}

من مكتبة بورخيس إلى الكتابة الرقمية

فريد الزاهي 5 مارس 2024
آراء من مكتبة بورخيس إلى الكتابة الرقمية
(غيتي)
من وقت قريب أحسست أن بيتي بدأ يضيق عليّ من كثرة الكتب والأشياء التي أقتنيها من أسواق سَقْط المتاع وبائعي المتاع القديم في كافة المدن والبلدان التي أزورها. كنت ما إن أحط الرحال بمدينة ما في فرنسا، أو اليونان أو البرتغال أو إسبانيا، حتى أبحث في الإنترنت عن الأسواق الأسبوعية التي يرتادها بائعو النقود القديمة والآلات الفوتوغرافية وغيرها من الأشياء التي أستطيع حملها إلى البلد. فأول قطعة نقد فضية لمحمد الخامس اقتنيتها من سوق كهذه بمدينة برشلونة. ولأني بدأت أحس أني لم أعد أستعمل كتب مكتبتي إلا نادرًا، وأعتمد في أغلب الأحيان على النسخ الإلكترونية التي أحملها في حاسوبي، أضحت المكتبة أشبه بديكور ثقيل بالبيت يكبر ويلتهم الفضاء ويغدو ثقيلًا على البصر. جمعت أغلب الكتب في صناديق الكرتون ولم أترك منها إلا ما يمكن أن أرجع إليه في يوم ما... كان عليّ أن أقوم بذلك كي أتمتع برحابة البيت وأحس كأنه بيت جديد وكأني كائن مغاير...

من المكتبة إلى عالم الكتب

تذكرت حينئذ أني أعيش بشكل ما التحوّلات التي تنبّأ بها خورخي لويس بورخيس في قصة شهيرة بعنوان: "مكتبة بابل" (1941)؛ وهي قصة استوحاها المؤلف من قصة لكورد لاسويتز تحمل عنوان "المكتبة العالمية" (1904). تحكي القصة عن مكتبة هائلة تتضمن كل الكتب التي تناهز 401 صفحة، وكل صفحة منها تتضمن أربعين سطرًا. والكتب فيها موضوعة بشكل متشابه على رفوف تتضمن كلها عددًا متساويًا من الصفوف، وكل كتاب يتضمن العدد ذاته من الصفحات والحروف. والأبجدية المستعملة فيها تحتوي على 25 حرفًا. تجمع هذه المكتبة كافة المصنفات التي كُتبت كما كل تلك التي ستُكتب في ما بعد، ومن بينها عدد كبير من الكتب التي لا تتضمن سوى متواليات من الأحرف غير القابلة للقراءة.

وبحسب الراوي في القصة، إذا كانت هذه المكتبة شاسعة فإنها لا تتسم باللانهائية لأن عدد التركيبات الممكنة محدود. وهي من ثم لا يمكن أن تتوقف عند مكان ما، بل يمكنها أن تكون حوْلية تتكرر باستمرار، لتحوز على طابعها اللامنتهي. وهو يختم القصة بقوله: "إن الفوضى الظاهرة وهي تتكرر، يمكنها أن تشكل نظامًا، أيْ النظام بامتياز. ووحدتي تواسي نفسها بالتعلق بهذا الأمل".

ليس من الغريب أن يكون بورخيس وتلميذه بيويْ كثاريس قد فكرا في الوقت نفسه بشكل نبوئي في الطابع الكلي الذي يمكن أن يأخذه عنصران أساسيان من الحضارة الحديثة: الكتاب والصورة، باعتبارهما موطنين جوهرييْن للذاكرة البشرية ومن ثم لوجود الإنسان حاضرًا ومستقبلًا. ففي رواية "اختراع موريل" (1940)، التي أصدرها المؤلف عامًا قبل قصة بورخيس، يحكي عن ابتكار موريل لآلة (كانت بمثابة هدية لحبيبته) تسجل أسبوعًا من حياة شلة أصحابه، في جزيرة معزولة، تعرض في الجزيرة حياتهم بشكل متواصل وكأنها تستمر في حياتها بشكل متكرر. ومن قدرة تلك الصور على الواقعية والإقناع، يسقط هارب من السجن في حب المرأة التي تختلي بنفسها على الشاطئ للمشي والقراءة، قبل أن يكتشف "حقيقة" كونها مجرد صورة "حية".

استوحى بورخيس قصته الشهيرة بعنوان: "مكتبة بابل" (1941) من قصة لكورد لاسويتز تحمل عنوان "المكتبة العالمية" (1904)


كانت قصة بورخيس عن المكتبة تتنبأ بالمكتبة الرقمية في وقتنا الراهن. وصارت ملهمة للعديد من المؤلفين ومن ضمنهم أمبرتو إيكو في "اسم الوردة"، إلى حدّ أن أحدهم (جوناثان بازيل) أنشأ موقع مكتبة بابل للتشخيص الرقمي للمكتبة التي تخيلها بورخيس. وتبعًا لذلك فإن الخوارزمية التي يقوم عليها هذا الموقع بإمكانها أن تولّد كتابا من 410 صفحة و3200 حرف في الصفحة باستخدام 26 حرفًا أبجديًا. بيد أن هذه الصيغة المعلوماتية لا تتضمن كافة الكتب الممكنة وإن كان بإمكاننا أن نعثر فيها على كافة الصفحات الممكنة (مثلًا كل صفحات قصة بورخيس غير أنها منثورة في كتب مختلفة)... 

بعيدًا عن هذا الطابع الكوني للمكتبة يستعيد عبد الفتاح كليطو فكرة المكتبة بشكل مغاير يكاد يتلفع برمزية مستعصية على التأويل. فالصبي يدخل الغرفة المغلقة التي لم يلجها قطُّ، هو الذي ذاق حلاوة الكتاب، فيعثر فيها على مكتبة شبه محنطة. إنه يعيش تجربة ذلك الذي يدخل الجنة (في نكتة متداولة) فيجد أن كل ثمارها وحورها العين منحوتة في الجليد. إنها موجودة ظاهرًا وممتنعة جوهرًا. "استدار نحو المكتبة، نظر إلى الكتب مليًا، ومدّ يده ليأخذ واحدًا منها. لكن المجلدات كانت ملتصقة ببعضها، ولم يفلح في استخراج أي كتاب. هكذا إذًا، لم يكن الدخول إلى المكتبة ممنوعًا فقط، بل كانت الكتب مكدسة، بحيث يعجز أي كان عن استلال واحد منها، خصوصًا أنه كان ضعيفًا وخائر القوى، بعد الحمى التي أقعدته الفراش. الكتب موجودة هنا، وقراءتها مستحيلة، فضلًا عن فتحها، والنظر إلى العلامات المرسومة على أوراقها. كل ما بإمكانه أن يفعله أمام هذا السياج، هو تأمل الأغلفة، وتهجي العناوين... تبدو للوهلة الأولى فوضوية ومنفرة... جرب كل صف، وواجه نفس المقاومة، قد تكون تلك الموجودة بالأعلى أقل صلابة، ولكنها على كل حال، بعيدة عن المتناول". وحين يتمكن من استلال مجلد منها يجد نفسه أمام كتاب متمنّع عن القراءة: "وكأن هذا الكتاب كان في مأمن من الفضول، والانكشاف، فهو موضوع في أعلى المكتبة، بعيدًا عن متناول اليد، محاصرًا وسط كتب أخرى، وبالتالي كان محميًا باللغة المجهولة، وغير المفهومة التي كتب بها، بالإضافة إلى كتابته الضيقة، بل الضيقة جدًا لدرجة أن القارئ يمكن أن يتوه بين سطورها وكلماتها، ويعجز عن إيجاد مخرج منها. فهو كتاب متمنّع عن القراءة، ويستهدف دون شك، صنفًا مميزًا من القراء، صنف لا ينتمي إليه الطفل مطلقًا؛ وهذا أيضًا أسلوب آخر لتذكيره بأنه يجب أن يمتنع عن الاحتفاظ به بين يديه".

هكذا يتبدى لنا أن كليطو، عاشق بورخيس الكبير، الذي قال عنه في كتاب "في جو من الندم الفكري": "تعلم بورخيس العربية وتوفي، أو ربما على الأصح تعلم العربية فتوفي" (ص 30)"، يقدم تأويلًا جديدًا للمكتبة الحية، بلغاتها وتصانيفها، التي تحتاج إلى الترجمة كما إلى القارئ العارف، لأن الكتاب في تراصه في المكتبة لا يمكن إرجاعه إليها من غير أن يكون قد تحول في لغة أخرى...

من أفول المكتبة إلى الكتابة الرقمية

في التاريخ الطويل للكتابة والمكتوب، تحدث كل طفرة، تتعلق باكتشاف سند جديد للكتابة والتدوين وحفظ الأقوال، تغييرًا محسوسًا في التلقي والاستعمال وأنماط القراءة. فأول أثر تركه التشفير المعلوماتي للنص أدى إلى نزع الطابع المادي المحسوس عن الكتاب، لا باعتباره فقط سندًا لتنظيم النص وإنما باعتباره كيانًا قائمًا بذاته. لقد أصبح الطابع البصري العيني للكتاب مغايرًا، مجردًا عن التيبوغرافيا التقليدية كما عن خط اليد، وتحولت الآلات إلى ذاكرة محمولة يمكنها التصرف فيه بالشكل الذي تبتغيه، بتغيير حروفه وخطوطه، وبترجمته أوتوماتيكيًا، كما بتشذيره وتحويله إلى مقاطع قابلة للاستخدام الشخصي أو العملي.

ثمة نمطان للرقمنة: الرقمنة بصيغة الصورة التي تحافظ لنص قديم أو جديد على هيئته، وهي التي يستعملها الناشرون في بيع الكتاب الرقمي؛ والرقمنة بصيغة النص التي ظلت لوقت طويل النمط الوحيد للرقمنة. ثم جاءت الصيغة البصرية لتعوض تقنية الميكروفيلم، التي كانت تستعمل سابقا في تصوير الجرائد وخزنها والحفاظ على المخطوطات وتيسيرها للقراء. وهكذا تطورت المكتبات الرقمية التي كانت وراءها منظمات رائدة كالمكتبة الرقمية للمكتبة الوطنية بفرنسا ومنظمة اليونسكو ومكتبات الجامعات الكبرى بالعالم.

يتبدى لنا أن كليطو، عاشق بورخيس الكبير، يقدم تأويلًا جديدًا للمكتبة الحية، بلغاتها وتصانيفها، التي تحتاج إلى الترجمة كما إلى القارئ العارف


يمكّن الكتاب الرقمي ولو بصيغة "البي دي إف" الثابتة من الاشتغال عليه مباشرة بالحاسوب وترجمته مباشرة في الشاشة، من دون الحاجة إلى تقنيات مزدوجة وإلى ارتياد الصفحات وتقليبها واحدةً واحدةً. وهو، بصيغته البصرية، يحافظ على طابعه الأصل، خاصة حين يتعلق الأمر بكتاب قديم أو مخطوط. لقد صارت المكتبة محمولة ومتنقلة بكاملها تصاحب الباحث والطالب أينما حلّ وارتحل. ونحن إذا كنا قد فقدنا الطابع الحسي للمس الورق وشبقيته فإننا قد ربحنا صيغًا جديدة للتفاعل والقراءة. فالمكتبة الرقمية تخلق قارئًا أكثر حرية وأكثر قدرة وفاعلية وأشد سرعة hyper-lecteur بالرغم من أننا لا نجد في المكتبات الرقمية كافة المصنفات التي نبحث عنها. وهي لا تمنع مع ذلك من البحث عن مصادر الكتب الأخرى والتمتع بقراءتها عينيا وبشكل غير مجرّد. فالكتاب العيني، مثله مثل اللوحة، أضحى يسافر بحرية. ويمكننا أن نجد المقابل لذلك وبشكل مدهش في المتحف الافتراضي الذي يجعل المتعطش لزيارة اللوفر أو غيره (في زمن الحدود والفيزا المستعصية على الحصول) يتمكن من زيارته بتقنية التجسيم الافتراضي ذي الأبعاد الثلاثة.

هذه التحوّلات أدت، بشكل متسرّع حسب ما يبدو لنا، إلى منح السند الرقمي الجديد أهمية أكبر مما هي له فعلًا. فقد بدأ الحديث لدينا في السنين الأخيرة عن أدب رقمي يستند إلى كتابةٍ مواضيعها ونوعية تواصلها رقمية وتُنشر بوسائط رقمية. وهي إذ تعتمد على الشذرية والتفاعلية التي تسمح بها التكنولوجيا الرقمية تمكن القراء من الانخراط في صياغة النصوص. فمع روايات محمد سناجلة صار للأدب الرقمي لدينا من "المنظرين" و"المفكرين" والنقاد أكثر من كتاب الرقمية (أو لنسمّهم "رُقّامًا" بما أنهم لا يكتبون)، بل ظهرت مواقع مختصة بالأمر تنشر أدبًا رقميًا لا ميزة أدبية له في الغالب.

يفترض هذا الأدب الرقمي امتلاكا لناصية التقنيات الرقمية من جهة، وتحجيم موقع الكاتب ومنح القارئ التفاعلي موقعا مميزا في المصاحبة والمشاركة في الصياغة وتحويلها. الأمر أضحى أشبه بسوق عكاظ، أي بمسرح لثقافة شفهية جديدة، يتحول فيه المؤلف إلى ممثل وفاعل ومتلق في الآن نفسه. بل هو مسرح حكائي يذكرنا كثيرا بروايات روب غريّيه التي خلخلت الحكاية إلى درجة تموت فيها الشخصية ثم تنبعث من جديد أمام أعيننا القارئة...

إن أدبًا من قبيل هذا لا زال في تباشيره الأولى في ثقافتنا العربية، وحريّ بنا أن ندرجه في الكم الهائل من الكتابات الشذرية التي تحبل بها صفحات رجال ونساء موهوبين، غير أنهم يفضلون مسرحهم ذاك عن الخروج إلى مجال النشر الورقي، الذي يهابون صراعاته ورهاناته وسلطاته. وهو، إن كان يقوض موقع المؤلف، فهو يحول التخييل الحكائي إلى انفتاح على المؤلف أن يتحمل كافة تبعاته، ومن ضمنها أن يفقد النص الذي يعتبر مؤلفًا له لأنه يغدو نصًا تشاركيًا.   

هذه العوامل وغيرها، هي ما يجعل من العمل الأدبي، مثله في ذلك مثل المكتبة، في مواجهة مستمرة لأفوله أو اندثاره. ويبدو أن السينما قد أدركت هذه المخاطر، فاستعملت التقنيات الرقمية بشكل أكبر من الأدب، من غير أن يتحدث النقاد عن سينما رقمية أو "تقليدية"، لأن هذا الاستعمال كان سيعني بشكل واضح اندثار الصناعة السينمائية وتحويلها إلى لعبة بسيطة في يد كل من هبّ ودبّ.

فما وقع لصبي قصة عبد الفتاح كليطو، حين وجد نفسه أمام كتاب غير قابل للقراءة، سيقع حتما لنا، إذ سنجد أنفسنا أمام "كتابات" (رقانات؟) غير مقروءة لأننا سنكون نحن القراء بمثابة صانعيها الافتراضيين... 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.