}

"مسألة الأجساد الثلاثة": جريمة على الطريقة الصينية البحتة

سمير رمان سمير رمان 22 أبريل 2024
تغطيات "مسألة الأجساد الثلاثة": جريمة على الطريقة الصينية البحتة
ملصق نسخة نتفليكس من مسلسل "مسألة الأجساد الثلاثة"

في شهر مارس/ آذار، عرضت شبكة نتفليكس مسلسل "مسألة الأجساد الثلاثة" المأخوذ عن رواية كاتب الخيال العلمي الصيني ليو تسي شين، تزامنًا مع صدور قرار محكمة شنغهاي بالإعدام بحق قاتل لين تشي، المنتج الرئيس للمسلسل، والملياردير الصيني ومؤسس شركة Youzu Interactive. وبحسب التفاصيل المعلنة حتى الآن، فإنّ قصة الجريمة يمكنها، من حيث الغموض والتآمر، إن حوّلت إلى الشاشة، أن تنافس أكبر المسلسلات المتوقعة هذا العام.
في التاسع من ديسمبر/ كانون الأول من عام 2020، شعر لين تشي أنّه ليس على ما يرام، فنقل إلى أحد مشافي شنغهاي. على الفور، شخّص الأطباء حالة "تسمّم"، وأبلغوا الشرطة بشكوكهم أن يكون التسمم ناجمًا عن محاولة قتلٍ متعمدة. بعد إجراء اختبارات عدّة، اكتشف الأطباء وجود سبعة أنواعٍ من السموم في جسم المريض، من بينها الزئبق، وسمّ سمكة (فوغو)**. قام الأطباء بإجراء 40 عملية نقل دم، ووضعوه تحت المراقبة على مدار الساعة، إلا أنّه توفي بعد تسعة أيام.
أثار موت لين تشي ضجّة كبيرة، على الرغم من أنّ الواقعة تزامنت مع عطلة أعياد الميلاد. في هذه الأثناء، توصلت الشركة إلى الاشتباه بالمحامي الشهير سيو ياو، مدير عام The Three-Body Problem Universe. وهي إحدى شركات المياردير لين تشي، والتي كان قد أسسها قبل الأحداث المأساوية بهدف تحقيق حلمه الرئيس: تكرار نجاح أحد أكثر أشهر مسلسلات الخيال العلمي "حرب النجوم"، ولكن بنكهةٍ صينية هذه المرّة.

حالمٌ من شنغهاي
لم يكن لين تشي بثروته المقدّرة بـ1.3 مليار دولار أميركي ثريًّا صينيًا عاديًّا، ولا يتعلق الأمر بأنّه بدأ رحلته من القاع (وهي حالة معظم رجال الأعمال الصينيين)، بل لأنّه بقي حتى آخر أيامه (39 عامًا) مخلصًا لأحلام الأطفال وشغفهم، والأمر الأهمّ أنّه استطاع تجسيد أحلام الأطفال على أرض الواقع، وجعل من شغف الطفولة مصدر ثروته.
منذ نعومة أظفاره، عشق لين تشي ألعاب الكمبيوتر، التي برع فيها لدرجةٍ مكنته من المشاركة في مسابقاتٍ عالمية عدّة. وعندما بلغ لين عامه الـ28، ترك العمل في واحدةٍ من أكبر شركات شنغهاي في مجال الاتصالات، وأنشأ من الصفر شركته الخاصّة Youzu Interactive، التي عرفت في العالم باسم (Yoozoo)، ونجحت في تصميم ألعاب جماهيرية متعددة الاستخدامات تمكّن من تسويقها بنجاحٍ عبر الإنترنت، وفي الوقت نفسه صمّم متصفحًا خاصًّا لاقى انتشارًا واسعًا في السوق الصينية. وبالمناسبة، لم يجعل لين تشي هدفه الصين وحدها، بل كان يتطلع دومًا إلى الأسواق العالمية. بسرعة قياسيةٍ، وصلت شركته السوق الأوروبية، وأميركا الشمالية، وآسيا، وحازت ألعابه، من قبيل League of Angels, Infinity Kingdom، وبالطبع لعبة Game of Thrones :Winter Is Coming، على شهرةٍ واسعة، وترجمت إلى عشرات من لغات العالم.




في عام 2014، أُدرجت الشركة في البورصة، وبقي لين تشي مديرها العام، وأكبر حملة أسهمها. وهنا، ظهر حلمه الجديد: تعريف العالم بكتاب "مسألة الأجسام الثلاثة" للكاتب ليو تسي شين الصادر عام 2008، والذي أصبح في الصين أيقونةً حقيقية. يكفي أن نقول إن مليارديرًا صينيًا آخر يدعى هياو مي تسون جعل من قراءة الرواية أمرًا ملزمًا لجميع العاملين في شركته. في عام 2014 نفسه، صدرت النسخة الإنكليزية من الرواية، لتتصدر سريعًا لائحة أفضل الكتب مبيعًا، وتنال إعجاب شخصياتٍ مرموقة، مثل مارك زوكربيرغ، وباراك أوباما. في العام نفسه، أدرجت الرواية في القائمة القصيرة لنيل جائزة Nebula، التي تمنح سنويًا لأفضل كتب الخيال العلمي، وفي العام التالي نالت أفضل الجوائز التي تمنح لكتب الخيال العلمي، وهي جائزة Hugo الأميركية المهمة في مجال أدب الخيال العلمي. تتحدث الرواية عن مهندس صيني دعي للمشاركة في تقصي جرائم غامضة سقط ضحيتها كثيرٌ من العلماء في مختلف أنحاء العالم. أثناء تقصيه الأمر، توصل المهندس إلى وجود مؤامرة كونية، تضمّ أعضاءً حصلوا على مساعدةٍ من فضائيين ينتمون إلى حضارةٍ أُخرى تسعى للاستيلاء على كوكب الأرض، الكوكب الوحيد في الكون المشابه لكوكب الفضائيين، والذي فني، على عكس الأرض التي لا تزال قائمة تنبض بالحياة.
كان لدى لين تشي خططه الخاصّة بشأن الرواية، فقد كان يحلم أن يبدأ بنقلها إلى الشاشة أولًا، ليقوم فيما بعد بإنشاء عالمٍ خاصٍّ بـ"مسألة الأجساد الثلاثة" الكونية، وبأبعادٍ تقارب أبعاد عالم "حرب النجوم".
يحتاج تنفيذ هذه المهام إلى المال، وإلى محامٍ قانوني موثوق. كانت المشكلة تكمن في وجود مالكٍ لكتاب "مسألة الأجساد الثلاثة"، وهو شركة Tencent، التي اشترت جميع حقوق الرواية منذ عام 2008، وكانت تستعد لتصوير مسلسلها الخاصّ. كان على لين أن يحلّ هذه المسألة أولًا.
بالطبع، بعد إدراج شركته في البورصة، أصبح المال متوفرًا لدى لين. بقي له أن يجد محاميًا لامعًا موثوقًا للمساعدة في حلّ مسألة ملكية الرواية. وجد لين ضالته في أحد ألمع المحامين الشباب في شنغهاي، وهو سيو ياو، الذي كان قد درس في فرنسا والولايات المتحدة الأميركية. بعد عودته إلى شنغهاي، تولى المحامي البارع أكثر القضايا تعقيدًا وحساسيّةً في عالم الشركات والمؤسسات. كلّف لين هذا المحامي بالذات بشراء حقوق الرواية، وأن يكون له مالك الحقوق والتراخيص ذات الصلة، بأي ثمنٍ، وبغض النظر عن المصاريف والتكلفة. أنفق المحامي 10 مليون دولار، ولكنّه أمّن لربّ عمله كلّ ما يلزم لتحقيق حلمه، الأمر الذي أرضى لين تشي، فعيّنه رئيسًا للشركة التي أُنشأها خصيصًا لهذا الموضوع، ووعده بـ 20 مليون يوان كتعويضاتٍ سنوية (2.76 مليون دولار).
يقول جميع من كان مرتبطًا بشكلٍ أو آخر بمشروع "مسألة الأجساد الثلاثة" بأنّ المشروع كان سيحظى بنجاح تجاريٍّ هائل، فالسيد لين يتمتّع بكل أشكال العلاقات الضرورية لنجاح المشروع، كما كان غنيًّا بما يكفي ليقنع شركة نتفليكس بمشروعه، وكذلك ليشدّ انتباه كتاب سيناريو واحدٍ من أكثر المسلسلات نجاحًا في الوقت المعاصر (لعبة العروش/ Game Of Thrones).
ومن المعروف أنّ السلطات الصينية تراقب بانتباه ودقّة مواطنيها الأثرياء، وتراقب الطرق التي ينفقون فيها أموالهم. وعلى أمل أن يساهم المشروع في تعزيز سياساتها الناعمة في العالم، وقفت السلطات الصينية بالكامل إلى جانب المشروع. كان الأمر الأهمّ بالنسبة لسلطات بكين هو وجود لين نفسه، والذي لم يوفر طيلة حياته جهدًا ولا مالًا في سبيل تحقيق أحلامه على أرض الواقع. ولهذا، جمع لين فريقًا من أفضل الرجال، كان أحدهم، كما اعتقد لين، محامي شنغهاي سيو ياو، الذي نصّبه على رأس الشركات التي أسسها بغرض تنفيذ مشروعه العتيد. اتضح أنّ اختيار المحامي لتنفيذ المشروع لم يكن موفقًا، بل كارثيًا بالنسبة للين.
اتضح بسرعة أنّ سيو لم ينجح بالقيام بالمهمة المنوطة به، فقد سادت أجواءٌ نفسية متردية في الشركات الواقعة ضمن نطاق صلاحياته. تحمّل لين بعض الوقت، آملًا أن تتحسن الأجواء، ولكن الكيل طفح به، فقام بإجراءاتٍ تأديبية عاجلة. لم يطرد سيو، بل تركه على رأس عمله، بعد أن قلّص راتبه إلى 5 ملايين يوان في السنة، وشطب اسمه من العناوين.
كظم سيو غضبه، ولكنّه بدأ يعدّ خطة الانتقام على نارٍ هادئة تسربت بعض تفاصيلها من المحكمة إلى الصحافة. يبدو أنّ المحامي سيو رأى أنّ الدم وحده من يمحو الإهانة، ولأنّه كان رجلًا لا يجيد استخدام الأسلحة، فقد قرر اللجوء إلى السمّ.




وفقًا لما ذكرته مجلة "كايسين" النافذة، والناطقة باسم رجال الأعمال الصينيين، فقد كان سيو مهووسًا بمسلسل Breaking Bad، وعلى طريق بطله، أنشأ المحامي الغاضب مختبرًا كيميائيًا حقيقيًا في منزله، ولكنّه لم يصنّع فيه المخدرات كما فعل بطل المسلسل الأميركي، بل اكتفى بإجراء تجارب على الحيوانات لاختبار فعالية سمومه، وليختار في النهاية أكثر تراكيبها سميّة وخفية، وصل عددها بحسب سيو ياو نفسه إلى أكثر من مئة تركيبة.
انتقل سيو إلى تجربة السموم على البشر، وبدأ بإضافتها إلى مشروبات العاملين في الشركة، إذ كان يريد في واقع الأمر الانتقام من جميع من كان له معهم نزاعات في العمل، ومن ضمنهم الرجل الذي حلّ مكانه في نهاية الأمر في رئاسة المشروع. ولحسن الحظّ، بقي جميع العاملين على قيد الحياة. أمّا بالنسبة للين فقد دسّ له سمًّا مركبًا من سبعة أنواعٍ دفعة واحدة، وقدّمها له على أنّها فيتامينات، أو مشروبات طاقة غير مؤذية.
في حين يرى بعض المراقبين أن الحكم بإعدام سيو صدر بمحض الصدفة بعد يومٍ واحد فقط على عرض أولى حلقات مسلسل "مسألة الأجسام الثلاثة" من نسخة شركة نتفليكس، بينما يرى آخرون أن ذلك ليس سخرية من سخريات القدر، بل جاء بقرارٍ مدروس من قبل السلطات. يعود الأمر إلى أنّ أمل السلطات قد خاب بعد عرض أولى حلقات المسلسل، التي ركّزت بدرجةٍ كبيرة على التجاوزات التي رافقت "الثورة الثقافية" (والد إحدى بطلات المسلسل، بروفيسور الفيزياء، يتعرض للضرب حتى الموت على أيدي تلامذته الحانقين عليه لأنّه لم يوافق على اعتبار نظرية التطور لداروين نظرية معادية للثورة). باختصار، عبّرت مختلف وسائل الإعلام التابعة للسلطات عن سخطها من المسلسل، وكذلك فعل الصينيون من الطبقة المتوسطة، الذي أعربوا عن سخطهم على المسلسل على وسائل التواصل الاجتماعي.
كلّ هذا دفع بعض المعلقين إلى الحديث عن أنّ الحكم القاسي بحق سيو ياو جاء انتقامًا، لأنّ المسلسل لم يأت وفق تطلعات السلطات الصينية.
وهنا يتوجب التنويه إلى أنّ نسخة مسلسل نتفليكس هي نسخة ثانية من مسلسل "مسألة الأجسام الثلاثة" المعدّة للتلفزيون. النسخة الأولى هي نفسها التي أصدرتها شركة Tencent، وكانت قد عرضت العام الماضي. وإذا كان الفيلم التلفزيوني المؤلف من 30 حلقة قد حقق النجاح في الصين، فإنّه كان بعيدًا عن النجاح العالمي، لأنّه كان مغرقًا في صينيته، وكان موجهًا في الدرجة الأولى للجمهور الصيني. أمّا النجاح الذي حققته نسخة نتفليكس فجاء بفضل كوكبةٍ من نجوم الشاشة الذين شاركوا فيها، وكذلك بفضل مهارة وحرفية كتاب السيناريو الذين سبق وكتبوا سيناريو "لعبة العروش". وأخيرًا ساهمت النهاية المأساوية للسيد لين نفسه في نجاح المسلسل وإقبال المشاهدين عليه.
بالطبع، فإنّ الحديث عن انتقام السلطات الصينية ليس سوى إشاعات، فعقوبة الإعدام في الصين معروفة. كما أنّ الإعداد المتقن للجريمة لم يترك مجالًا للشك بأنّ المتهم الرئيس في الجريمة سوف يعدم. وعلى الرغم من ذلك، لم يعترف سيو ياو بارتكاب الجريمة، وكان في مقدوره الحصول على حكم مخفف، فهو يستطيع إعداد مرافعاته الخاصّة، وبإمكانه توكيل أفضل محامي الصين للدفاع عنه. وحتى اليوم، يقول بعض المحليين، الذين لم يفصحوا عن مصادرهم، أن سيو، وحتى اللحظات الأخيرة، كان واثقًا بأنّه سيخرج من هذه المحنة بالبراءة.
أمر واحد لا يقبل الشكّ: ستبقى حادثة مقتل لين تشي، ورواية الخيال العلمي عن استيلاء الفضائيين على الأرض، مرتبطتين معًا إلى الأبد، وهو أمر لا يخدم المشروع الذي كان يخشاه لين.

هوامش:
(*) مسألة الأجساد الثلاثة": مسألة من مسائل الفيزياء الميكانيكية المرتبطة بتحديد حركة ثلاثة كتلٍ نقطية، من نقطة البداية والسرعة الصفرية وفقًا لقوانين الحركة وقوانين الجاذبية الأرضية لنيوتن. اتخذها الكاتب الصيني ليو تسي شين عنوانًا لثلاثيته "ذكريات عن تاريخ الأرض"، أول أجزائها رواية "مسألة الأجسام الثلاثة".
(**) سمكة (فوغو): سمكة شديدة السميّة من فصيلة الأسماك ذات الأشواك (تاكي فوغو)، يعدّ اليابانيون منها طبقًا تقليديًا يحمل الاسم نفسه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.