره ليبشرنا برواية ثانية ننتظر وقعها في عصر الكثرة الثقافية والأدبية للروايات والروائيين المغاربة والعرب. وهو يذكرنا بشكل لافت بالفنان التشكيلي خليل الغريب ابن مدينة أصيلة الذي يعيش خارج الأضواء بلا هاتف ذكي، وخارج المدارات التجارية للأروقة...
الموت المبكر لكثير من المبدعين يكون حاسمًا في هذا الإقلال الثقافي. وغالبًا ما يكون الانتحار سببًا مباشرًا في شهرتهم. أتذكر أن شغفي بماياكوفسكي كان نابعًا من قصيدته "غيمة في بنطلون"، ومن شجاعته في وضع حدّ لحياته. كما أن اهتمامي بتيسير سبول في الفترة نفسها كان موجهًا إلى ثوريته واكتئابه وانتحاره في عز الشباب.






أما انبهاري المتأخر بالكاتب المصري الأصل وجيه غالي (1929 ـ 1969) فكان بسبب حياته الغريبة وروايته الوحيدة "بيرة في نادي البلياردو"، ومذكراته التي نشرت بالإنكليزية وقتًا بعد انتحاره، التي كانت تبشر بكاتب عالمي. أما الشاعر اللبناني الفرنكفوني فؤاد أبي زيد (1914 ـ 1958) فينطبق عليه قول سارتر عن بودلير: "لم يحظ بالحياة التي تليق به". كان كل شيء في حياة هذا الشاعر العربي الشاب ينبئ بمشوار أدبي باهر. فبعد صدور أول مجموعة شعرية له بعنوان "أشعار الصيف" عام 1936، تعرف على كبار الأدباء الفرنسية في تلك الفترة: من أندريه جيد إلى بول فاليري، مرورًا بمونثرلان، وفرانسوا مورياك، وبول كلوديل، وجان بولهان. كان الشاعر العربي الشاب منذورًا لأن يكون ثاني كاتب عربي عالمي بعد جبران خليل جبران، فقد أوصى به بول فاليري لدى الناشرين الفرنسيين. ووعده جان بولهان بنشر مجموعته الثانية التي كانت تحمل عنوان "أشعار جديدة" لدى منشورات (NRF) الشهيرة. كما كان من المنتظر أن تصدر له دار نشر غراسي مجموعة شعرية أخرى. بيد أن لا شيء من كل هذا سيحدث، لأسباب نجهلها تمامًا. ما الذي حدث؟ فكتابه الشعري الثاني لن يصدر إلا في 1942 في دار نشر صغيرة، وبعدد نسخ محدود لن يتعدى 125 نسخة. وكتاب "منثورات للحظة ذكرى" بعدها ببضع سنوات في 85 نسخة. وفي 1948، سوف يخضع لعملية جراحية ستضعف قواه، وسيلقى حتفه، عشر سنوات بعد ذلك، بطريقة مأساوية تشبه بشكل كبير وفاة الفنان التشكيلي السوري لؤي كيالي. فقد توفي حرقًا في سريره الذي شبت فيه النيران بسبب سيجارة خلال نومه الثقيل. كان الرجل يتناول المورفين لتسكين آلامه... وقد ترك وراءه كتابة شعرية ونثرية نابضة بالعمق الوجودي: "أنا الآن مصلوب، وأتسكع من شجرة إلى أخرى. في البعيد، في البيوت، ثمة الرقص، ونشيد الموج، والانبهار. (...) بعد لحظة، حين يصمت الليل ويخلد العالم للسبات، سأكون الأوحد الذي يسهر في العالم، وسأُعدّ نفسي لرقصات أخرى. سأملأ النجوم بالرعشة وأمسك بحركة الكواكب في راحة يدي. أنا الآن سيد الكون، أنا الملِك. أنا قادر على إرقاص الجبال، وعلى أن أتلاعب بانهيار هذه الآلاف من الأكوان، وأتمكن من بعثها. كان يكفيني في الماضي رعشة وحيدة كي أشهد دوخة العالم. في غدير ظننت أني عثرت على السماء. فلماذا أكون عاجزًا هذه الليلة عن ذلك؟". أليس المقلّون في علاقتهم الإشكالية بالكتابة أكثر إثارة لفضولنا، وحياتهم الثقافية التي تمرّ كشهاب، أشبه بقصة قصيرة باهرة؟ نقرؤها بشغف كقصيدة هايكو وتنحفر في ذاكرتنا لكي تسكنها إلى الأبد؟
حين تسأل قارئًا غربيًا عن الكتابات العربية التي تبدو له عالمية سيذكر لك ألف ليلة وليلة، وإذا كان قارئًا فطنًا، سيذكر لك نجيب محفوظ، وربما أدونيس. كيف يمكن لكتاب مجهول مؤلفه أن يتبوأ هذه المكانة وهو ينتمي إلى ماضينا السحيق؟ إن التراكم الذي حققته الثقافة العربية ناجم عما غربله التاريخ، وما أنجزه النسيان والتهميش. فنحن ما كنا لنتعرف على كتابات ابن الراوندي لولا ما قام به عبد الرحمن بدوي من مجهود في جمع شتات إرثه... في وقت تمتلئ فيه مكتباتنا بمجلدات لا حصر لها في موضوعات لا يمكن أن تكون ذات جدوى في حياتنا المعاصرة... وعدد من المصنفات التي تملأ رفوف المكتبات قد لا تصبح سوى مجلدات عمياء لتزيين رفوف المكتبات...

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.