}

جان لوك غودار التجريبي وصورة العالم العربي

بشير البكر بشير البكر 3 ديسمبر 2021
سينما جان لوك غودار التجريبي وصورة العالم العربي
(غودار، 2010، Getty)

 


يبلغ المخرج السينمائي السويسري الفرنسي جان لوك غودار الثالثة والتسعين في الثالث من ديسمبر/ كانون الأول الحالي (اليوم)، ولم تمنعه أعوامه الطويلة من العمل على مشاريع جديدة، وفي مارس/ آذار الماضي أعلن، في مقابلة مع مهرجان كيرالا السينمائي الدولي الذي ينُظم في الهند، أنه سيعتزل بمجرد أن ينجز مشروعين جاريين: الأوّل بعنوان "حروب مرحة"، والثاني هو مشروع مع قناة  Arte بعنوان "سيناريو". وفيما لم يكشف حينها عن تفاصيل إضافيّة، أقامت مجلة Variety مقابلة مع المخرج والسينماتوغراف السويسري فابريس أراغنو، الذي يتعاون مع غودار على فيلميه الأخيرين. المقابلة التي جرت في "مهرجان كان السينمائي" في مايو/ أيار الماضي، كشف فيها أراغنو عن المستجدّات المتعلّقة بالفيلمين، إذ صرّح بأن العمل على المشروعين يسير ببطء حتى الآن، مستبعدًا أن يصدر أحدهما العام المقبل. ورغم إجراءات الحجر المنزلي حول العالم "استثمر غودار وقته في البحث في الكتب، والعمل على أفكار الفيلم"، مضيفًا: "بعد انتهاء الصيف، سنجري اختبارات مع ممثلة.... نحتاج إلى أسبوعين من الاختبارات على الأقل، لكننا جاهزون تمامًا للتصوير... الفكرة جاهزة. نحتاج فقط للعثور على الطاقة الجيدة". وحسب أراغنو، فإن فايروس كورونا لعب دورًا في إبطاء العمل، وعليه يكون "كتاب الصورة" الذي شارك فيه غودار في مهرجان كان عام 2018 فيلمه الأخير حتى الآن، ومن المعروف أن هذا المخرج الكبير يستغرق عادة حوالي أربعة أعوام لإنجاز فيلم جديد، وقد سبق "كتاب الصورة"، فيلمه "وداعًا للغة" عام 2014، الذي حاز جائزة لجنة التحكيم في مهرجان كان، مناصفة مع المخرج الكندي الشاب كزافييه دولان.

فيلم "كتاب الصورة" يشبه العمل الوداعي، حيث وضع فيه غودار كل شيء، ولذا أثار ضجة كبيرة، وهذا أمر غير جديد بالنسبة لمخرج يذهب دائمًا إلى أماكن غير متوقعة، فهو يصر بعد مسيرة طويلة على أسلوبه التجريبي، ولكنه صدم الجمهور هذه المرة بفيلم لا يسرد حكاية، بل يعرض صورًا. تجميع كثيف وتلصيق للصور والفيديوهات. فيلم عن غروب الحضارة، يقول فيه المخرج إن العالم وصل إلى الأوضاع المأسوية التي نعيشها لأن الغرب بالذات أهمل العالم العربي. ويريد أن يؤكد وجهة نظر مفادها أن العالم وصل إلى نقطة اللاعودة في خضم المتغيرات السياسية الحاصلة. تلك التي لا تحتوي على أي أبعاد إنسانية لها، بل تستمد طاقتها ممن يسميهم غودار في فيلمه "الرأسماليون الحمقى"، وهذا ليس جديدًا على من يعرف سينما غودار وقناعاته التي تدور من حول أن العالم كان يمكن له أن يكون أفضل، لو أن السياسيين كانوا مثقفين وفنانين، وقد حصل هذا مرة في فرنسا حين تولى فرانسوا ميتران الرئاسة من عام 1981 وحتى 1995، وكان مثقفًا موسوعيًا وصديقًا لكبار الكتاب في العالم، ومنهم غابرييل غارسيا ماركيز، ولكنه وقف إلى جانب جورج بوش الأب في الحرب على العراق عام 1991.


ملصق مهرجان كان لفيلم "كتاب الصورة" لغودار



هو فيلم ليس وثائقيًا، رغم أنه يعتمد على اللقطات والوثائق. لا يتلاعب بالمادة البصرية والصوتية، بل إنه يستخرج منها دلالاتها الفلسفية، التي تنسجم مع منهجه الراسخ وأسلوبه الخاص منذ أن بدأ "الموجة الجديدة"، أي تحويله لغة الفيلم إلى لغة شعرية تمتلك إيقاعها الخاص من داخلها، وليس من خلال الصدام الدرامي المصطنع. واستقى غودار في فيلمه هذا صورًا من الأفلام والأخبار والرسوم واللوحات التشكيلية، في تكوين للفكر عبر كتابة التاريخ والحكايات في ماكينة السينماتوغراف. ومن خلال الصور تسعى الذاكرة إلى استعادة نسقها المتكسر عبر التقنيات الرقمية. كمية كبيرة من صور العالم العربي، من الأرشيف والمواد الوثائقية والروائية، ومن الأفلام المصرية القديمة بالأبيض والأسود وصولًا إلى الأعوام الأخيرة، واختار المخرج تلك المشاهد من أكثر من ثلاثين فيلمًا منها خمسة للمخرج المصري يوسف شاهين ومشهدين من فيلمين للوي بونويل، وهناك أيضًا لقطات من أفلام عربية مثل "جميلة" و"هي فوضى"، حيث نرى الممثل خالد صالح وهو يصرخ "هنا في قانون واحد بس"، وأخرى من عمل للمخرج الموريتاني عبد الرحمن سيساكو ثم أحدث الأفلام للجيل الجديد من المخرجين، فتظهر مشاهد من أفلام المغربي فوزي بن سعيدي والتونسية ليلى بوزيد. وتصلنا دون الصورة هتافات "ديغاج" (إرحل) للمتظاهرين التونسيين خلال الثورة. ثم غناء أم كلثوم والهادي الجويني. ويعتمد أجزاء من نشرات الأخبار التلفزيونية، ولقطات من بعض الأفلام القديمة سواء من أفلامه مثل "الجندي الصغير" (1963) عن الحرب في الجزائر الذي منعته الرقابة الفرنسية، أو من أفلام غيره مثل "120 يومًا من حياة سادوم" لبازوليني، بالإضافة إلى لوحات فنية ورسوم ولقطات مشوّهة ربما تكون مصوّرة بالهاتف المحمول، مع كتابة عبارات تظهر على الشاشة مثل "أن تكون أو لا توجد"، ونستمع أيضًا إلى مقطع من قصيدة يلقيها محمود درويش. ويبدو غودار مباشرًا حين ينقل لقطة لمجموعة كبيرة من السجناء الفلسطينيين أرغمتهم قوات الاحتلال على الزحف على الأرض، ويضعها أمام اللقطة الشهيرة من فيلم "سالو" لبازوليني، التي تصور مجموعة من الشباب والفتيات العراة يرغمهم الفاشيون على الزحف على الأرض.

ورغم المباشرة، فإن الفيلم ناجح. رسالة غودار تصل بوضوح. وتتجلى معادلة الفن السينما جمالًا ومضمونًا، وتبدو اختيارات غودار جديدة في كل فيلم على حدة من جديد. ويتأكد في هذه الفيلم أنه عبقري وعراب السينما التجريبية. ويبقى مخلصًا لمنهجه الذي يقوم على اللقاء بين الوثيقة والتجريب، بين الحكاية والتجريب، بأسلوب تجريبي يحوله إلى لغة مشتركة بين الكلمة والصورة وبين نص المقال والمعالجة الفنية. وليس في فيلمه هذا فقط، بل مثل "جسور إلى ساراييفو" و"وداعًا للغة". ويكاد يكون الفيلم من دون قيود السرد، الأكثر تجريدًا في سلسلة أفلام الكولاج، يتميز بكثافة التجربة، وهو أكثر أفلام هذا المخرج الكبير كآبة، مع أنه مشغول فنيا لإبقاء الأمل حيًا، وهذا أثر لا يفعله سوى الفن العظيم.

"كتاب الصورة" يعيد 120 عامًا من السينما. يتداخل فيه التعليق الصوتي التأملي الذي يتألف من تأملات أدبية وفلسفية مع أجزاء صوت متزامنة، وتتخللها الموسيقى على نحو تنعكس فيه على تاريخ العالم الذي حاولت السينما تمثيله. وتبدو العديد من الصور مألوفة من أفلام كولاج أفلامه السابقة، وقد تم تحويلها هنا من خلال التكنولوجيا الرقمية. جرت معالجتها بالومضات والغسيل، وجعلها جديدة من خلال العلاقة بين العين واليد التي تشغل الأقراص. اللوحة الرقمية أو تلك أصابع فرشاة الرسم الرقمية وشاشة اللمس. يعمل غودار على إنتاج فيلم يمكن أن يكون مصنوعًا يدويًا مثل لوحة، ليس فقط لأسباب تتعلق بالمتعة الجمالية، بل يسيطر صوته على جوقة صغيرة من المتحدثين، كما أن الفناء الواضح في نغماته المهتزة والخدش يجعل الفيلم شخصيًا بشكل صريح. النص هو لغودار بحكم الطريقة التي يعمل بها.

 

 صور غودار في فيلمه "موسيقانا" (2004) محمود درويش، ليروي جمالية ثقافة ورثت النص المهزوم، نص "شاعر طروادة"



غودار جزء من تاريخ السينما الجديدة التي ظهرت في أواخر الخمسينيات من القرن الماضي في فرنسا، إلى جانب فرانسوا تروفو، كلود شابرول، وجاك ريفيت، ولكن هناك نقادًا لا يطيقون أعماله ولا يرغبون في فك ما يعتبرونه ألغازًا. ويقولون إن غودار يصنع نفس الفيلم منذ عشر سنوات شكلًا، الطريقة نفسها، ولكن المحتوى يختلف، غير أن هناك أكثر منهم ممن تعلم كيف يرى أعمال غودار من منظور المخرج نفسه ويقدرها. والأمر ذاته ينسحب على المشاهدين، فالبعض يعتبره بعيدًا عن المتعة السينمائية، ولكنه وهو يبلغ 93 عامًا، ولا يزال يفكر بأعمال جديدة، بقي وفيًا لاختياراته ومواقفه السياسية والثقافية، وحين يرحل لن يقول عنه أحد أنه حاد عن الخط الذي سار عليه، سواء موقفه الجمالي الراديكالي، أو عمله الدؤوب لاختراق شرائع السينما لإنشاء لغة سينمائية تجريبية، وإذا كان قادرًا في هذا السن على إثارة كل هذا الحب والرفض من حوله، فهذا دليل على أنه لم يمر مرور الكرام في الحياة الثقافية وتاريخ السينما الجديدة، وهذا ما سيبقى في نهاية المطاف. ورغم موقف قطاع من النقاد السلبي من الفيلم اعتبرته لجنة التحكيم في مهرجان كان فيلمًا استثنائيًا، وقررت أن تمنحه سعفة ذهبية استثنائية، وجاء في قرار اللجنة: "بعيدًا عن الأعراف التقليدية، يتحدث فيلم جان لوك غودار بشكل متناقض إلينا، بقوة عن عالم اليوم بطريقة مؤثرة. إذا سمحنا لأنفسنا، فهو جميل بشكل مذهل. في 87 عامًا، لا يزال جان لوك غودار يبدع كما فعل بيكاسو في نفس العمر، وهو فخر كبير للخدمة العامة لمرافقة هذا الفنان العظيم لعقود في جميع فترات إبداعه".

وكان غودار قد صور في فيلمه "موسيقانا" (2004) محمود درويش، ليروي جمالية ثقافة ورثت النص المهزوم، نص "شاعر طروادة"، وحين العرض في مهرجان "كان" غادر العشرات قاعة العرض مرددين "ماذا يجب أن نفهم؟"، ولم يثنه هذا الموقف من أن يعود إلى درويش في هذا الفيلم أيضًا، ويخصص حيزًا مهمًا لفلسطين؛ ربما يفهم العالم هذه المرة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.