}

السينما يدٌ بيضاء في مجتمعات دول عاجزة أمام العنف

ضفة ثالثة ـ خاص 5 مارس 2021
سينما السينما يدٌ بيضاء في مجتمعات دول عاجزة أمام العنف
روبرت دي نيرو في لقطة من فيلم "سائق التاكسي"

كثيرًا ما تشهد المجتمعات، في مختلف الدول، جرائم مروعة. وفي كثيرٍ من الأحيان، يرى الناس كيف يفلت المجرمون من العقاب العادل، إمّا نتيجة استشراء الفساد في أجهزة الدولة، وإمّا نتيجة تفشي سياسات التمييز، أو لوجود خللٍ كبير في القوانين المعمول بها، أو بسبب الإجراءات القانونية العقيمة. يترك هذا الوضع لدى المواطنين شعورًا بالمرارة، يدفع بعضهم للسعي إلى تحقيق العدالة بوسائله الخاصّة خارج إطار القانون.
السينما كرست هذا الموضوع في كثيرٍ من الأفلام، حيث نجد أبطالها يقومون بتنفيذ أحكامهم هم بحقّ المجرمين خارج أطر المحاكم.



الإعدام من دون محاكمات

لقطة من فيلم "ولادة أمة" يظهر فيها أعضاء من منظمة "كوكلاكس كلان" العنصرية


في عام 1915، وعلى مدار ثلاث ساعات، وبحضور الرئيس الأميركي، وودرو ويلسون، جرى عرض فيلم "ولادة أمّة"، الذي عُدَّ الأضخم في العقد الأول من القرن العشرين (1915)، بميزانية قدرها 100 ألف دولار، ليدخل التاريخ كشاهدٍ على عبقرية المخرج، ديفيد غريفيث، وليكون في سياق حملات الدعاية العنصرية، التي نشطت منذ ثمانينيات القرن التاسع عشر، مع عصابات "كوكلاكس كلان" للمرة الأولى في الولايات المتحدة الأميركية. تجري أحداث الفيلم في الولايات الأميركية الجنوبية، حيث اندلعت أحداث عنف تحت قيادة تلك المنظمة، ردًا على الدعوة لمشاركة الملونين السود في الحياة الأميركية، ممن لا يزالون يناضلون في سبيلها حتى اليوم. وفقًا لغريفيث، كان اهتمام الزنوج المحررين من العبودية ينصبّ في المقام الأوّل على الزواج المختلط، والذي تحقق في رأيه عن طريق الإكراه حصرًا. ويرى غريفيث أنّ البيض الجنوبيين، الذين ارتكبوا المجازر، قد تصرفوا كفرسانٍ، وكحماة للبيض. وعلى الرغم من منع عرض الفيلم، في بعض الولايات، فقد تمكن من جمع ما يزيد على مليون دولار، وتسبّب في إثارة عددٍ ضخمٍ من حوادث العنف ضدّ الأميركيين الأفارقة.

بعد مرور خمس سنوات، وكردٍّ على محتوى الفيلم، قام أوسكار ميشو، المخرج الأسود الأكثر نجاحًا في بداية القرن العشرين، والذي كان بمثابة أيقونة مطلقةً لحركة الدفاع عن الحقوق المدنية، بتصوير فيلم بعنوان: "in Our Yard/ في باحة منزلنا"، يدور حول امرأة سوداء تحاول جمع الأموال لافتتاح مدرسة للأطفال الملونين. بالطبع، كان حكم المخرج، ديفيد لينش، حاضرًا أيضًا في فيلم أوسكار ميشو، ولكنّه كان يعرض للمرة الأولى من وجهة نظر الضحية، وليس الجلاد.

 

الإعدامات والشيوعية
اتخذ فيلم "في وضح النهار"، للمخرج، فريد تسينمان (1952)، من بطولة غاري كوبر، وغريس كيللي، بعدًا جديدًا للمرة الأولى، في محاولته تكييف الأجندة السياسية مع السينما، ولذلك يعد، عن جدارة، فيلمًا سياسيًا بأسلوب أفلام الغرب الأميركي. تدور قصة الفيلم في مدينة أدار سكانها ظهورهم لعمدتها العادل، ورحبوا باللصوص الذين أرادوا الاستيلاء على السلطة ـ في استعارةٍ للحملة المناهضة للشيوعية في هوليوود، التي قادها السيناتور جوزيف مكارثي. لم يخف مؤلفو الفيلم مضمونه السياسي، فعوقب كاتب السيناريو، كارل فورمان، بإدراج اسمه على القائمة السوداء، وأُغفل اسمه كمخرجٍ للفيلم، أمّا تسينمان نفسه، فعلى الرغم من مسيرته الرائعة ـ وبعد أن أخرج فيلم "From Now and Forever/ من الآن وإلى الأبد"، المأخوذ عن قصة جيمس جونسون، وحصل على ثمانية جوائز أوسكار، فقد لعن الولايات المتحدة الأميركية علنًا، وغادرها ليعمل في بريطانيا عام 1963.



القتل والانحطاط الأخلاقي
في عام 1972، حضر العامل الشاب، أرتور بريمر، إلى تجمّعٍ انتخابي نظّمه السيناتور جورج ويلس، حاكم ولاية آلاباما، والمرشّح لمنصب رئيس الولايات المتحدة، وأطلق النار على السياسي أربع مرّات متتالية. عندما قرأ السيناريست والناقد السينمائي، بول شفيدر، خبر اعتقال المهاجم، اكتشف على الفور أنّه أمام بطلٍ من أبطال العصر الجديد. لاقت الفكرة دعم المخرج مارتين سكورسيزي، ليظهر بذلك البطل الرئيسي لفيلم "سائق التاكسي" (1976): شابٌّ من قدامى الجنود الأميركيين في حرب فييتنام، قرر إنقاذ نيويورك السبعينيات من قذارة السياسيين والقوادين. بحسب سكورسيزي، فإنّ الرجل الانطوائي المنعزل "ترافيس بيكل"، الذي قام بأداء دوره (روبرت دي نيرو)، قد كان في واقع الأمر "قديسًا مزيفًا"، نفَّذ إعدامات دموية رهيبة في محاولةٍ لإنقاذ عاهرة قاصرة، ولكنه لم يأخذ في عين الاعتبار أمرًا واحدًا: أنّ أحدًا لم يطلب منه القيام بذلك. كانت النهاية شبه ساخرة، فقد جعلت من ترافيس بيكل بطلًا قوميًا بفضل حمام الدم الذي ارتكبه، وقوبل من قبل الجمهور بجدلٍ واسع.


علاوةً على ذلك، فقد وبّخ كثير من النقاد والمشاهدين سكورسيزي، واتهموه بتأجيج العنف. وبالفعل، خلق الفيلم معجبين حقيقيين: ففي عام 1981، قام أحد كبار المعجبين بفيلم "سائق التاكسي"، جون هينكلي، الذي سبق له أن هدّد الممثلة الرئيسية، جودي فوستر، بإطلاق النار على الرئيس الأميركي، رونالد ريغان. لحسن الحظّ، لم يقتصر تأثير الفيلم على ذلك: فقد وجد روبرت دي نيرو، وسكورسيزي، في فيلم "سائق التاكسي" بطلًا شريرًا مثاليًّا، وأرسيا أسلوبًا جديدًا في سينما السبعينيات، ليمهدا بذلك الطريق أمام أجيالٍ من المخرجين الذي أخرجوا أفلامًا السينمائية مهمّة، مثل: "الجوكر"، للمخرج تود فيليبس/ Todd Philips، حيث يتولى Batman القادم من الكون الخارجي مهمة محاربة الفساد، والتصدي لحالة غياب القانون.

الإعدام والحركة النسوية
"ملاك الانتقام" للأميركي آبيل فيرَّارا (1981)



"تانا" فتاة خرساء كانت تغتصب مرتين في اليوم الواحد في مدينة نيويورك، ولكنّها سارت في ما بعد في طريق الانتقام من جميع الرجال. تحولت قصة (تانا) إلى بطاقة عبورٍ للمخرج (آبل فيرّارا) إلى عالم السينما الكبيرة. وكرّس المخرج كلّ إمكانياته ليحصل في النهاية على فيلم مرجعي لأسلوب "الانتقام بعد الاغتصاب"، وليكون بذلك أول مخرجي هوليوود الجدد الذين أطلقوا أوائل الصرخات النسوية. إلى جانب تقدير المخرج لتكريسه موضوع العنف بحق النساء على طريق الاتجاه الرئيسي للسينما، فقد لاحظ النقاد أنّ بطلة الفيلم الرئيسية، التي تظهر بثياب راهبةٍ كاثوليكية، كانت توزع الابتسامات على الرجال بسخاء، وبدت مثيرة جنسيًا أكثر من اللازم، سواء في الفيلم، أو في إعلاناته الترويجية.

الإعدامات والرأسمالية
"Enough!" للمخرج جويل شوماخر (1993)
يوم في حياة موظفٍ، أصيب بالجنون، جراء معاناته من حرّ لوس انجلوس ومن مشاكل العمل والأسرة، وكذلك من انعدام العدالة الاقتصادية، فراح يحطم كلّ شيءٍ يقف في طريقه. صُوّر الفيلم على خلفية الاضطرابات الجماهيرية التي اندلعت بعد أن برّأ المحلفون في إحدى المحاكم أربعة من ضباط الشرطة، الذين استخدموا العنف المفرط أثناء اعتقالهم الشاب الأسود، رودني كينغ، لتجاوزه السرعة. اندلعت اضطرابات شابتها أعمال عنف، حاول المحتجون خلالها الاستيلاء على مقر شرطة لوس أنجلوس، فسقط 63 قتيلًا، وقدرت الأضرار المادية بمليار دولار، فانهارت هيبة أجهزة الأمن تمامًا. صرّح شوماخر نفسه أنّ الفيلم ظهر انطلاقًا من الشعور بأنّ كمًّا هائلًا من الغضب والشراسة قد تراكم في المجتمع، ولم يجد تعبيرًا له في السينما. وأضاف المخرج: "خلال 12 عامًا أشحنا بأنظارنا عن المشكلة، التي أضحت أسوأ وأسوأ. في الستينيات، رأينا أكثر الشخصيات إبداعًا تعبّر عن مشاعرها.

ولكنّ الأمر يقتصر، في أيامنا هذه، على بعضٍ من صانعي الأفلام، ومغني الراب، وفناني الشوارع السود". كانت النتيجة فيلم "سائق التاكسي" في حقبة ريغان، ولكن باختلافٍ وحيد، فإن كان سكورسيزي قد أخرج فيلمًا عن الوحدة الوجودية، وكان بطله منشغلًا بمسائل العدالة، فإنّ المخرج شوماخر ركّزَ على الوحدة اليومية، لأنّه رأى أنّ تمرد رجلٍ صغير في مواجهة الرأسمالية المنتصرة هو بمثابة إطلاق النار على مطعم Whammy Burger للوجبات السريعة ليس إلا.

القتل للمتعة
ثلاثية الانتقام للمخرج الكوري الجنوبي، باك تشان ووك


ثلاثية المخرج الكوري عبارة عن أفلامٍ ثلاثة: "أنا سأقتُل"، و"الفتى العجوز"، و"Lady Vengeance"، كانت بمثابة كشفٍ تدريجي لطبيعة الانتقام عبر أفضل تقاليد السينما الكورية الجنوبية: حيث نجد مشاهد كثيرة لتقطيع الأعضاء، ولطفلٍ مشنوق، وحتى التهام أخطبوط حيّ. أجمع النقاد على اعتبار الجزء الثاني من فيلم "Old Boy" الأفضل بين أفلام الثلاثية، التي ظهرت في العام نفسه من عرض فيلم "Kill Bill" للمخرج تارانتينو/ Quentin Tarantino (المعجب الكبير بالمخرج الكوري).

وعندما سئل المخرج الكوريّ عن التشابه الكبير بين أفلامه وأفلام تارانتينو، ردّ قائلًا: "أجل، إنّها جميعها عن الانتقام، ولكنّنا نقاربها من مواقع مختلفة. تارانتينو يحوّل الانتقام إلى مصدرٍ لمشاهد المتعة البصرية، في حين أعتقد أنا أنّ العنف يسبب الألم لكلٍّ من للمعتدي والضحية، على حدٍّ سواء. وأرى مهمتي في نقل هذا الألم إلى قاعة العرض. وأعتقد أن المنتقم يشعر بالذنب، حتى وإن كان يستمتع بانتقامه، وهذه هي فكرتي الأساسية. أمّا في أفلام تارانتينو، فإنّ الانتقام يتحوّل إلى متعةٍ صافية". ومن الجدير بالذكر أنّ فيلم "الفتى العجوز" حصل على الجائزة الكبرى (غرانبري) في مهرجان (كان) بفضل زميله المخرج تارانتينو، الذي كان يترأس حينها لجنة التحكيم.

الإعدام والدولة
"ليلة المحاكمة" للمخرج جيمس دي موناكو (2013)



واحدٌ من أكثر الأفلام المعاصرة نجاحًا، كونه توقع، بدرجة كبيرة من الدقة، المناخ السياسي في نهاية 2020. يتحدث الفيلم عن المستقبل البعيد للولايات المتحدة الأميركية، حيث يسود نظام شموليّ في البلاد، يخصص فيه يومٌ واحدٌ كل عام يكون في استطاعة مواطني البلاد ارتكاب أيّة جرائم يريدونها، بما في ذلك القتل، من دون أيّ عقاب للفاعل. ولكنّ تبيّن أنّ المساواة في الإفلات من العقاب، التي أراد المشروع أن يتمتع بها الجميع، ناقصة. فقد تمكّن الأغنياء من تحصين منازلهم جيدًا، وتمكنوا من التملص من الانتقام. جمع الجزء الأول من الفيلم 90 مليون دولار، مما دفع القائمين إلى إخراج ثلاثة أفلام مماثلة، تغيّر فيها طاقم الممثلين بشكلٍ كامل. قوبل الفيلم الأول من الثلاثية بترحيبٍ فاتر من النقاد، ولكنهم اعترفوا، في نهاية الثلاثية، بأنّ فكرة سماح السلطات العليا للشعب بتنفيذ الإعدامات في حقّ من يرى أنّه يستحقها مثالٌ ممتاز على جميع المشاكل الاجتماعية التي يعاني منها المجتمع المعاصر.



 ترجمة وإعداد: سمير رمان.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.