}

ذكرى رحيل لويس أرمسترونغ.. ملك البوق والجاز

سمير رمان سمير رمان 14 أغسطس 2021

عُرِف لويس أرمسترونغ بألقابٍ عدّة: "Dipper"، "Satch"، "Pops  ولكنّ اللقب الأشهر بينها كان Satchmo ساتشمو (اختصارًا لـ Satchel Mouth- عريض الشدقين(. وعلى الرغم من مظهره الخارجي كان المرء ينسى كلّ هذه التفاصيل عندما يستمع إليه وهو يعزف ويغني، فلا يبقى مكانٌ إلا لموسيقاه الرائعة ولصوته الساحر.

قيل كثير في مديحه من قبيل: "الموسيقي الأعظم لجميع الشعوب والأزمنة". ولكن وبعيدًا عن عبارات الثناء والمديح، فإنّ تأثيره كان جليًّا على ثقافة القرن العشرين الموسيقية، ولم يقتصر التأثير على الثقافة الموسيقية الجماهيرية وحدها. وأيضًا بعيدًا عن السياسة التي وقف منها لويس موقف الحياد، كان يصغي ويسمع نبض الحياة، ويعبّر عنها، وعن ذاته نفسها، عبر أنغام بوقه الثاقبة، ومن خلال صوتٍ أجشّ لجرسٍ غير عادي.

ولد لويس أرمسترونغ عام 1901 في مدينة نيو أورليانز. لا تتذكّر والدته بالضبط متى كانت ولادته، ولم تكن تعرف من هو والده. على كل حالٍ، تم تسجيل تاريخ ميلاده في الرابع من تموز/ يوليو لعام 1901، عيد الاستقلال الأميركي. في شوارع تلك المدينة، راح لويس يستمع إلى فرق الشوارع الموسيقية، حيث كانت نشأة الجاز الأولى، التي دمجت الأغاني المنتشرة في بيوت الدعارة وفي المزارع والحقول، وموسيقى والبلوز (الأزرق- الحزين)، والترانيم الروحية والطبول.

البدايات

في صباه، غنّى أرمسترونغ ضمن رباعيات الشوارع، وأتقن العزف على الآلات الموسيقية. شارك ذات مرّةٍ في شجارٍ عنيف، تمكن خلاله من انتزاع مسدسٍ من يد أحد الخصوم، فأودع سجن الشباب لمدة ثلاث سنوات، تعلّم خلالها القراءة والكتابة، وتدوين السلّم الموسيقي. بعد إطلاق سراحه، وقع لويس في حبّ جو أوليفر، الذي كان يدير موسيقيي نيو أورليانز، مما سرّع في دخوله سوق العمل الموسيقي، فبدأ يعزف في بيوت الدعارة الأنيقة، وفي الحانات، وصالات البلياردو والرقص. حتى نهاية عمره، احتفظ لوي بعاطفةٍ قوية تجاه تلك المؤسسات والنساء اللاتي يقطننها. من بين زوجاته الأربع، بدأت ثلاث منهنّ رحلتهنّ في "حيّ المصابيح الحمراء". صحيح أنّ الزوجة الثالثة الملقّبة بـ" اللؤلؤة السوداء" كانت قد تخرّجت بالفعل من المعهد الموسيقي فئة الغناء، ولكنّ فترة زواجه بها كانت قصيرة، عاد بعدها إلى سيرته الأولى، فتزوج الرابعة من الدائرة المعتادة.

في هذه الأثناء، شهدت موسيقى الجاز تطورًا كبيرًا، فانتقلت من الإيقاع "الساخن" إلى "البارد"، وأخيرًا إلى الطابع "الحرّ" الذي تتمتّع فيه كلّ آلةٍ موسيقية بحريةٍ تامّة أثناء تأديتها دورها، متّبعة الإيقاع الرئيسي. وككلّ شيءٍ سواه، لم يبق الجاز الحرّ جامدًا في مكانه: فظهرت الموسيقى الراقصة Ragtime، وموسيقى الجاز التقليدي Dixieland على يد موسيقيين بيض أرادوا لأنفسهم التميّز عن موسيقى السود. كما ظهر أسلوب ديوك إيلينغتون/ Duke Ellington، الذي تنتمي مسرحيته "القافلة/ Caravan" إلى لائحة الروائع العالمية.



الصعود

رصد رجال الأعمال تزايد شعبية موسيقى الجاز، فظهرت عام 1925 تسجيلات بيع منها ملايين النسخ، ليصبح اسم أرمسترونغ معروفًا حقًّا في أميركا كلِّها، ولينتقل عام 1935 إلى شيكاغو، وينضمّ إلى أوركسترا فليتشر هندرسون، مفكّر موسيقى الجاز الزنجي، الذي، وعلى غير العادة، لم يكن مرتبطًا بعالم الجريمة، ولا بالمخدرات، والدعارة. عملًا بنصيحة هندرسون، تحوّل لويس من العزف على الكلارنيت إلى العزف على البوق، فاكتشف فيه هندرسون مغنيًّا لامعًا. ترسّخت صورة أرمسترونغ في أذهان الجمهور كعازف جازٍ أسود يعتمر قبعةً بيضاء، ويرتدي بزّة أرجوانية، غليظ الشفتين، عابس السحنة، جاحظ العينين. بعد انتشاره الواسع، حصل أرمسترونغ على لقب "Satchmo Lipped"، الذي اشتهر به في كلّ مكان.

صحيح أن أرمسترونغ أصبح نجمًا بالفعل، ولكنّه لم يكن وحده في هذا المشوار، فقد كان يقف دائمًا إلى جانبه مستشارون وشركاء. كان أول هؤلاء المستشارين والشركاء مدير السجن، ثم جو أوليفر، وفليتشر هندرسون، يليهم أفضل ضارب طبلة على الإطلاق بيني ويليامز. تعلّم لويس أرمسترونغ من جميع هؤلاء، الذين أكّدوا أنّهم لم يقابلوا في حياتهم تلميذًا أكثر اجتهادًا من لويس، الذي كان أداؤه يتمتّع بحريّةٍ غير مسبوقة.

هبة إلهية نادرة

بداية الثلاثينيات، كانت موجات الراديو تبث على مدار الساعة مئات البرامج، كما كانت السينما والتلفزيون على أعتاب انطلاقتها المظفرة. فعل الزمن فعله. فمنذ عصر النهضة، تطورت ثقافة الموسيقى الأوبرالية والسيمفونية وكذلك موسيقى الحجرة ضمن أطرٍ جامدة إلى حدٍّ ما. يتطلب المجتمع الأكثر انفتاحًا أشكالًا متجددة على الدوام. فعلى سبيل المثال، أصبحت موسيقى "bel canto/ (الغناء الجميل)" العذبة تكتمل بموسيقى جديدة. بالإضافة إلى ذلك، لم يكن يتوفر عددٌ كافٍ من الموسيقيين لتلبية حاجات شبكات المطاعم والرياضة وأماكن التسلية والترفيه والشبكة العسكرية. لهذا، وبعد موجة غناء السوبرانو في أعلى طبقات الصوت، نُظر إلى هدير صوت أرمسترونغ المبحوح كنفحة هواءٍ منعشة جاءت على جناح إعصارٌ بحري. وبالفعل، لقد كان صوته ذو البحة الساحرة هبة إلهية لم يحظ بها شخص آخر على الإطلاق.

بعد انتهاء الحرب العالمية الثانية، كانت أوروبا منبهرةً حتى الثمالة باليانكي: أزياؤهم الجديدة تمامًا، تقنياتهم الحديثة وأسلحتهم، وفرة السجائر، وأنواع الويسكي، وألواح الشوكولا، وأسطوانات الغراموفون. وقتها، كان في الإمكان تقديم سيجارتين أميركيتين ثمنًا لوجبة غداء وكأس من البيرة في مقهى باريسي، كما كان بالإمكان الحصول على وجبة غداءٍ مع النبيذ والحلوى لقاء أسطوانة موسيقى الجاز. في هذا المناخ المواتي، جاءت موسيقى الجاز إلى أوروبا.

شهرة عالمية

بعد جولاتٍ عدّة في أوروبا، وشمال غرب أفريقيا، غدت شهرة لويس أرمسترونغ عالمية بالفعل.

بعد قيامه بجولاته خارج الأراضي الأميركية، أصبحت سلطة أرمسترونغ قويةً لدرجةٍ عاليةٍ جدًا، وأصبح مألوفًا ارتياد أفضل نجوم الفنّ حفلاته، على سبيل المثال: مغنية الجاز Ella Fitzgerald / إيللا فيتزجيرالد، والممثلة الشهيرة Barbra Streisand / باربارة سترايسند، والمغنية Sarah Vaughan/ سارة فوغان. بلغ أرمسترونغ قمة النجاح في الستينيات من القرن العشرين. كما ظهر في أفلامٍ سينمائية عدّة مثل فيلم High Society (عام 1956) إلى جانب بينغ غروسبي ـ غراس كيللي ـ وفرانك سناترا، وفيلم Hello Dolly! (عام 1969) بطولة بربارة سترايسند.

في عام 1954، أزاح أرمسترونغ فرقة البيتلز عن صدارة لائحة Billboard Hot 100 بأغنيته Hello Dolly!. كما تميّزت أغنية "Bout Time" في فيلم "المسحور/ Bewitched" بطولة نيكول كيدمان. في عام 1968، حظي أرمسترونغ بشهرةٍ واسعة في المملكة المتحدة بعد تصدر أغنيته "يا له من عالمٍ رائع/ "What a Wonderful World قائمة أفضل أغنية في الشهر.


تضاربٌ آراء حول تاريخ الوفاة

جاءت وفاة لويس أرمسترونغ قبل شهرٍ واحد من ذكرى ميلاده السبعين، الأمر الذي أثار جدلًا حول ما إذا كانت واقعة الوفاة قد حصلت في الخامس أو السادس من تموز/ يوليو.

عندما شعر بدنوّ أجله، دعا لويس، مساء الخامس من تموز، فرقته الموسيقية لإجراء "بروفة". ملئت الكؤوس بالشمبانيا، ورفعت أنخاب للآلات الموسيقية. في منتصف الليل، وعلى أنغام موسيقى البلوز، رحل الرجل إلى العالم الآخر.

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.