}

ميلان كونديرا ورواية القرن الثامن عشر

ضفة ثالثة ـ خاص 24 يوليه 2023
ترجمات ميلان كونديرا ورواية القرن الثامن عشر
ميلان كونديرا (14/ 10/ 1973/ فرانس برس)
تقديم

بداية، أجدني منساقًا إلى توضيح التالي في بداية هذه المقدمة القصيرة: أعترف أنني لست أبدًا من مريدي الكاتب الراحل ميلان كونديرا، ولديّ كثير من المواقف والرؤى التي تقف على طرف نقيض من طروحاته، أكانت في السياسة، أم في الأدب، أم في رؤيته للوجود والتاريخ والجغرافيا. ولكن مع ذلك كله، لا أستطيع أن أنكر أنه كاتب "فاتن" يعرف كيف يشدّ القارئ عبر كتاباته، التي شكلت علامة مميزة في القسم الأخير من القرن العشرين، والتي اكتشفناها بفضل ترجمات "أوروبية" (فرنسية وإنكليزية تحديدًا) قبل أن تنتقل إلى العربية (وعبر لغة وسيطة)، وقبل أن يقرر هو نفسه الانتقال للكتابة باللغة الفرنسية مباشرة، بعد أن تخلّى عن لغته ووطنه وجنسيته (التي استعادها في السنوات الأخيرة من حياته).
"فتنته" هذه، إن جاز القول، تكمن أيضًا في تماسك خطابه، الفكري والسياسي والأدبي، وأقصد أننا أمام مشروع متكامل ينظر إلى الحاضر، وهو يتكئ على تاريخ غنيّ بالأفكار والأحداث التاريخية والسياسية، والجغرافية، بكونه يرفض استعمال تعبير "أوروبا الشرقية" (الذي ساد خلال فترة حكم الاتحاد السوفياتي) ليعود إلى الماضي كي يعيد التذكير بأوروبا الوسطى. مهما كان من أمر، لا يمكن إلا الاعتراف بحضور هذا الكاتب في وعي كثيرين، وفي طريقتهم بالنظر إلى الأمور، وما يقود تاليا إلى رؤية سياسية معينة. لكن ومع ذلك، يمكن للمرء أيضًا، أن يأتي من موقف آخر، وأن يتحفظ ـ قليلًا أو كثيرًا ـ على هذا المشروع الذي أفرده كونديرا؛ في الواقع، لا معنى للأدب حين يكون كله متشابهًا. تكمن أهميته الأساسية في قدرته على إثارة النقاش، وأن يجعلك أحيانًا تفكر بطريقة معاكسة، وأن يدفعك إلى اتخاذ موقف مخالف له، لكن مع موقفك المخالف هذا، لا بدّ أن تحترم هذا الجهد، وهذه التجربة، على الرغم ـ كما أسلفت ـ من تباعد فكر يجعلك تتساءل: كيف تريد أن تفهم "مصيبة" كونديرا وتتعاطف معه في ما يرمي إليه، حين يصور العلاقات المأزومة مع "الاحتلال السوفياتي" (كما يسميه)، وهو في الوقت عينه يلتف في عباءة "الاحتلال الإسرائيلي"، ويدافع عنه، مع أصدقائه الذي يشكلون شريحة واسعة من منظومة أقل ما يقال فيها إنها تدافع عن الصهيونية.
ومع ذلك، علينا الاعتراف أنه كاتب كبير جدًا. لكن هذا لا يشفع بأن نغمض أعيننا عن كثير من مواقفه، وبخاصة تلك التي تعنينا، والتي عبر عنها عام 1985 حين استلم "جائزة أورشليم" لذلك العام. وللمفارقة، كان أعاد نشر كلمته هذه في كتابه "فن الرواية" (الفصل السابع الأخير)، ولكن الترجمة العربية (التي صدرت عن "دار الأهالي" عام 1999، وقام بها د. بدر الدين عرودكي) تحذف كل ما له علاقة بإسرائيل، وتكتفي بما قاله عن الرواية. في أي حال، ومن منطلق مخالف لتقديم مجرد تحية فقط لكونديرا (بمناسبة رحيله، يوم 11 من الشهر الحالي) تأتي هذه الترجمة، لكي تتيح أكثر الإطلالة على عوالم وفكر الكاتب الفرنسي ـ التشيكي الأصل، وهي ترجمة تتألف، بداية من حوار أجرته معه مجلة "La Règle du jeu" العدد السادس (شهر يناير/ كانون الثاني 1992)، بعنوان "رواية القرن الثامن عشر"، يتحدث فيه عن فن الرواية ومفهومه لها، ومثلما هو معروف عن كونديرا بأنه مقلّ جدًا في إجراء حوارات صحافية، بالإضافة إلى نص صغير بعنوان "شغفي بالثقافة الفرنسية" نشر في مجلة "Revue de deux Mondes" بتاريخ 5 نوفمبر/ تشرين الثاني 1994.

[ترجمة وتقديم: إسكندر حبش]

الأصل الفرنسي لكتاب  كونديرا 

 

الترجمة العربية لكتاب كونديرا... بعد الحذف 


الحوار مع كونديرا: رواية القرن الثامن عشر

(*) تقول في [كتاب] "فن الرواية"، عن "تريستام شاندي" رواية شتيرن و"جاك القدري" لــ ديدرو، "إنهما "قمتان من الخفة لم يتم الوصول إليها لا من قبل ولا من بعد". في رأيك، ما الذي يجعل القرن الثامن عشر بالنسبة للرواية فترة استثنائية؟
ليست فترة استثنائية. لكنه مع ذلك كان قرنًا عظيمًا جدًا من الرواية. لقد شهد حرية شكلية أكبر من القرن التالي، وكانت روح الجدية أقل سيطرة عليه.

(*) بأي طريقة ترى نفسك، في كتاباتك الروائية، وريثًا للقرن الثامن عشر؟
في وجود الفكر الدائم، والتأمل، في الرواية. إنها ليست مجرد مسألة قدرة فكرية من جانب الروائي. إنها أيضًا مسألة شكل. أنت في حاجة إلى نوع من التأليف، حيث يجد الفكر مكانه. هنالك نوعان من الأشكال الرومانسية المهيمنة في القرن الثامن عشر: الأول، الذي يأتي من رواية "البيكاريسك" (التشردية) القديمة؛ خلال تطور هذا الشكل، خصّ الراوي قدرًا كبيرًا من الحرية، "الحق في الاستطرادات عندما يشاء"، كما قال فيلدينغ. وصل هذا الشكل إلى براعة مرحة مع شتيرن وديدرو، حيث يلعب التاريخ دورًا ضئيلًا بالمقارنة مع الاستطراد وألعابهما النارية. من ثم، الشكل الآخر، الذي ولد في منتصف القرن الثامن عشر: الرواية بالرسائل. يوفر هذا التكوين أيضًا حرية شكلية كبيرة، لأن الرسالة، بطبيعة الحال، يمكن أن تحتوي على كلّ شيء: تأملات، واعترافات، وذكريات، وتحليلات سياسية وأدبية،... إلخ. للأسف، لم يجد هذا الشكل الرائع روائيين رائعين مثلها. هذه إحدى الفرص الضائعة في تاريخ الفن. الرواية الوحيدة بالرسائل التي هي في الواقع رواية عظيمة هي رواية لاكلو [العلاقات الخطرة].
دعونا نضيف ميزة أخرى لهذا الشكل: الرواية بالرسائل تُروى بالضرورة عبر عدة شخصيات؛ لذلك تُرى القصة من زوايا عدة. وصلنا (أو بالأحرى: كان من الممكن أن نصل، لو كان هنالك مؤلفون عظماء للروايات بالرسائل) إلى نسبية غير عادية للواقع (هذه النسبية للواقع التي، حسب رأيي، هي الأساس الوجودي لفن الرواية). لطالما صُدمتُ بالعلاقة الشكلية التي تربط بين "العلاقات الخطرة" وبين "بينما أنا أحتضر" لـ فوكنر.



حدث تبدل غير عادي في الشكل في بداية القرن التاسع عشر: تركزت الرواية بشكل جذري حول حبكة واحدة، أصبح تأليفها أكثر مأساوية، تجردت من كل ما هو غير ضروري للقصة. منذ ذلك الوقت، ظهر التفكير كعنصر غريب عن الرواية، وقد ضايق النقاد الروائيين الذين تجرأوا على التفكير في رواياتهم: "إنها ليست رواية"!؛ أو: "إنه أذكى من أن يكون روائيًا حقيقيًا"!... إلخ. أنت تعرف اللازمة. وفي العودة إلى سؤالك: العودة إلى أشكال رواية القرن الثامن عشر أمر مستحيل بالطبع (أو سيكون لها طابع مزعج إلى حدّ ما مثل محاكاة ساخرة)؛ إذا شعر الروائي المعاصر بالحاجة إلى إضفاء بُعد تأملي كبير على روايته، فلا يمكنه فعل ذلك من دون ابتكار أشكال جديدة غير منشورة.

(*) تشير، أيضًا، (ودائمًا في "فن الرواية") إلى نص فيفان دونون (Vivant Denon) على أنه "أحد أروع صفحات النثر الفرنسي". هل يمكنك إخبارنا بمزيد عن هذا الإعجاب؟
الموضوع العظيم في القرن الثامن عشر: اللذة. مذهب المتعة. قيمة المتعة. ولكن أيضًا صعوبة، حتى استحالة مذهب المتعة. لاكلو: الإثارة الجنسية كلعبة، ولكن سرعان ما تتحول اللعبة إلى منافسة وتصبح المنافسة صراعًا على السلطة. وأين متعة المصارعة؟ لا شيء أكثر هروبًا ومراوغة من المتعة. فقط الأخلاقيون هم من يرون مذهب المتعة في كل مكان. في الحقيقة، هو ليس في أي مكان. عند الرومانسيين، سوف يضيع تحت سيل العاطفة. في عصرنا، لا علاقة لعبادة الطيش والوقاحة بمذهب المتعة، بل على العكس من ذلك. إن قصة فيفان دونون "ما من غد أبدًا" هي أجمل درس أعرفه في مذهب المتعة. إن شخصية مدام دو تي… هي، بطريقة ما مناهضة لـ ميرتويل. تعيش مع بطل الرواية الشاب ليلة حب تُختم وراء سعادتهما وكأن شيئًا لم يحدث على الإطلاق. في الصباح يلتزم الشاب برؤية الزوج عشيق السيدة دو تي... لكنه لا ينتصر. كان العشيق مقتنعا بأنه استغل الشاب لتشتيت انتباه الزوج، وليس لديه أدنى شك فيه. على العكس من ذلك، لعب الشاب في عينيه دورًا سخيفًا إلى حد ما. المتعة والغرور منفصلان تمامًا هنا، بل أكثر من منفصلين. غير متوافقين. إنهما متعاكسان. هذه هي الحكمة في هذه القصة. ما من غد أبدًا: قصة متعة خالصة.

(*) يمكننا تحديد سلسلة من المعارضات في مقالاتك، كما في رواياتك. من ناحية، هنالك نموذج اللعب والفجور والفكاهة والأناقة. ومن ناحية أخرى، نموذج الأصالة، الحب العاطفي (أو الرومانسية)، حسن النية، الفن الهابط (الكيتش). بمعنى آخر: القرن الثامن عشر مقابل القرن التاسع عشر. هل محكوم علينا أن نعيد هذه المواجهة إلى ما لا نهاية؟
لا أضع قرنًا في مواجهة قرن آخر بمثل هذه الصرامة. لم يكن القرن التاسع عشر قرن التفكير الصحيح فحسب، بل هو أيضًا قرن أعظم منتقدي الفكر الصحيح، مثلما كان عليه فلوبير. والقرن الثامن عشر لم يكن مجرد فجور، ولكنه أيضًا قرن العاطفية التي بدأت في ذلك الوقت. ومع ذلك، فنحن، من خلال تربيتنا، أطفال القرن التاسع عشر، وأطفال فلوبير أقل بكثير من أطفال الرومانسية والفن الهابط. لذلك، فإن فهم القرن الثامن عشر (خاصة جانبه المليء بالحيوية) يشكل صعوبات بالنسبة لنا. مثال: النسخة السينمائية من "العلاقات الخطرة" للمخرج ستيفن فريرز، والتي أتيحت لنا فرصة مشاهدته مؤخرًا في السينما. لقد شعر المخرج بالحاجة إلى تقديم تفسير لـ خبث مدام دو ميرتويل: لذلك أشار إلى أن حبها لفالمونت كان حبًا غير سعيد، لأن الجرح العاطفي فقط يمكن أن يجعل الشر محتملًا عند أطفال الكيتش. يكاد يبرره. لكن هذا، بالطبع، لا علاقة له بمرتيول لاكلو. يعلن فالمونت، في نهاية الفيلم، وهو يحتضر، حبه للريسة. هذا قبيح. إنه لاكلو منظورًا إليه من خلال نظارات الرومانسية. يعاد تصحيحه عبر الرومانسية. لاكلو مختطف. مسروق. لقد أصبح آخر. (تأكيدًا لتجربتي القديمة: المقتبسون يخونون العمل المعدل ليس في التفاصيل، ولكن دائمًا في جوهره). لأنه من الغريب، في النغمة، وعبر برودة معينة في الإخراج، يكاد يكون الفيلم ـ دعونا لا نبالغ: لقد قلت فعلًا "تقريبًا" ـ "لاكلولوي" (نسبة إلى لاكلو).

(*) لقد ذكرت ذات مرة كيف أن الموسيقى التي سبقت الكلاسيكية، بطريقة ما، أعيد إحياؤها بالحداثة. هل يمكن قول الشيء عينه، على سبيل المثال، عن الأدب؟
أنت تشير إلى النص القصير الذي نشرته عام 1989 في عدد مجلة (l’Infini) المخصص عن فولتير. في العدد الأخير من المجلة نفسها أنشر "ارتجال تحية لـ سترافينسكي"، وهو مقال طويل أعود فيه بشكل مكثف إلى كل هذه الأفكار. ما يلفت انتباهي هو هذا: لقد بقي التاريخ العظيم الكامل للرواية قبل القرن التاسع عشر، من رابليه إلى لاكلو، ومن ثيربانتس إلى شتيرن، مهملًا، نصف منسي، وراء جماليات القرن التاسع عشر الرومانسية. إن الحداثة الأكاديمية في الستينيات، في نزاع ما يسمى بالرواية التقليدية، كانت تهدف في الواقع فقط إلى جماليات مرحلة قصيرة واحدة من الرواية التي أقننتها: رواية بداية القرن التاسع عشر. وبهذا فقد أكد وأيد فقط أكبر خطأ في رواية القرن التاسع عشر: نسيان القرون السابقة، وما نتج عن هذا النسيان: اختزال مفهوم الرواية ذاته. عارض الحداثيون العظماء في الرواية (جويس، كافكا، موزيل، غومبروفيتش، فوينتس،... إلخ) دائمًا (برمجيًا أو تلقائيًا) هذا الاختزال. تسألني عن القرن الثامن عشر، لكن عندما أتحدث عن الرواية التي سبقت جماليات بلزاك، فإنني أفكر أيضًا، إن لم يكن أكثر من ذلك، في القرون التي سبقت القرن الثامن عشر. أفكر برابليه قبل أي شخص آخر. أتفاجأ دائمًا بمدى ضآلة تأثير رابليه على الأدب الفرنسي. ديدرو، بالطبع. سيلين. لكن بصرف النظر عن ذلك؟ ردًا على دراسة استقصائية أجريت عام 1913، حدد [أندريه] جيد بأن أعظم الروايات الفرنسية: "أميرة كليف"؛ "العلاقات الخطيرة"؛ "دومينيك"؛ "مدام بوفاري"؛ "جرمينال". الغريب، غياب رابليه عن هذه القائمة. إما أن رابليه بالنسبة إلى جيد هو روائي أقل أهمية من فرومنتين، أو أن رابليه، بالنسبة إليه، ليس روائيًا على الإطلاق: هذا ما أسميه اختزالًا لمفهوم الرواية ذاته.

*****

نص: شغفي بالثقافة الفرنسية
ما زلت أذكر جملة فريدريتش شليغل الشهيرة التي قالها في بداية القرن التاسع عشر: [إن أكبر ثلاثة اتجاهات في عصرنا هذا هي "الثورة الفرنسية"، "فللهيم مايستر" لـ غوته، "تدريس العلوم" لـ فيخته]. لقد تمّ وضع حدث تاريخي هائل على المستوى نفسه لعملين ثقافيين: هذا هو ما تمثله أوروبا (أوروبا العصر الحديث)، المكان الذي يتميز بالمكانة السائدة التي تُعطى للثقافة (أي لتجنب سوء الفهم الناجم عن معان مختلفة لهذه الكلمة في الفكر والأعمال الفنية).
لنتخيل أن أحدهم قال في الستينيات، أو السبعينيات: إن أعظم الاتجاهات في عصرنا هي إنهاء الاستعمار، وأعمال فيلليني، ونقد أسلوب هايدغر. الفكرة، كما يبدو لي، ستكون مبررة تمامًا؛ ومع ذلك، في ذلك الوقت، لم يتلفظ بها أي شخص: إذ أنها لم تكن تتوافق مع روح العصر والمكان المخصص للثقافة آنذاك.




اليوم، تبدو لي جملة من هذا النوع مستحيلة تمامًا، ولا يمكن النطق بها؛ لا نرى في أي مكان عملًا ثقافيًا نضعه على المستوى نفسه (على سبيل المثال) اختفاء الشيوعية. هل هذا ممكن؟ ألم يعد هناك من أعمال بهذا الحجم؟ أم أنها موجودة ولا نراها؟ أم أننا لا نريد رؤيتها؟ من الصعب الإجابة على ذلك.
ثمة أمر واحد يبدو واضحًا بالنسبة إليّ: إن أوروبا التي كانت فيها عبارة شليغل هذه ممكنة وطبيعية، أوروبا هذه غادرتنا. لقد حدث رحيلها إلى العدم أمام أعيننا. ونحن نتظاهر بأننا لم نر أي شيء. ربما لم نر أي شيء حقًا. لذلك لم يتم التأمل في هذا الحدث المذهل، ولا تحليله، ولا حتى وصفه، ولا حتى ملاحظته.
لم تتم ملاحظة ذلك، لأن العالم مثلما تشكل في العقود الأخيرة أصبح غير مبال لا بأعمال غوته، ولا بأعمال فيخته، وهايدغر، وفلليني، وبالتالي، لا بحضورهم، أو بغيابهم. لو أن عمًّا عجوزًا توفي، ولم يكن أحد يقوم بزيارته، فلن نتمكن ملاحظة اختفائه بسهولة.
من، في الواقع، يجد نفسه حقًا، مزعوجًا ومتأثرًا ومتضرّرًا من محو الثقافة الأوروبية؟ لا أحد؟ فعلى الرغم من كلّ شيء، هنالك ضحيتان يجب أن تشعرا بالمعاناة: أولًا، وبالطبع، الفلسفة والفن أنفسهما. وبعد ذلك، فرنسا. إذ أن سلطة فرنسا الاستثنائية في القرنين، أو الثلاثة قرون، الماضية، كانت بسبب المكانة المميزة التي احتلتها الأعمال الثقافية في حياة أوروبا. أتحدث انطلاقًا من تجربتي الشخصية: لقد كان الجو الروحي لفترة شبابي التشيكية بأسرها يتميز بولعي العاطفي بكل ما هو فرنسي. كان ذلك بعد الحرب مباشرة. ما يعني أن حبي لفرنسا نجا بسهولة من صدمة ميونيخ (وإن كنت عشت تلك الفترة بألم يشبه الخيانة). كيف أمكنه النجاة من ذلك؟ لأن حبّ فرنسا لا يقيم مطلقًا في إعجابنا برجال الدولة الفرنسيين، ولا يشكل أبدًا تماهيًا مع السياسة الفرنسية؛ كان ينحصر بشكل خاص في الشغف بالثقافة الفرنسية: بفكرها وأدبها وفنها (الفن الحديث على وجه الخصوص).
عندما تصبح جملة شليغل مفارقة تاريخية قد عفا عليها الزمن، عندما تصبح الثقافة بالنسبة إلى أوروبي أمرًا لا يمثل له كثيرًا يصبح العالم عبر منطق قدري غير مبال بفرنسا، ويصمّ أذنيه عن صوتها. وبما أننا نرفض الماضي دائمًا بشغف معين، غالبًا ما تأخذ هذه اللامبالاة طابع النفور، وتصبح اللامبالاة تجاه فرنسا كرهًا لكل ما هو فرنكوفوني. (وهذا سبب إضافي بالنسبة إليّ كي أحب فرنسا؛ من دون نشوة؛ بحب حزين عنيد وحنين إلى الماضي).

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.