}

كريستيان جامبيه... فيلسوف الإسلام في الأكاديمية الفرنسية

بشير البكر بشير البكر 4 مارس 2024
تغطيات كريستيان جامبيه... فيلسوف الإسلام في الأكاديمية الفرنسية
كريستيان جامبيه

نال الفيلسوف المختص بالإسلام، كريستيان جامبيه، عضوية الأكاديمية الفرنسية في فبراير/ شباط الماضي، قبل أشهر قليلة من بلوغه الـ75، وهي السن القصوى للانضمام إلى هذه المؤسسة العريقة التي تعنى بصون اللغة الفرنسية وتعزيزها. واختار الأكاديميون الفيلسوف المولود في الجزائر عام 1949، ليحتل المقعد السادس في الأكاديمية الشاغر منذ وفاة المؤرخ مارك فومارولي عام 2020، وقد حصل على 13 صوتًا من أصل 25 في الجولة الثالثة، وكان أبرز منافسيه الكاتب الفرنسي التونسي الهادي قدور.
يجيد جامبيه اللغتين العربية والفارسية. وجاء إلى عالم الإسلام بتشجيع من معلمه، المستشرق الفرنسي هنري كوربين، الذي يعد من المفكرين الفرنسيين الذي جمع بين علوم عدة، ويتمتع بشهرة عالمية كبيرة كونه أضاء على التشيع، وله صدى واسع عند المستشرقين، بفضل تعمقه في دراسة فرق الشيعة والإسماعيلية، الذي وصل حد الإعجاب، حتى أنه أسلم واعتنق المذهب الشيعي. وهو أول من أثر على جامبيه، واصطحبه إلى إيران، ليخلصه من تأثير الفلسفة الماوية التي اعتنقها في الستينيات، بعد أن غادر إلى الصين في عام 1969، عندما كان في العشرين من عمره. وهناك التقى رئيس الوزراء تشو إن لاي في الذكرى السنوية لجمهورية الصين الشعبية. وعن تلك الفترة يقول في حديث لصحيفة "لوفيغارو" بعد انتخابه: "كانت لدي لمسة من السخرية، كنت ألعب دوري. كان لدي مترجم رائع، بوذي ونباتي، كان قد هرب من الثورة، وكان يعد أطروحة عن فلوبير". هكذا يعرّف تلك الفترة، كي يعطي لها بعدًا أدبيًا يفسر كثيرًا من الأخطاء، منها الإيمان بأن الصين تنير الطريق لأولئك الذين يعتقدون بأن العالم سوف ينزلق إلى حلم عظيم، ثم تبين لاحقًا أنه دموي. غير أنه يحتفظ في مكتب مليء بالكتب واللوحات، ببعض الآثار المرئية، منها تمثال نصفي صغير لماو تسي تونغ، يتجاور مع تمثال نصفي آخر كبير جدًا لنابليون. وهو معجب بشكل خاص بنابليون وديغول: "الرجلان اللذان صنعا القرار التاريخي"، على حد تعبيره. كما توجد صورة لفرويد، حيث كان تلميذًا للفيلسوف وأستاذ علم التحليل النفسي الشهير جان لاكان.




جرب اليسار، مثل أغلبية الشباب الفرنسي، في مرحلتي الستينيات والسعينيات من القرن الماضي، وأسس مع آخرين حركة "اليسار البروليتاري"، وهي حركة تدعو الشباب البرجوازي للانضمام إلى العمال والفلاحين. واستمرت تلك المغامرة حتى عام 1973، ثم جرى حلها، وشيئًا فشيئًا اكتشف أنه لا يصلح للعمل السياسي، وفي رأيه "لا توجد سياسة ضرورية إلا إذا كانت هناك علاقة بالحقيقة... وإلا فإن السياسة هي مجرد إدارة". اقتنع أنَّ عليه أنْ يشغل نفسه بأمر آخر، فاكتشف البعد الروحاني في الإسلام. وهو يعتقد أن طفولته الجزائرية كانت في هذا الولع. يقول: "لقد درست فرنسا العالم الإسلامي. وعلى الرغم من مظالم الاستعمار، فقد كانت هناك أكثر من بداية للتفاهم بين الثقافتين".
تعلق وشغف باللغة والثقافة الفارسية بعد لقائه كوربين في بداية السبعينيات من القرن الماضي، والذي عرفه على المتصوف السهروردي، الذي سبق لكوربين أن ابتدأ منه عام 1939 تقربه من الإسلام، حين أنفق ستة أعوام في إسطنبول يدرس مؤلفات السهروردي، وأصدر عنه مجلده الأول. وفي الوقت الذي بدأ فيه بالتعلق بكوربين، حتى غادر معه إلى إيران، وتعلم العربية والفارسية، اكتشف الشاعر الحلاج والفلسفة الإسلامية، وأخذ في تعلم اللغة العربية، واللغة الفارسية الوسطى، والفارسية الحديثة، وداوم على حضور دروس لوي ماسينيون في مدرسة الدراسات العليا الملحقة بالسوربون، بعد أن وجد لديه التخصص والتعمق في الحلاج.
اهتم بدراسة تأثر الفلاسفة العرب والمسلمين بالفلسفة اليونانية، ونظر إلى هذه المسألة في سياقها، على مواطنه المستشرق أرنست رينان، الذي رأى أن الفلاسفة العرب مجرد ناقلين، أو مترجمين، لفكر أفلاطون وآرسطو، وهو بذلك اعترف بالإبداع الغني الذي أضافه الإسلام إلى الفلسفة اليونانية. وقاده ذلك إلى كتابة كتاب "ما هي الفلسفة الإسلامية؟"، تلاه كتاب آخر عام 2021 "فعل الوجود: فلسفة الوحي عند ملا صدرا"، عن مفكر فارسي من القرنين الـ 16 والـ 17. وركّز في كتابه على علاقة صدرا بنصوص الشيوخ الثلاثة: الشيخ الرئيس ابن سينا، وشيخ الإشراق السهروردي، والشيخ الأكبر محي الدين ابن عربي. وهدف هذا الكتاب إلى الكشف عن روافد فلسفة ملّا صدرا الذي لُقّب بأول الميتافيزيقيين، ويبيّن أهمّ وجوه تفاعله معها، ويوضّح كيف نجح صدرا في إعادة بناء الفلسفة الإسلامية من دون أن يقوده ذلك إلى القطع مع الفلسفة السيناويّة، أو الفلسفة الإشراقية للسهروردي، وذلك كي ينفي أطروحة أن ملّا صدرا أسس أركان فلسفته على أنقاض ابن سينا، أو السهروردي، بقدر ما كان يحاورهما ويفتح أمامهما أبوابًا موصدة، ولعلّ ذلك ما دفع هنري كوربان إلى تسمية ملّا صدرا بـ"ابن سينا الإشراقي". لكن جامبيه يقول في الوقت ذاته إنه لا ينبغي أن نهتم فقط بالفلاسفة الكبار الذين مشوا على خط الإغريق، كالكندي، والفارابي، وابن سينا، وابن رشد، وابن باجة... إلخ، وإنما ينبغي أن نهتم أيضًا بما يدعى في المصطلح العربي بـ"الحكماء"، وعندئذ يمكن أن نأخذ فكرة شمولية متكاملة عن الفلسفة الإسلامية. وهو يرى بالنسبة للحكماء، لا توجد قطيعة بين العقل والوحي كما هو حاصل في الغرب حاليًا. هؤلاء المفكرون الإسلاميون لا يقطعون أبدًا مع الأفق الديني. يقول بالحرف الواحد: "هؤلاء الحكماء ما كانوا فلاسفة رغمًا عن الإسلام، وإنما انطلاقًا من الإسلام، مع الإسلام، وبالإسلام".
يعد رأي هذا الفيلسوف مرجعًا فعليًا لمن يرى في الإسلام دينًا مثل بقية الأديان الأخرى، ويدعو إلى النظر إليه بوصفه كذلك لا من خلال المتطرفين الذين يطلقون التصريحات النارية التكفيرية ويرعبون البشر، فهؤلاء أقلية لدى المسلمين، وليسوا أكثرية، على عكس ما يزعم اليمين المتطرف. ويجري الاعتداد برأيه، ويتخذ كلامه وزنًا نظرًا لتبحره ومكانته العلمية، خاصة بعدما انتخب عام 2014 بروفيسورًا لكي يحتل "كرسي الفلسفة الإسلامية" في الجامعة الفرنسية، وصدور كتابه "ما هي الفلسفة الإسلامية؟"، الذي لقي ترحيب الأوساط الثقافية الفرنسية كونه كتابًا مرجعيًا بالمعنى الحرفي للكلمة، وعلق عليه في حينه روجيه بول دروا، المسؤول عن الصفحة الفلسفية في جريدة "لوموند" الفرنسية قائلًا: "هذا الكتاب سوف يزعج الغرب، أو قل القطاعات اليمينية منه. لماذا؟ لأنه يقدم صورة أخرى عن الإسلام، ويكشف عن كنوز فكرية مجهولة في الإسلام. إنه يكشف عن كنوز روحانية أيضًا، وعن اشتقاق فلسفي وإبداع ميتافيزيقي قلّ نظيره". هذا في حين أن اليمين الغربي كان يتمنى لو يبقى الإسلام حكرًا على بن لادن، وبقية المتطرفين الظلاميين، لكي تظل صورته مشوهة. فبعضهم لا يريد أن تكون للإسلام أي علاقة بالفكر، أو العقل والفلسفة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.