في فيلم آخر تدور ناعورة يجرها حمار وتصب الماء، ساعة تتكتك وتقرّب الخطر، مع كل دورة للناعورة يقترب الخطر. يحمل البطل ساعة ليعد زمن الحياة والموت، يمر الزمن وتتآكل السيجارة في فم حامل الساعة والبندقية، ترن الساعة قبل لحظة الإعدام، تسجل الرنات عتبة زمنية فاصلة بين الموت والحياة، يدبّر السردُ الزمنَ باقتصاد لتجنب الملل والثرثرة. الأقوى هو من يسدد أولا، إنه الأشجع. لقد بدّل المسدس مفهوم الشجاعة حين وسع المسافة بين البطل وعدوه.
في فيلم آخر يصل الأبطال الثلاثة إلى موقع الكنز في وقت متقارب، تقدم لقطة أسطورية دوّار الذهب في مقبرة، جسدت حركة الكاميرا الجشع وهي تحل محل عين راعي البقر حين اكتشف قبر الكنز. جشع في مكان تؤكد كل السرود الكونية أنه مكان القناعة والاعتبار، من لم يعظه الموت فلا واعظ له.
ثلاثة رجال حول غنيمة، واحد يحمل ساعة، يترك خصميه يتقاتلان قبل أن يستفرد بالمنتصر. يقرر "يوجد الذين يملكون مسدسات معبأة والذين يحفرون". تحصي موسيقى الساعة الثواني قبل انطلاق الرصاصة، والأسرع يطلق النار أولا وينتصر، يسيل الدم قبل الحصول على دولارات زائدة...
ناعورة يديرها الهواء وتصدر أزيزا غريبا في محطة قطار في خلاء مخيف، عازف هارمونيكا يطرب أعداءه قبل التسديد عليهم...
هذه لقطات شهيرة من أفلام بصمت تاريخ السينما العالمية، أفلام شاهدتها في قاعة سينما في مدينة صغيرة، لم أعرف مخرجيها، وبعد سنوات بحثت عنها لأنها رسخت في ذاكرتي، والغريب أني وجدت أنها للمخرج نفسه، سيرجيو ليون، الذي تحل ذكرى ميلاده التسعين هذه الأيام (ولد في 3-1-2019 وتوفي في 30-4-1989)، وقد شمل إنجازه الكبير والمتنوع أربعة أفلام في أكثر من 600 دقيقة. أفلام توحدها نظرة وأسلوب ومنحت أبطالها شهرة عالمية. أشهرها "الطيب والشرير والقبيح" 1966 الذي غطى على سابقيه، "من أجل حفنة دولارات" 1964، و"من أجل بضعة دولارات" 1965، قبل أن يأتي فيلم "حدث ذات يوم في الغرب" 1968 ليجعل وجه كلوديا كاردينالي يطبع تاريخ الويسترن.
ثلاثة أنواع فيلمية
أحاول الكتابة عن هذه الأفلام ليس كما أشاهدها الآن، بل كما شاهدتها في سن الخامسة عشرة في السينما، أحاول استعادة الأحاسيس لأفحص وأفسر لنفسي السحر الذي مارسته عليّ لقطات خالدة. أفلام طبعت نظرتي للسينما، كان ذلك في اللاوعي، الآن أعود للمكان لأنفض الغبار عن الذاكرة، هذه الأيام أستعيدها، أجد أن سيرجيو ليون كان المخرج الأكثر قوة، يقولون إن جون فورد أفضل، ويصنف فيلمه كأحسن فيلم، لم يصمد جون واين وغاري كوبر في المشهد
السينمائي العالمي كما صمد كلينت إيستوود.
كانت السينما في مدينة تيفلت، سبعين كيلومترا شرق الرباط، تعرض أنواعا فيملية محدودة: أفلام هندية، كاراتيه وويسترن. مللت النوعين الأولين بسرعة لثلاثة أسباب:
السبب الأول هو أنك تشاهد عشرات الأفلام وتشعر كأنك تشاهد الفيلم نفسه. أفلام استنزفتها النمطية حتى صار المتفرج يتوقع ما سيقع في اللقطة التالية وهو واثق من النهاية.
السبب الثاني أنها تقدم رؤية سطحية للعالم، رؤية نابعة من وعي سعيد وليس من وعي شقي. مثلا يتوقع البطل الهندي أن يساعده الحظ. في فيلم ويسترن لا يعاني البطل من أي أوهام بصدد الآخرين، لا ينتظر منهم شيئا، لذلك يعتمد على ذراعه ومسدسه. ويعطي فيلم فريد زينمان "القطار يصفر ثلاث مرات" High Noon 1952 صورة مريعة عن جبن ونذالة الشعب، شعب يفرح لأن الجريمة مربحة ويترك البطل يقاتل وحيدا في انتظار مقتله. وحين تقع المعجزة وينتصر البطل الوحيد يخرج الشعب من جحره للاحتفال بالشجاعة.
السبب الثالث لأن في الأفلام الهندية وقفا مستمرا للسرد لفسح وقت مستقطع طويل لوصف الطبيعة بالكاميرا وللغناء، وهذا يجعل الإيقاع رتيبا، بخلاف أفلام الويسترن حيث تقل النمطية ويظهر الوعي الشقي للبطل في سياق اجتماعي - اقتصادي واضح هو السيطرة على الغرب الأميركي. ثم إنه لا يوجد سقف أخلاقي لبطل الويسترن، بينما كان بطل الفيلم الهندي جد محتشم.
كان الرفاق المهيمنون في الجامعة المغربية يكرهون كل ما هو أميركي، وأنا يمكن أن أكون قد تأثرت ببلاغتهم الثورية في كل المجالات إلا السينما. بالنسبة لي أفلام الويسترن هي منبع السينما.
ما هي توابل أفلام الويسترن؟
أولاً، بتحليل فضاء الأحداث يتضح أنه مؤثث بعناصر محدودة تتكرر، فرس ومسدس وحانة وإعلان عن غنيمة، حجر وطريق وصبار وموقد نار يخبر بمن مرّ من هنا. وجوه القحط تتقاتل في رمل وحر وصفير ريح عاتية. للصحراء وجه ولون وطعم في أفلام الويسترن. صحراء شاسعة تقدم في لقطات عامة. وقد سمى جون فورد فيلما له "ابن الصحراء" 1946. لقد دفعت أفلام الويسترن أبطالها إلى فضاءات ريفية جديدة بعيدا عن الفضاءات الضيقة التي صورها الفنان المديني شارلي شابلن.
ثانياً، يحرص مخرجو أفلام رعاة البقر كثيرا على تميز لقطات البداية، يصير الفيلم كأنه قصيدة بمطلع مؤثر... شاهدت مطلع فيلم المخرج مونت هيلمان The Shooting 1967 عشرات المرات بالمتعة نفسها، فالحصان يتحرك كأنه يسمع الموسيقى التصويرية. بعد سنوات
أدركت أن سر السحر هو أن حركات الحصان تربط اللقطات ببعضها. كان ذلك دليلا على قدرة الفارس على ترويض حصانه.
ثالثاً، بتحليل وضع البطل يتضح أن سيرجيو ليون قد قدم في أفلامه بطولة ثلاثية بدلا من الثنائية المهيمنة في هوليوود، سرَد سيرة أشرار لديهم شحنة بطولة ويحاولون ويحتالون ليبدوا لنا خيرين.
رابعاً، بطل الويسترن أعزب دائما، لا أتذكر في مراهقتي حفل زواج لبطل ويسترن لأن هذا النوع الفيلمي يحتفي بالبطل الأعزب المتحرر من أي روابط قد تقيد انطلاقه للمغامرة، إلى أن شاهدت فيلم "القطار يصفر ثلاث مرات" المذكور أعلاه وفيه بطل الويسترن غاري كوبر يحارب بعد زواجه مدنيا لذا يرفض الراهب دعمه ضد اللصوص والقتلة.
خامساً، على صعيد التلقي، يؤيد المتفرج على نحو غريزي بطلا حسن الصورة يحارب الشر. حسب الفيلسوف اليوناني توكيديدس فإن "سر السعادة هو الحرية وسر الحرية هو البطولة"، بطل الويسترن فارس حر لا يقهر، هذه هي البطولة. لكنه فارس واقعي بلا أوهام وهو مسلح بمسدس فقط، لذلك فهو أكثر خفة وكفاءة من دون كيشوت، الذي كان يحمل درعا وخوذة حديدية تثقل على جسده وعلى فرسه.
سادساً، في أفلام الويسترن تشويق وانتظار ومفاجآت مستمرة، مرارا يتحول الصياد إلى فريسة، وتتسبب تفاصيل صغيرة في انقلابات مصيرية. السرد قائم على "إما وإما". الخيارات واضحة وتفرض على المشاهد التفاعل وتجبره على "التموقف" مما يرى لأنه يفهمه.
سابعاً، للحركة في أفلام سيرجيو ليون عمق نادر، إنه مخرج يحمل في دمه كريات الواقعية الإيطالية الجديدة، لذلك يجد المتفرج في الأحداث عمقا نفسيا لا مجرد حركة ميكانيكية. في أفلام ليون لمسة إنسانية ولا تظهر فيها عنصرية جون فورد حتى في العناوين مثل "FORT APACHE" 1948.
تاريخ واقعي ومتخيل
كان راعي البقر عنصرا استيطانيا بينما صورته السينما قناصا يكسب رزقه ببندقيته. ولهذا
أرضية وسياق صلب. كان الغرب الأميركي مغريا بالثراء، وقد نادى أحد الدعاة الأميركيين "انطلق غربا أيها الشاب"، إريك هوبزباوم، عصر الثورات ص 554. تاريخيا امتدت سيرة رعاة البقر الفعلية لا المتخيلة من نهاية حرب الانفصال 1865 حتى انهيار أسعار المواشي سنة 1885، بعدها انتهى عصر الخيول غير المروضة. في تلك الفترة عرفت أميركا البارونات اللصوص. والسبب، حسب المؤرخ الكبير، أنه لم تكن هناك حكومة في أميركا بين 1850 و1889. عندما تضعف الحكومات يكثر رعاة البقر.
للمقارنة تميزت جل أفلام الويسترن حتى سبعينيات القرن الماضي بعنف شديد وإنكار تام للهنود الحمر الذين تم قتلهم كالذباب، لكن بدءا من فيلم كيفن كوستنر "الرقص مع الذئاب" 1990، ثم فيلم ترانتينو "جانغو" 2012، ففيلم طومي لي جونس "هومسزمان" 2014 تغيرت الصورة. يعرض الفيلم الأول راعي بقر مسالم، ويعرض الثاني فارسا أسود على حصان، وهذا نادر، ويعرض الثالث صورة مشرفة للمرأة. هكذا عمل ويسترن العولمة على تصحيح الصورة لإبراز راعي البقر أقل عنفا وأكثر إنسانية.