}

في ذكرى وفاة ستاندال: أحد رواد الرواية النفسية

سمير رمان سمير رمان 8 أبريل 2024
تغطيات في ذكرى وفاة ستاندال: أحد رواد الرواية النفسية
ستاندال وروايته الشهيرة "الأحمر والأسود"

في مقبرة مونمارتر شمال باريس، يوجد قبر نُقشت على شاهدته عبارة بسيطة موجزة باللغة الإيطالية: (ألايجو بايل ميلانيزي)، أي "كتبت، أحببت وعشت". تتألف تلك المرثية من أفعالٍ ثلاثة تمثل الحياة كلّها لكلّ شخص ربما... لكن، على الأرجح، قد تكون المرثية المناسبة لقبور غالبية البشر في الألفية الثالثة: "كنت كسولًا، كرهت، ونجوت"... في ذلك القبر يرقد ماري هنري بايل، الفرنسي الأصيل، الدبلوماسي، الكاتب اللامع، وأحد مؤسسي الرواية النفسية، الذي اشتهر في عالم الأدب باسمه المستعار ستاندال/ Stendal.
ولد هنري بايل عام 1783 في مدينة غرونبول الفرنسية، وتوفي يوم 23 من آذار/ مارس عام 1842، ويُعد أحد مؤسسي الرواية النفسية.
كتب ستاندال في مجالات مختلفة. ومن بين أهمّ أعماله الفنية رواية "الأحمر والأسود"، و"دير بارما"، و"لوسيان لوفين". وفي مجال قصص السيرة الذاتية "حياة هنري برولارد"، و"مذكرات مغرور". أمّا في مجال القصة القصيرة، فكان أهمها سلسلة "السجلات الإيطالية" (أشهر قصصه القصيرة هي "فانينا فانيني"). وقع ستاندال مؤلفاته بأسماء مستعارة كثيرة، لكنّه دخل التاريخ باسم واحد فقط: ستاندال.
على خارطة ألمانيا توجد مدينة صغيرة تحمل هذا الاسم: ستاندال. لو لم يمرّ بها هنري بايل في إحدى رحلاته لما كان أحد سمع بها، أو عرف عنها شيئًا. على مشارف البلدة لافتة تحمل اسمها، وبمجرد أن وقع نظره على اللافتة، قرر هنري بايل أن يتخذ من اسم البلدة اسمًا مستعارًا له، فمجّدها... وبعد سنوات عدة، أصبح أوّل من أدخل مصطلح "Turist" على قاموس اللغة. رجلٌ مشى ألف طريق وطريق: في فرنسا، إيطاليا، ألمانيا، إنكلترا وروسيا. كانت الطرق التي سلكها في روسيا صعبة وشاقّة، فقد كان ضابطًا في جيش نابليون بونابرت، خلال حملته الشهيرة على موسكو عام 1812. انتهت الحرب بحريق التهم العاصمة الروسية بالكامل. هذه، ربما، كانت نقطة تحولٍ مفصلية في حياته، إذ وقف مذهولًا يراقب موسكو وقد لفّها لهيب أحمر على خلفية من الثلوج ناصعة البياض. عندها ربما، ومع احتراق موسكو، احترق إيمانه بعظمة قائده نابليون بونابرت.
هنري بايل، الفرنسي المولد، قال عن إيطاليا إنّها وطنه، ومن أجلها سفك الدماء إلى جنب رفاقه في السلاح والروح، وأصبح بالفعل كاربوناري (اسم تشريف يطلق على الطليان الوطنيين الذين حاربوا الطغيان الملكي). وتقديرًا لشجاعته حصل الكاربوناري بايل على أعلى جائزة، وهي عبارة عن غصن شجرة أكاسيا يمنح للأشخاص لقاء خدماتٍ يراها الإيطاليون جليلة، في أعظم تعبير عن التقدير والاحترام. مثل هذا الغصن تقلّده في تلك الأيام لورد بايرون، الشاعر الكاربوناري الذي قتل في سبيل حرية إيطاليا.




كتب ستاندال قصة "فانينا فانيني" حول الحبّ العظيم للوطن، وكذلك عن الحبّ نفسه. حظر الكتاب في أزمنة مختلفة، بدءًا من زمن "كود الكتب المحرّمة من قبل الفاتيكان"، مرورًا بنظام فرانكو الديكتاتوري، وانتهاءً بدكتاتورية العسكر في البرازيل في ستينيات القرن العشرين. هكذا هو قدر كاتب رواية "الأحمر والأسود"، وهكذا هو قدر الحقيقة!
كان ستاندال يحمل أسماء كثيرة، وأحبّ كثيرًا من المدن، وأصبح لديه كثير من الرفاق والشخصيات المهمة، ومع ذلك بقي وحيدًا. في رحلته الأخيرة، سار خلف نعشه ثلاثة أشخاص فقط، أمّا نعيه فاقتصر على ستة أسطر في جريدة مغمورة، وجاء بعدها النسيان... وبالمناسبة، حيكت خيوط مؤامرة الصمت حوله في أثناء حياته، ولكنّه رغم تلك المحاولات لطمسه نال تقديرًا كبيرًا من قبل عظماء الأدب الروسي: بوشكين، تولستوي، وكذلك من الكاتب الفرنسي بلزاك، ومن عميد الأدب الألماني غوته، وأيضًا من أعظم شعراء إنكلترا لورد بايرون... وبالفعل، لم يكن في مقدور سلطة الأغنياء والمتخمين أن تحبّ وتقدّر من كان يحتقرها بكلّ جوارحه. لقد تمّ إلغاؤه من الأدب. ولاحظ أحد الكتاب أن الجمهور عاد ليقرأ ستاندال فقط عام 1935، في عصر الاتحاد السوفياتي، حيث كانت شعبية الأغنياء والمتخمين هناك في الحضيض.
تميز ستاندال بعقيدة جمالية عبّر عنها في مقال "راسين وشكسبير" (1822 ـ 1825)، يتناول فيه الرومانسية ليس كظاهرة تاريخية محددة ومتأصلة في بداية القرن التاسع عشر، بل يراها تمردًا يرفع رايته المبتكرون في أيّ عصر ضدّ موروث الفترة السابقة. كان يرى في شكسبير معيارًا للرومانسية، وهو في رأيه كاتب يعلّم الحركة والتنوع والتعقيد غير المتوقع في النظرة إلى العالم مثل غيره.
كغيره من الرومانسيين، كان ستاندال متعطشًا إلى المشاعر القوية، ولكنّه في الوقت نفسه لم يستطع التغاضي عن انتصار النزعة التافهة التي أعقبت الإطاحة بنابليون. بعد هزيمة النابليونية، حلّ مكانها عصر الجنرالات النابليونيين، الذين كانوا في معظمهم شخصيات مشرقة ومتكاملة على طريقتها الخاصّة، مثل ملوك عصر النهضة، عصر "غياب الشخصيات وتفكك الفرد". وكغيره من الكتاب الفرنسيين في القرن التاسع عشر، راح يبحث عن ترياق للحياة اليومية، فوجده في الهروب الرومانسي غالبًا إلى الشرق وأفريقيا، وأحيانًا إلى كورسيكا وإسبانيا. استطاع الكاتب أن يكوّن لنفسه صورة مثالية عن إيطاليا، بصفتها امتدادًا تاريخيًا لإيطاليا عصر النهضة، العزيزة جدًا على قلبه.
وفي الوقت الذي كان فيه ستاندال يصوغ وجهات نظره الجمالية، كان أدب النثر الأوروبي يقع بالكامل تحت سحر والتر سكوت. وكان الكتاب التقدميون وقتها يفضلون تشعبّ السرد البطيء، المترافق بعرض مسهب للأوصاف، بهدف إدخال القارئ في أجواء الرواية التي تجري فيها الأحداث.
ربما جاء أسلوب نثره النشط والديناميكي سابقًا لأوانه، لدرجةٍ أنّه توقع هو نفسه أن لا تحصل أعماله على تقييم منصف، أو عادل، قبل عام 1880. وفي هذا الصدد، وصف كلٌّ من مكسيم غوركي، وأندريه جيد، روايات ستاندال، بأنّها رسائل إلى المستقبل. وبالفعل، جاء الاهتمام الحقيقي بأدب ستاندال فقط في النصف الثاني من القرن التاسع عشر، واستمد معجبوه نظرية كاملة عن السعادة (Bailism)، التي تقول بـ"عدم جواز إضاعة أية فرصة للتمتع بجمال العالم. وكذلك العيش في انتظار ما هو غير متوقع، فكونوا على استعداد تام للمفاجآت الإلهية"!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.