}

جان جينيه: حياة في حقيبة

بشير البكر بشير البكر 2 مايو 2024
تغطيات جان جينيه: حياة في حقيبة
جان جينيه

 

نشرت دار "غاليمار" الباريسية، في مطلع نيسان/ أبريل الماضي، نصين يريان النور للمرة الأولى، للكاتب جان جينيه (1910-1986). الأول هو مسرحية بعنوان "هيليوغابالي" مكونة من أربعة فصول، لم يسبق لها أن عرفت طريقها إلى الإخراج والتمثيل على خشبة المسرح أو النشر. والثاني هو سيناريو فيلم بعنوان "مودمازيل"، الذي وضعه الكاتب على شكل قصة قصيرة من الحوارات عام 1951 تحت عنوان "الأحلام المحرمة" أو "الجانب الآخر من الحلم"، وقد نال حظا أفضل من المسرحية بأن أعدّه للسينما المخرج البريطاني توني ريتشارسون وعرضه في مهرجان كان عام 1966، ولعبت فيه الدور الأساسي الممثلة الفرنسية جين مورو، ولكنه لم يعرف النجاح.

ساد الظن أن كلَّا من العملين قد ضاع من الكاتب، الذي كان يعيش حينذاك حياة مضطربة جدًا، بين السجون والفقر والتشرّد. وقد وصف تلك الفترة الكاتب جونثان ليتيل، الحائز على جائزة غونكور عام 2006، بأن جينيه كان "عالقًا بين طموحه الأدبي غير المتناسب والواقع المؤلم لوضعه"، والفقر والبحث عن أصوله، حيث ولد لأب مجهول، ثم تخلّت عنه والدته، وتركته يواجه الحياة القاسية وحيدًا.

واللافت هنا أن المسرحية غير معروفة حتى الآن، ولا يأتي أحد على ذكرها، حين يتم تناول مؤلفات هذا الكاتب، الذي أعادت له فرنسا شيئًا من الاعتبار لاحقًا، بعد أن لاقى اعترافًا من كبار الكتاب، وعلى رأسهم الفيلسوف جان بول سارتر، الذي قرأ كتاب جينيه "يوميّات لص"، واعتبره من أعظم الكتب في تاريخ الأدب، وقاد ذلك إلى أن يؤلف عنه كتابًا بعنوان "القديس جينيه" الذي هو عبارة عن تمجيد مفرط بالكاتب المنبوذ، عده الشاعر الفرنسي جورج باتاي "ليس واحدًا من الكتب الأشد ثراءً في عصرنا وحسب، وإنما أيضًا تحفة سارتر، الذي لم يكتب أبدًا ما هو أكثر منها إشراقًا". وتفيد المعلومات المتداولة حاليًا أن جينيه كتب المسرحية في سجن فريسنيس عام 1942، في الوقت الذي كتب فيه روايته الأولى الشهيرة "نوتردام الزهور"، التي تستكشف عالم المومسات واللصوص والمجرمين، وتعطي صوتًا للمستبعدين والمهمّشين من المجتمع، وذلك على اثر سجنة بتهمة سرقة الكتب. وما أن خرج من السجن حتى قام بإطلاع مجموعة من اصدقائه المقربين على نص المسرحية، ومنهم جان ماريه، الذي عرض عليه الدور الرئيسي، لكنه لم يتحمس له، وفقًا للمقدمة الموقعة من فرانسوا روجيه، الأستاذ في جامعة كينغستون في كندا.

وتضيف المعلومات التي تم الكشف عنها بعد نشر المسرحية من قبل دار "غاليمار"، أن الكاتب المسرحي الفرنسي الشهير جان كوكتو قرأها أيضًا، غير أنه لم يتمكن من مساعدة جينيه بالعثور على ناشر له. ولم يعد جينيه إلى النص الذي ترك مخطوطه لدى سكرتيرة كوكتو، والتي باعته لبائع كتب متخصص في الخمسينيات، ثم اشترته مكتبة هوتون في جامعة هارفارد في عام 1983، أي قبل ثلاث سنوات من وفاة جينيه. وهذا هو المكان الذي عثر فيه الكاتب فرانسوا روجيه على نص المخطوطة، الذي قدمه إلى "غاليمار" وقام بتحقيقها وتحريرها. ويشير في مقدمته إلى ظروف ولادة هذا العمل بقوله: في  حزيران/ يونيو 1942، سُجن جان جينيه وهو في الحادية والثلاثين، وحُكم عليه بالسجن لمدة ثمانية أشهر بتهمة سرقة الكتب. حتى ذلك الوقت لم يكن جينيه معروفًا ولم ينشر بعد أي شيء؛ وصارت الزنزانة المكان المناسب لتفجّر موهبته الأدبية. هناك كتب روايته الأولى، "نوتردام الزهور"، والقصيدة الطويلة المعنونة "المحكوم بالموت". وهناك أصبح يشعر بالفعل بجاذبية المسرح، كما يتّضح من مسرحية "هيليوغابالي"، هذه الدراما القديمة التي أراد منه أن يُسقط مصيره الخاص على المصير المأساوي للأمبراطور الروماني هيليوغابالوس، ولذلك صوّر في العمل الأيام الأخيرة للإمبراطور الروماني، الذي اغتيل وهو في عمر 19 عامًا تقريبًا، في عام 222 ميلادي. ويبدو أن محاولة جينيه المسرحية الأولى كانت بمثابة إعلان ذاتي عن شخصيته، التي تتقاطع في بعض تفاصيلها مع شخصية الأمبراطور، وكان همه الأساسي هو ابتكار اسطورته الخاصة، التي تأرجحت بين الجمال والخروج عن السائد، والتي جسّدها في سلسلة من الأعمال المهمة في الأدب الفرنسي، ومنها رواية "نوتردام الزهور"، التي حوّلها جينيه إلى سيناريو فيلم بعنوان Divine (إلهي)، وذلك بناءً على طلب المغني ديفيد بوي الذي أراد تجسيد دور البطل، لكن المشروع لم يبصر النور، بالاضافة إلى مسرحيات "الخادمتان" (1947) و"الشرفة" (1956) و"الزنوج" (1959)، والتي اعتبرها النقاد سابقة لأوانها، كونها قدّمت نقدًا لاذعًا لمجتمع القرن العشرين، وكانت الخاتمة مع كتابه الأخير الشهير "الأسير العاشق"، الذي يقع بين الرواية والسيرة الذاتية عن الحياة مع الفلسطينيين التي بدأت بزيارة مخيّمات الأردن في السبعينيات، ونقله إلى العربية الشاعر العراقي كاظم جهاد. وهو يعدّ مع نصه الشهير عن مجزرة صبرا وشاتيلا من أهم الكتابات التي كتبها كتّاب أجانب عن نضال الشعب الفلسطيني.

من المعروف أن جان جينيه احتفظ بنصوص كل ما كان يكتبه في حقيبتين، واحدة سوداء والأخرى بنية، وذلك في إشارة صريحة إلى تشرّد الكاتب وإلى أن حياته الأدبية، وغير الأدبية تختصرهما هاتان الحقيبتان. وقد تركهما قبل رحيله بمرض السرطان بأسبوعين، لدى محاميه رولان دوما. وحُفظت الحقيبتان، كجزء من حياة الكاتب، كما احتوتا كذلك مسودّات نصوص كتبه ورسومات وقصاصات من الصحف، والمراسلات بينه وبين دار "غاليمار"، وحتى بعض فواتير الفنادق التي أمضى حياته فيها، وحسب معلومات إعلامية فإنه تم عرض محتوى الحقيبتين العام الماضي في معهد العالم العربي، ضمن سلسلة المعارض التي يقيمها.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.