}

الفيلم الوثائقي.. بين مرجعية الجمهور وصدقيّة الثيمات

سينما الفيلم الوثائقي.. بين مرجعية الجمهور وصدقيّة الثيمات
المخرجة الألمانية ليني رفنشتال خلف الكاميرا
ارتبط مفهوم السينما الوثائقية في ذهن الجمهور بكونها مادة فيلمية ناقلة للحقيقة ومنقّبة عنها في الزوايا المظلمة ودهاليز التاريخ، تتعقّب خطوات الواقع وصنّاعه والمؤثرين فيه، تنحت في الزمن لتستخرج منه مواضيع ذات أهمية، تترك الأثر في ذهن المشاهد وتؤثث ذاكرته بتفاصيلها، ليستمتع بها ويقف من خلالها على الحوادث العظام والحقائق المغيّبة على اعتبار أنها مصدر مهم للمعلومة والتوثيق، مادتها المرئية ترسّخ المعلومة أكثر وتضمن لها مساحة أوسع وأعمق في الذاكرة الفردية والجمعية للمجتمع، ومن هنا أصبح من السهل نقل الحقائق وتفاصيلها، وفي نفس الوقت دس مغالطات مقصودة تخدم أيديولوجية المخرج والجهة المنتجة أو من يقف خلفها، لتوصيل غاية وتثبيتها في ذهن الجمهور، دون أن يقوم الأخير بأي مقاومة أو مواجهة ما، وكأنّ "الثيمة" التي تقدّمها السينما الوثائقية باتت تقترب من الحقيقة المنزّلة التي يجب تلقيها وتخزينها في الذاكرة والعودة لها في سياق حياتي ما، والاستشهاد بها كلّما دعت الضرورة المعرفية لذلك، وأكثر من هذا يصبح من الصعب تصحيحها مع الوقت، أو استبدالها بمعطيات أعمق إن ثبت الخطأ، وكأنّ الجمهور لا يريد أن يواجه ذاكرته بهذا الخطأ الذي قامت بتخزينه لسنوات وربما لعقود، لكن في المقابل هناك قلة من هذا الجمهور تعتمد على مبدأ الشك، وهي الشريحة التي لا تغلق الأبواب خلفها، فقط تتركها مواربة حتى تضمن فتحها متى أرادت،
وهي شريحة عقلانية عوّدت الذهن على العديد من الافتراضات والتناقضات، لامتلاكها مرجعية ثقافية بشكل عام، بفضل التكوين والتعليم الجيد، إضافة إلى هامش الحرية الذي كبرت ونشأت عليه، هذا الهامش الذي جعلها تقف على السينما الوثائقية بجميع توجهاتها، سواء تلك التي تعتمد على تقديم المعلومة في ثوب المعرفة وتعول على نوع من "الصدقية"، أو تلك التي تمتهن "البروباغندا"، وما بين التوجه الأول والثاني تيّارات سينمائية وثائقية تتقدم أو تتأخر حسب محمولها الموضوعاتي وانتمائها السياسي والجغرافي، وأكثر من هذا هناك فئة أخرى واعية جدا، وتمتلك معرفة ودراية كبيرة تؤهلها بأن تحكم على توجه كل فيلم ومحموله، وهي من المهنيين المحسوبين على صنّاع السينما الوثائقية والمنظرين لها والنقاد وممن يملكون الشرط المعرفي، ويستظلون تحت شجرة الإبستمولوجيا.

معياريّة التلقي في السينما الوثائقية
على ضوء ما تم ذكره وجب القول بأن هناك معياريّة ونسبية في عملية استقبال مواضع الأفلام الوثائقية من طرف الجمهور، ويختلف هذا حسب ما يملكه أو ينتمي إليه كل فرد، ويتحكم فيه المحمول العام والمرجعية الفكرية التي تم تحصيلها من الأسرة، المجتمع، البيئة، الأنظمة، الدين والتشكيل الثقافي والحضاري بشكل عام، إضافة إلى العديد من العوامل والمعطيات الأخرى. هذا التشكّل الزمني يتحول إلى المتحكم الرئيسي في خيارات المُشاهد، ويرشد ذائقته الجمالية ووعيه العام.

وقد كتب الناقد السينمائي أمير العمري مقالا تحت عنوان "الفيلم الوثائقي والجمهور"، نشر في مجلة الجزيرة الوثائقية، شرّح فيه العلاقة الثنائية المعقدة التي تجمعهما- أي الفيلم الوثائقي والجمهور. ومن جملة ما كتبه: "هذه العلاقة تعتمد بلا شك على طبيعة الجمهور المشاهد أصلا، مستواه الفكري والتعليمي، خلفياته الاجتماعية والعرقية، نوعه الجنسي (ذكر- أنثى)، الطبقة الاجتماعية التي ينتمي إليها. إن مشاهدة الفيلم الوثائقي ليست فقط عملية ذهنية بسيطة تعتمد على قراءة نمطية موحدة لـ"الصورة". وأمام الفيلم الواحد يختلف الجمهور بأفراده وتكويناتهم الفكرية والاجتماعية، ولا يتسلل النص المرئي في الوثائقي ببساطة وسلاسة، إلى عقل المشاهدين جميعا، الموجودين في قاعة العرض أو أمام أجهزة التلفزيون مثلا، بنفس الدرجة لكي يؤدي إلى التأثير نفسه".
علاقة الجمهور بالسينما الوثائقية هامة ومُعقدة في نفس الوقت، وتكمن هذه الأهمية في أن المشاهد ينظر إلى هذا الجنس السينمائي باحترام كبير، لاعتبارات سبق أن ذكرنا بعضها آنفا وسنتطرق إلى ما تبقى في المبحث التالي، لكن على العموم تلتقي كلها في نقاط معيّنة يسهل الرجوع لها أو حصرها بعد الاستعانة بعلوم إنسانية رديفة للنقد ومحفزة لاستقراءاته، ويمكن أن يُبنى عليها تقدير معين، أو خلاصة تدعم الاتجاه الوثائقي للفيلم وأيديولوجيته المطروحة، ويمكن الوقوف على هذا من خلال الدراسات السوسيولوجية التي تقرّب الحقيقة وتسهل تفكيك مرجعيات الجمهور وتساعد في فهمه.     
نسبة كبيرة من الجمهور تربط "الفيلم وثائقي" بصور ومشاهد الأبيض والأسود، ويعود هذا إلى أن بدايات السينما كانت تقتصر على هذين اللونين فقط، قبل أن تتطور مع الوقت وتصبح فيما هي عليه حاليا، إذ أن كمّية المعلومات السينمائية التي تلقاها هذا الجمهور في مراحل حياته المختلفة جاءت انطلاقا من وثائقيات الأبيض والأسود بحكم أنهما لوني الأرشيف السينماتوغرافي.

في البدء كانت السينما وثائقية، والدليل أن أول المشاهد التي صورها جهاز الأخوين لوميير، كانت عبارة عن فيلم "خروج العمال من المصنع"، أو فيلم "راعي الحديقة"، وآخر بعنوان "وصول القطار". وهذه الأعمال وغيرها كلها وثائقيات، كانت تعرض وتجلب التصفيق والإعجاب والإبهار، شكّلت بمجملها بدايات السينما، وأثبتت أبوة الوثائقي على باقي الأصناف، قبل أن يأتي عصر تصحيح الألوان، الذي أزاح الأبيض والأسود على البعض من هذا الأرشيف، بحكم أن هذه التقنية لم تعد مكلفة كما كانت سابقا، في محاولة من شركات الإنتاج لتشويه الذاكرة الفردية والجماعية التي تحتفظ بأفلام وثائقية عظيمة تم تحقيقها بالأبيض والأسود في أذهانها، وشكّلت بأهميتها التوثيقية والتعريفية غاية جمالية وعلمية كبرى لدى فئات متنوعة من المجتمع، عرفت من خلالها طبيعة تلك الأوقات ونمط عيش تلك المجتمعات، عمرانها، ألبستها، تحركاتها، الفضاءات التي تعيش فيها، وأكثر من هذا تثبيت اللحظات التاريخية المهمة في حياة الشعوب على شرائط "السيلولويد"، وأصبحت مع مرور الوقت وثائق سمعية بصرية غاية في الأهمية، لكن رغم القيمة التاريخية التي تملكها غير أن هناك من يقوم بقطع وسلخ أجزاء منها، لضمها لأفلام جديدة تخدم أفكارا معينة، وربما تناقض الفيلم الأصلي، الذي تم تحقيقه وفقا لسياق معين، يخدم اتجاها ظرفيا.

المخرج دزيغا فيرتوف على طاولة المونتاج سنة 1929 


















عين فيرتوف واحترافية رفنشتال وأسبقية فلاهرتي 
 من بين الأعمال المهمة التي شكّلت انعطافا تاريخيا في السينما الوثائقية وأصبحت مرجعا لكل دارس ومحب للسينما منذ صدورها والى اليوم، فيلم "رجل مع كاميرا سينمائية" المنتج سنة 1929، للمخرج الروسي الكبير دزيغا فيرتوف، والذي نقل فيه الحياة العامة في الاتحاد السوفييتي السابق، من خلال تسليط الكاميرا على العمال الذين يذهبون إلى مراكز عملهم بكل فرح وبهجة، وعند الانتهاء يتجولون في المدن، يستمتعون بالعروض المسرحية والفنية والسمر في المقاهي والبارات. ويعد هذا المخرج من أهم المنظرين للسينما الوثائقية، حيث أرسى لها قواعد متينة ومهمة، فيها رؤى فلسفية وتقنية، وقد أسس فرقة خاصة، أسماها "العين السينمائية" تحقيقا وخدمة لغايته الفكرية. ومن بين الأشياء التي كتبها عن السينما الوثائقية، وأصبحت مع الوقت مرآة عاكسة لأفكاره ورؤاه، وعبّدت الطريق لصنّاعها: "أنا عين السينما.. أنا أعيد صوغ الإنسان بمثال يفوق آدم.. أنا أعيد صوغ آلاف البشر بملامح وطبائع مختلفة.. أنا العين السينمائية.. آخذ يد الأقوى من البعض والأنف الأكثر دقة من البعض الآخر، والرأس الأجمل من البعض الثالث، وبالمونتاج فقط سوف أخلق الإنسان الجديد".
سبقت تجربة المخرج الأميركي روبرت فلاهرتي، الذي يعتبر أبا السينما الوثائقية، مسار وفيلم دزيغا فيرتوف، وهذا بعد أن حقق فيلما بعنوان: "نانوك من الشمال"، المنتج سنة 1922، والذي صور من خلاله حياة عائلة من الأسكيمو تمتهن الصيد، بعد أن رافقها وأقام معها وفهم ثقافتها ومرجعياتها المجتمعية، ومن خلال فيلمه هذا استطاع أن يظهر لجهات عدة مجتمع الأسكيمو،  كما أن هناك تجربة فيلم وثائقي غاية في الاحترافية والمهنية والضخامة، وهو "انتصار الإرادة" المنتج سنة 1935 لليني رفنشتال، وهي امرأة مخرجة تعد من بين أعظم المخرجات وأكثرهن ابتكارا، وقد صوّرت هذا العمل خدمة للدعاية النازية التي يتزعمها هتلر، وقد أحدثت ليني من خلال هذا الفيلم الوثائقي ثورة على التقنية، إذ أسست لقواعد جديدة، بداية في التعامل مع الكاميرات وانتشارها، لإظهار عظمة المجاميع البشرية وقوة هتلر الكبيرة، وانتهاء بالمونتاج والتركيب، وهي عناصر ومعطيات أظهرت مدى اتقاد ذكاء المخرجة التي أخرجت بعدها العديد من الأفلام الوثائقية المهمة، لكن حياتها المهنية في السينما انتهت مع نهاية الحرب العالمية الثانية، حيث تمت محاكمتها لكن جرت تبرئتها من جميع التهم، ومن بين أقوالها الشهيرة "حتى يوم وفاتي سيظل الناس يقولون إن ليني نازية، وسأظل أنا أقول ولكن ما الذي فعلته؟"، لكن رغم هذا لا تزال ليني رفنشتال أعظم مخرجة أفلام وثائقية إلى اليوم.

المخرج الأميركي روبرت فلاهرتي 


















أفلام روائية تُوهم الجمهور بوثائقيتها
هذا الإرث الذي تعكسه السينما الوثائقية إضافة إلى أفلام أخرى مصورة في كل نقاط العالم تقريبا، تم تصويرها بالأبيض والأسود، وأكثر من هذا جاءت في الأغلب صامتة، هي المواد التي لا تزال تعرض إلى اليوم في جميع القنوات التلفزيونية وعلى مواقع الإنترنت، ولهذا أصبح الفرد عندما يتذكر أشياء من الماضي بات يربطها بالأبيض والأسود، حتى أن الكثير من المخرجين باتوا يخادعون الجمهور من خلال التخلي عن الألوان من أجل إيهامهم بصدقيّة المشاهد وتاريخيّتها،

ونحن لا نتحدث في هذا السياق عن التوظيف الجمالي الذي يولّد طاقة فنية، والتي قال عنها المخرج المختلف أندريه تاركفسكي: "إن إدراك اللون هو ظاهرة فسيولوجية وسيكولوجية وينبغي فعل شيء لتحييده إذا أراد الفنان أن يكون أمينا للحياة، هنا يتعين عليه أن يقوم بمحاولة لتحييد اللون وتخفيف آثاره على الجمهور"، بل نشير إلى المخادعة الكبرى وهي الإيهام بالواقع والحقيقة، سواء كان هذا الإيهام عن طريق إنتاج وتمثيل مشاهد جديدة، ومعالجة صورها بالأبيض والأسود، مع توظيف خطوط وخربشات على الشاشة توحي بأن المشهد قديم فعلا، لخدمة سياق ما في الفيلم، أو إعادة توظيف صور حقيقية ووضعها في سياق مخالف تماما مثل ما حدث على العديد من الوثائق الفيلمية الألمانية، أو من أجل محاكاة وجهة نظر المخرج، وهذا ما حدث مثلا في فيلم "جي إف كي" الذي أخرجه أوليفر ستون، ويحاكي فترة اغتيال الرئيس كينيدي، حيث تم استغلال الأرشيف الموجود لخدمة ما يؤمن به المخرج. ومن بين الأمثلة الأخرى التي تم من خلالها تصوير مشاهد جديدة ووضعها في فيلم روائي من أجل الإيهام بالحقيقة ما تم توظيفه في فيلم "فورست غامب" سنة 1991 الذي أخرجه روبرت زيمكيس، ولقد تم توظيف الأرشيف وتغييره في الكثير من المرات، حيث يتم إدخال البطل فورست غامب في الفيلم وإدماجه في لقطات أرشيفية حقيقية من أجل إيهام المتفرج بواقعيتها وحقيقتها. والفيلم الروائي البولندي/الفرنسي "حرب باردة" سنة 2018، للمخرج بافل بافليكوفسكي، تم تحقيقه باللون الأبيض والأسود، وقد نجح المخرج إلى حد كبير حين أوحى في بداية الفيلم بأن هناك مؤسسة تتبع الحكومة البولندية تحاول جمع التراث الغنائي الشفوي، وقد تم تصوير هذا الأمر بتقنيات بدائية، حتى عملية تحريك الكاميرا ولباس الأشخاص، وكلها معطيات توحي بأن الفيلم تأسس على مشاهد وثائقية حقيقية، لكن الواقع غير ذلك تماما، وهو من الأفلام القليلة التي تعكس قيمة جمالية وفي نفس الوقت تقدم تصورا شاملا لقضية سياسية غاية في التعقيد والأهمية، وربما هذا "الإيهام" هو ما ساهم بشكل كبير في خلق هذه الجمالية، دون أن ينتقص مخرجها من أسس كل قيمة وكل مشهد في هذا الفيلم الروائي الذي يوهم المشاهدين بوثائقية الفيلم، من أجل توفير الشرط السينمائي والسياسي، وأهمية عكس مفهوم الذاكرة/ الأرشيف على الفرد والمجتمع.

استطاع فيلم "حرب باردة" أن يقدم رؤيا من خلال لعبه على وتر البناء والانتقال بسهولة من فضاء لآخر ومن مدينة لمدينة ومن دولة لأخرى ومن جنس سينمائي إلى آخر، كي يخلق مقارنة أيديولوجية بين معسكرين مهمين نشأ من خلالهما عالم ما بعد الحرب العالمية الثانية، تؤمُّه الشيوعية والرأسمالية، واحد بقيادة الاتحاد السوفييتي والثاني بقيادة الولايات المتحدة الأميركية، وبينهما تفتت العالم وتحطمت نفسية الإنسان الذي وجد نفسه مضطرا إلى التخندق في صف تفرضه عليه خيارات بلده وانتماؤه، من هنا جاء عنوان الفيلم الذي لم يبتعد عن المباشراتية، كي يسهل من عملية استخراج إفرازات العنوان المصطلح من ذاكرة الفرد المجتمع. وقد سبق للمخرج أن قدّم سنة 2013 فيلما بعنوان "آيدا"، واعتمد فيه على نمط التصوير بالأبيض والأسود، وقد تحصل فيه على جائزة أوسكار أفضل فيلم غير ناطق بالإنكليزية. ومن هنا تظهر قيمة الأفلام الوثائقية التي تدمج بين ما هو وثائقي وروائي. وهناك أمثلة أخرى عديدة، من بينها الفيلم المكسيكي "روما" سنة 2018، لألفونسو كوارون. ومن بين الأفلام البارزة أيضا التي اعتمدت على الأبيض والأسود، الفيلم الفرنسي "الفنان" 2011، للمخرج ميشيل هازنافيسيوس، وقد حصد خمس جوائز أوسكار. وكل هذه الأفلام المذكورة يُعزى سبب نجاحها إلى قوة وجمالية الأبيض والأسود، وفي نفس الوقت تظهر مدى صدقيّة الفيلم الوثائقي من خلال إيحاء الفيلم الروائي لآلياته ومنطلقاته.

*ناقد سينمائي من الجزائر

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.