}

"ذكريات".. فيلمٌ ينتصر للحب وللذاكرة على الحرب

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 4 سبتمبر 2021
سينما "ذكريات".. فيلمٌ ينتصر للحب وللذاكرة على الحرب
في فيلم "ذكريات": ذكرياتنا لا تطاردنا.. نحن من نطاردها!



تداخلُ أكثر من حقل إبداعي وانصهارها معًا لصالح عمل فني أو أدبي بعينه، شكّل، وسوف يبقى يشكّل، هاجسًا عند الأدباء والسينمائيين والمسرحيين والتشكيليين، وحتى الموسيقيين. في قلب هذا الهاجس، ومن تدفقاته، أنجزت كاتبة السيناريو والمخرجة والمنتجة الأميركية، ليزا جوي/ Lisa Joy، فيلمها الأول الطويل Reminiscence (2021)، الذي تصح، على الأرجح، ترجمته إلى العربية تحت اسم "ذكريات". (أميل شخصيًّا إلى "إعادة المشهديات"، أو "استرجاع المشهديات"، كترجمة قد تكون أقرب لعنوان الفيلم بحسب وقائعه، خصوصًا أن ثمة تقاربًا بين مفردة Scene، التي معناها مشهد، وبين Reminiscence).

المخرجة الأميركية ليزا جوي 


التداخل في فيلم جوي الروائي الطويل (115 دقيقة)، بعد عدد من الأفلام القصيرة والمسلسلات التلفزيونية (لعل مسلسل Westworld الأشهر بينها)، سطع منذ الاستهلال المفعم بالشعر والخيال، مع صور لمدينة ميامي غارقة بمياه ما بعد حرب أهلية نُسجت حكاية الفيلم الخيالية على أساس قيامها في زمن مقبل ما، وبنت مشروعيتها عبر تأمّل نتائج هذه الحرب المفترضة على مصائر سكّان المدينة التي لا تشبه كثيرًا مدينة ميامي التي نعرفها إلا في ما يتعلق بناطحات السحاب والمحيط الذي على مد البصر يحاصر شرقها، ولكنه في الفيلم يحاصرها من جميع الجهات، إلى درجة أن التنقل بين منطقة وأخرى داخل المدينة يصبح كما هو حاله في مدينة البندقية (فينيسيا) الإيطالية، باستخدام قوارب صغيرة.
فأي شعر مطعّم بالفلسفة أعمق مما بدأه بطل الفيلم هيو جاكمان: "قد يطارد ماضٍ شخصًا، هذا ما يقولونه، الماضي مجرّد سلسلة من اللحظات، كل واحد منها مثاليّ، كامل، مثل خرزة فوق طوق الزمن، الماضي لا يطاردنا، لا يأبهُ بنا، وإن كان ثمّة أشباح حولنا، فهي مطاردتنا نحن للماضي".




بهذا المدخل الشعري الساحر، مع حركة الكاميرا إلى الأمام تجوب جهات المدينة الضائعة داخل أتون هويتها الجديدة التي منحتها المخرجة والكاتبة في آن لها، ومع مواصلة تقدمها بمشاهد خارجية نهارية، وانتقالها تدريجيًّا إلى خارجية ليلية، وصولًا إلى موقع المشهد الأول، فإن هاجس التداخل لا يقتصر على استحضار الشعر فقط، وجعله يجري على لسان البطل/ الراوي، حيث اعتمدت جوي هذه التقنية الحكائية السردية، بل امتد ليشمل ما أظهر شغف المخرجة بالفن التشكيليّ من خلال متوالية اللوحات والمشهديات البصرية التي ضختها في الدقائق الأولى من فيلمها، وبما شمل النجوم في السماء، وروعة مشهد الماء يتخلل البيوت والمباني، وينسج معزوفة من ألحان اللون، حضر معها هاجس التداخل مع الموسيقى. ومع توالي المشاهد والنقلات، وتصاعد الأحداث، يتجلى أخيرًا وليس آخرًا، هاجس المسرح.
بعد مشهد التقاط نيك بانيستر (يلعب دوره هيو جاكمان كما أسلفنا) لورقة لعب تسبح في الماء، وإعادتها لصاحبها العجوز الذي يبدو أنه بعد الحرب المفترضة يتلهى بورق اللعب، ويمارس عبره بعض الخدع، ودخوله عيادته المتخصصة بإعادة ما يرغب مراجعوها استرجاعه ومشاهدته من ذكريات، وإخبار مساعدته له أنه تأخر، يجيء رده استكمالًا لهاجس الشعر المنقوع بماء ورد الفلسفة: "التأخر هو الخط الزمني البنّاء، ونحن لا نتعامل به".



حدوتة جذّابة

هيو جاكمان في لقطة من فيلم "ذكريات" 


تشكّل حدوتة الفيلم، أو لنقل فكرته الآتية من خانة الخيال العلمي، بحسب تصنيف الفيلم في دور السينما، وأدبيات النقّاد، سحر الجاذبية الاستهلاليّ فيه، إلى أن يتبيّن لاحقًا أنه عامل الجذب الأهم، مع انجراف الشريط في عدد غير قليل من دقائقه نحو ساحة أفلام الحركة (الأكشن). تقوم فكرته على وجود جهاز إلكتروني استثنائي وضخم داخل عيادة نيك، وما يقوم به هذا الجهاز بعد ربط الإنسان به من خلال كوابل ومجسّات، وما إلى ذلك، هو تجسيد أحداث بعينها يصبو المراجع إلى استرجاعها مجسدة صوتًا وصورة، أو لنقل إن الجهاز يقوم بإدخال المراجع لعيادة (المحقق الذهني أو العقلي) داخل تلك اللحظات المنشودة، حيث قرب حوض الماء الموضوع فيه الشخص الراغب بهذا التحايل على الواقع، ثمة منصة (هاجس المسرح) دائرية (هاجس الرقص)، محاطة بستائر شفافة شاعرية (هاجس الحكايات البعيدة والطفولة الهاربة وقصص الجدات). داخل هذه المنصة الدائرية، ترينا المخرجة الأحداث التي تجري في عقل المُمدد في حوض الماء (لعلّ المقصود من حوض الماء تبرير آلية التوصيل الكهربائي بين الجهاز والكائن المُمدد والمنصة في الجوار). وبالتالي يروي فيلم Reminiscence قصة المحارب السابق نيك بانيستر، الذي أصبح بوصفه من المحاربين القدامى الذين تركت الحرب الخيالية ندوبها على أرواحهم قبل أجسادهم، محققًا خاصًا للعقل، أو في مجال وظائف العقل الخاصة بالذاكرة والنشاط الاستحضاري. جلسات الاستحضار هذه تتيح لنيك التنقل في عوالم وذكريات مجموعة متنوّعة وغريبة في الوقت نفسه من مراجعي عيادته: الراغب بقضاء وقت مع كلبه الذي غادر المدينة بعد أن ضاعت منها الأرض اليابسة، وما تبقى من تلك اليابسة استولى عليه المتنفذون إما بالمال أو بسطوة السلطة وتواطؤ الفساد معهم (تواطؤ أركان الفساد أقصد). أو الراغبة بالعودة إلى ماضي جسدها التليد عندما كانت مرغوبة، وعندما كانت مغرية وجذابة، أو الحالم بعودة أصدقاء رحلوا، أو المشتاقة إلى رضيعها الذي مات.




حول طبيعة عمله، يقول نيك: "الحرف المرتبط بالفعل الماضي لا يستطيع العودة من هناك، إلا أن الزمن لم يعد يتحرك في اتجاه واحد، الذاكرة هي القارب الذي يبحر عكس التيار، وأنا المجذاف"، ومع عبارته الأخيرة "أنا المجذاف" يوصل قاطع الكهرباء، وتبدأ رحلة هانك (أحد مراجعيه الذي لا يدفع عادة كونه رفيق سلاح نيك في الحرب التي لم تقع إلا في خيال جوي مخرجة وكاتبة)، مع كلبته آنجي، الطريف أن لحظات هانك مع آنجي تتحقق وهو بكامل قدميه، فالساق المبتورة بعد الحرب إياها لا تعود كذلك خلال رحلة التذكار. هو، إذن، لا يشتاق لكلبته فقط، ولكنه يشتاق إلى نفسه معافى كاملًا لم تأخذ منه الحرب شيئًا، ولم تنل لا من جسده ولا من روحه، ولا من خصوصياته وعالمه البسيط المفقود، كأن لا يحرم من كلب قضى معه عمرًا.
بقي حال نيك على هذا المنوال، إلى أن دخلت المرأة التي غيّرت مصائره، وعبثت بمختلف تفاصيل حياته. جاء دخولها الأول بذريعة أنها فقدت مفاتيحها، وتريد أن يعيدها نيك وجهازه العجيب إلى تفاصيل يومها السابق، ليرى نيك، وترى مساعدته إميلي واتس وصديقته الوحيدة في زمن عزلته المريع بعد الحرب (إياها)، أين أضاعت المرأة المفاتيح.
تؤدي ثاندي نيوتن دور "إميلي"، بينما تؤدي الممثلة ريبيكا فيرغسون دور "ماي" المرأة التي جعلت للفيلم قصة، وربما معنى.



الانتصار للحب

لقطة من "ذكريات" 


القيمة الأعلى للفيلم، علاوة على بعض وجوه النقد اللاذع لمجتمعات ما بعد الرأسمالية، وإضافة إلى نقده الحرب، أي حرب، وقعت أم لم تقع، وإضافة لجمالياته البصرية وأجوائه المثقّفة شعرًا وفلسفة وغناء كلاسيكيًّا ناعمًا، هو انتصاره النهائي للحب. فعندما تبيّن أن ماي تخفي وراء وجهها الجميل وملامحها الحزينة قصة، لا بل قصصًا: مخدرات ودعارة، وتصيّد أثرياء، يظل نيك مصرًّا أن حبًّا ما، لا بل حبًّا جارفًا، انفجر بينهما منذ لحظة دخولها العيادة، هو وإميلي، في طريقهما لمغادرتها مع انتهاء يوم عمل. وبعد أن طلب نيك الإذن من مساعدته، منحها استثناء إدخالها حوض الذاكرة، رغم انتهاء ساعات العمل. راهن على الحب، وواجه جراء رهانه هذا المصاعب، وذاق الويلات، واقترب غير مرّة من الموت، ودخل بعنف قاسٍ أتون الشك، وعضته مخالبه، لكنه لم يتراجع قيد أنملة عن إيمانه أن ما بينه وبين ماي ليس مجرد اندفاعة شهوانية. ماي التي أصبح بالكاد يعرفها بعد قضائه معها أربعة شهور من عمره (قامت بعد زيارة ماي الأولى للعيادة علاقة جارفة بين نيك وماي انتهت باستيقاظه يومًا فإذا بها اختفت فجأة كما دخلت حياته فجأة، ليبدأ مشوار مطاردة شبح وجودها الذي قلب حياته رأسًا على عقب).



مجرّد ذكريات
يقول نيك في واحد من مونولوغات الفيلم: "عندما ترتفع المياه، وتشن الحروب، لا يعود هناك ما ترقبه أو تنتظره، لذا يبدأ الناس النظر إلى الخلف، الخزان (حوض الماء) يصبح أداة استجواب، ومنذ ذلك الحين، يصبح الحنين أسلوب حياة، لكن بالنسبة لي أنا وواتس (إميلي) هو الحياة". هي، إذن، بالنسبة للحقيقة المرّة مجرّد ذكريات، أو لنقل، محاولة يائسة لجلب مشهديات أكل عليها الزمن وشرب. ثمة تواطؤ واضح بين (المريض) الذي يهرول باتجاه عيادة نيك يريد أن يصدق فكرة مجنونة مفادها أن الماضي، أن جزءًا منه على الأقل، يمكن استدعاؤه من جديد، وبين أصحاب العيادة (غرفة التحقيق) الذين يعتاشون ويحصلون على قوت يومهم جراء هذه الحيلة المتبادلة.




في مطرح آخر من مطارح الفيلم الغني بمادته البصرية، الحيوي بسبب هذه الجرعة من (الأكشن) التي دسّتها جوي في عروقه، يقول نيك: "الذكريات مثل العطر... أفضل في جرعات صغيرة"، وواقع الحال أن أقوى أنواع العطور وأغلاها ثمنًا لا بد أن يختفي عبقها خلال ساعات قليلة من نثرها حولنا، ويبدو أن الأمر نفسه ينطبق على الذكريات، إلا إن تمكنّا من إلقاء القبض عليها، وإعادتها مخفورة إلى غرف أدمغتنا وضلوع أرواحنا.
من الطريف، إلى ذلك، إيراد الجمل التي يرددها نيك في كل مرّة يشرع فيها أخذ (زبون) إلى حيث يود أن يمضي: "أنت ذاهب في رحلة، رحلة عبر الذاكرة، وجهتك مكان وزمان كنتَ فيه من قبل، كل ما عليك فعله للوصول إليه، اتباع صوتي". يقول نيك: "حتى الذكريات الجيدة لها شهية نهمة، إن لم تكن حذرًا فسوف تستهلكك".



تقاطعات

ملصق فيلم "ذكريات" 


رغم تقاطع فكرة فيلم Reminiscence مع عدد من الأفلام القريبة في فكرتها منه: Total Recall، الذي قد تصح ترجمته العربية إلى "إجمالي التذكّر"، أو Minority Report، الذي قد تصح ترجمته إلى "تقرير الأقلية"، أو غيرهما، إلا أن ظهور جوي الأول في فيلم روائي طويل، حمل خصوصية لافتة لجهة توظيفها فكرتها، وانتصارها لجماليات النثر، رغم فتنة البعد البصري في فن السينما، وفتنة النص المكتوب، والتسلسل الذي استطاعت من خلاله إقناع أفق التلقي بجدوى الحب، لتتجلى قفلة الفيلم بوصفها القصيدة الأجمل، ولكنه الجمال البصريّ هذه المرّة وليس الإنشائي لجمل رنّانة، عندما يواصل نيك البقاء في الحوض الذي لطالما أجلس الناس فيه، يستعيد هناك لحظاته الأجمل مع ماي. فالمفارقة الموجعة في الفيلم أن نيك تيقّن من حبها في اللحظة نفسها التي ماتت فيها تأكيدًا على هذا الحب ودفاعًا عنه، وعليه لا يجد من وسيلة لإنقاذ هذا الحب واستعادة ماي إلا البقاء في حوض الذاكرة اللحوحة الرافضة للواقع.
من المشاهد اللافتة في الفيلم تأدية ريبيكا فيرجسون المقنعة والناعمة لأغنية Where or When لنجمة الغناء الكلاسيكيّ الأميركية لورين باكال (1924 ـ 1997)، إذ، ومع كلمات الأغنية المتقاطعة مع فكرة الحنين إلى الماضي، تأسر ريبيكا في دور ماي ليس قلب نيك فقط، بل قلوب المستمعين أجمعين، على الأقل عشاق الرومانسية منهم.
عموم أداء الممثلين في الفيلم كان جيّدًا، ويسجّل للنجم هيو جاكمان/ Hugh Jackman (أسترالي المولد والنشأة) قبوله دورًا في فيلم روائيٍّ أوّل لمخرجته، ما شكّل دعمًا مهمًّا لجوي، استحق أن تشكره عليه.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.