}

سينما المِحرقة: أفلام مثقلة بالأجندات!

محمد جميل خضر محمد جميل خضر 2 مارس 2024
سينما سينما المِحرقة: أفلام مثقلة بالأجندات!
ضابط المحرقة وهو يتأمل بيته ومعسكره

بِقليلٍ من التأمّل، يمكن لمتابع سينما الغرب الاستعماريّ أن يلتقط، بِيُسْرٍ رشيد، الحجمَ المهولَ من الأجندات داخل متنِ أفلامها.
أجندات تتحرّك، في كثيرٍ من الأحيان، متفاعلة مع أحداث ميدانية، محاولة، ما استطاعت إلى ذلك سبيلًا، التأثير بِوجهات تلك الأحداث، وقيمتِها، ومدْلولاتها، ومفاعيلها الجماهيرية، ومراقبةً شكلَ وحجمَ تفاعل الرأي العام العالميّ مع تلك الأحداث والمتغيّرات فوق أرض الكوكب.
كيف لا ترتهن كثيرٌ من مخرجات الفن السينمائيّ الغربيّ لأجندات بِعينها، في ظل هيمنةِ (لوبيّات) صهيونيةٍ على كبريات شركات الإنتاج السينمائي في الولايات المتحدة الأميركية وبريطانيا، وربّما ألمانيا، وغيرِها؟
بعد الطوفان؛ الحدث الميدانيّ الوجوديّ المُزلزل والأكثر مفصلية منذ ثمانية عقود ماضية، صارت رائحة الأجندات الساكنة سرديّة أفلام تترى، أكثر وضوحًا وحدّة. أفلام تعجّ بغاز المحرقة، تنزّ بشبهةِ اللا/ براءة الأخلاقية، (بوصفِ الأخلاقِ أُسَّ علم الجمال).
أمّا وجهة الأجندات هذه المرّة، فَلِجهة تذكير الناس بالمحرقة في الوقت الذي استشعرت تلك اللوبيّات تراجع أثرها العالميّ (تلك المحرقة ما غيْرها) بعد ما ارتكبه ويرتكبه جيش العدوان الصهيونيّ من جرائم وإبادة جماعية في قطاع غزّة، وما ترتكبه قطعان المسْتوطنين وَمعها شرطة الاحتلال وَعصابات القتل الليليّ في مدن الضفّة الغربيّة. حتى أن بعض نشطاء الغرب أعلنها صراحة (ملَلْنا من مواصلة استثْماركم لِلمحرقة... اكتفيْنا من عقابكم لنا عبْرها... حفِظنا تفاصيلها عن ظهر قلب، فهل لديكم بِضاعة جديدة، وإلّا فاتركوا ضحايا المحرقة ينامون في هدوء، فقد أقلقْتُم مضاجع رقودِهم الأخير بِما يكْفي ويوفّي ويزيد). نعم هذا لِسان حال معظم الأجيال الأوروبية الصاعدة. كان لا بد، إذًا، من تناول زوايا جديدة، وَدائمًا حول مداخلِ تناولِ المِحرقة، وكان لا بدّ من ضخّ أفلام أكثر إقناعًا، وأعلى كلفةَ إنتاجٍ، وأبْلغ أثرًا بصريًّا، وأقْنع دلالةً معنويّة.
في هذه العُجالة، سأتناول وقوع ثلاثة أفلام أُتيحت لي مشاهدتها في الأيام القليلة الماضية، داخل شِركَ الأجنداتيّة المَقيتة، وتمثّلها العناوينِ أعلاه المتعلّقة باستعادة المحرقة من زوايا جديدة، مؤمّلةً جهاتُ إنتاجِها أن تعطّل عبْرَ تلك الأفلام، وربّما كثيرٌ غيْرها على الطريق، بعض آثار الطوفان، ويستعيد مَن يحتلّون فلسطين بعض بريقِ أثرهم، ومفاعيلِ تلاعبهم بالرأي العام العالمي، من دون أن يعني تناولي لها عدم إقراري بكثيرٍ من جماليات السينما، وتوهّجات الكاميرا، التي شعّت في اثنين منها على الأقل.

"منطقة الاهتمام": الباحة الخلفية للمحرقة
من زاوية غير مسبوقة، لعلّها، يلجُ الإنكليزي جوناثان غليزر في شريطه الجديد تأليفًا وإخراجًا "منطقة الاهتمام/ The Zone of Interest (2024)" عالم المحرقة/ Holocaust.
فخلال دقائق الفيلم البالغة (108) دقائق، يُبقينا غليزر مشْدودين نفسيًا ووجدانيًا حول ما يجري في معسكر اعتقال أوشفيتز، من دون أن نرى ما يحدث هناك رأي العين. أمّا الزاوية التي اختارها، فهي منزل الضابط الألماني المسؤول عن المعسكر، المكلف بتنفيذ عمليات الإعدام فيه، حيث المعسكر يشكّل الباحة الخلفية للبيت، أو إن شئتم، البيت يقيم في الباحة الخلفية للمعسكر. وكلاهما؛ البيت الريفي الجميل والمعسكر البشع، يرتبطان بسورٍ مشترك، جدار واحد لعالميْن متناقضيْن تمامًا؛ فالمشهد المرئي بالنسبة لنا هو عائلة ضابط الموت، زوجته وأولاده، ولاحقًا والدة زوجته، حولهما مسطّحات البيت الخضراء، وزهور الحديقة التي أبدعت زوجته في تنسيقها وإنْعاش أريجِها، إضافة لِباقي نباتات الأرض المحيطة بالبيت، ونباتات البيت الزجاجي (Greenhouse) الموجود في قلب هذه الأرض، وبركة السباحة، وكل هناءات بيتٍ وأسرةٍ يمكن أن يتخيلها ويراها المشاهد لهذه التفاصيل: جلسات طاولة السفرة، خادمات البيت المثابرات، أطايب الطعام، الرحلات الترفيهية الهادئة الوادعة، حنوّ ضابط الموت على صغيراته، خصوصًا تلك التي تسير وهي نائمة، وهنا بيت القصيد: لماذا تسير وهي نائمة؟ لأن الواقع يختلف عن الصورة المشرقة التي يعرضها علينا الشريط ومشهدياته، فمع كل تلك الهناءةِ المفترضة، فإن أصوات رصاص الإعدام، ونباح كلاب المعسكر، وأنين استغاثات الضحايا لا يتوقف، ناهيكم عن تلبّد الغيم الطالع من جهة المعسكر بلونٍ أسود كئيب.




هذه الأصوات التي لا تتوقّف طيلة دقائق الفيلم، تحيل الأمر برمّته إلى المتخيّل في وجدان المتلقي حول ما قرأه، أو سمعه، أو تناهى إليه من قصص المحرقة وأهوالِها. تشاهد ثبات كاميرا جوناثان غليزر؛ ثباتها العنيد، عدم ارتجافها، دقّة زواياها ورؤاها، ثم تتذكّر أن المشهدية هذه جميعها ما هي سوى الباحة الخلفية لِمحرقةٍ مروّعة، لأسوأ ما تمخّضت عنه العقليّة النازيّة، قد تستعيد مشاهد لتلك المحرقة شاهدتها في فيلم وثائقيّ، أو روائيّ، فتتعجّب مِن، ثمّ تُعجب بالمقترح السينمائيّ الجماليّ الذي اختاره مخرج الفيلم، الذي هو، في الوقت نفسه، كاتب السيناريو الخاص به.
إلى هنا فنحن نتحدث عن فيلمٍ نال رضى النقّاد، مرشّح لخمس جوائز، على الأقل، من جوائز أوسكار هذا العام (بيننا وبينها أيام معدودات)، فيلم مُجيد رغم بعض إطالة، وتكرار لعبته العضويّة الخالية من الأحداث والقصص والعُقد الدرامية، ولعل التكرار شأنه شأن كاميرا الفيلم، عنيدٌ يواصل إصراره على إسماعك تدفّق أصوات الموت المرعبة، وفي الوقت نفسه يواصل إطلاعك على الهدوء (المُمِل) على الطرف الآخر من السّور، فأي تناقضية جدلية يقترحها، ويريدنا أن نستوعب دلالاتها؟ من دون أدنى شك أنها جدليّة تفعل فعلها في وعي التلقّي، وتصيب بدقّة العصب المُستهدف داخل مجسّات إنسانيّتنا، لولا أن تلك الإنسانيّة نفسها، تُلَمْلِم معانيها من جديد، وتتذكّر، بالنسبة لي على الأقل، أن ما شاهدناه في الفيلم هو نصف الحقيقة، وأمّا نصفها الثاني فهو ما يجري الآن بِلا هوادة فوق أرض فلسطين، كل ما علينا فعله فقط، هو إزالة الجدار الوهميّ الذي يُحاول الفيلم تشييده بيننا وَبين ما يجري في غزّة وفي كل فلسطين، حيث الإبادة الجماعية في غزّة، وَالاعتداءات وَالاقتحامات وَالاعتقالات اليوميّة في الضفة، وَتَكْميم الأفواه في فلسطين الداخل (مدن فلسطين المحتلّة في عام 1948). وفقَ هذه الآلية من آليات التلقّي المُنتَبِه، تسقط سرديّة الفيلم، وَتنْكِشف أجنداتِه. ثم، ولكي يريح ضمائرنا حول ما اتّهمناه به من وقوعٍ في فخّ الأجندات، فإذا بمخرجهِ يقرّر في المشهد الأخير أن يعيدنا إلى متحف المحرقة في الزّمن القائم الآن، وليس في زمن وقوعِها، بمباشرةٍ فاقعةٍ حيث غُرف الغاز وأحذية المعدومين المعروضة خلف واجهة زجاجية كبرى، وملابس الموت المخطّطة معروضةً في واجهةٍ أخرى، وحيث القائمات على المتحف ينظّفن الأرضيّات بِمكانس كهربائيّة، ويلمعنَ الواجهات الزجاجية بِفُوَطٍ ومواد تنظيف! لِيرتاح ضميري: نعم إنّه فيلمٌ أجنداتيٌّ بامْتياز يسعى لِإعادةِ تلميع المحرقة، بدل الدعوة إلى عدم تكرارها في كل الأزمان وكل الأمكنة وبحقِّ كلّ قوميّات العالم وشعوبهِ وتنوّعاته.



"حياة واحدة": التعاطف بالقوّة
يختار فيلم "حياة واحدة"/ One Life  المُقتبس عن كتاب باربارا وينتون "إذا لم يكن مستحيلًا.. حياة السير نيكولاس وينتون"، من إخراج الإنكليزي جيمس هاوِيس، زاوية مختلفة عن زواية التناول في فيلم "منطقة الاهتمام". وهو يعيد إنتاج قصة حقيقية بطلها وسيط مالي إنكليزي هو السير (حمل لقب سير بعد فعلته البطولية) نيكولاس وينتون ويُعرف إنكليزيًا باسم (نيكي). وأمّا القصة فتتعلق بإنقاذ نيكي بين عاميّ 1938 و1939، لِزهاء 669 طفلًا تشيكيًّا معظمهم من اليهود، في الوقت الذي كانت فيه نُذُر اجتياح تشيكوسلوفاكيا وعموم شرق أوروبا من الرايخ الثالث تطلّ بوجهها المرعب. لم يستطع (الإنكليزي الشّهم) الجلوس مكتوف اليدين فيما صفّارات الحرب تكاد تندلع في كل أركان القارة العجوز. قرّر التوجّه من فورِهِ إلى البلد الأوروبيّ الشرقيّ، حيث مفوضية اللاجئين البريطانيّة تعمل هناك، كانوا يتحضّرون لِإخراج السياسيين التشيك، حين رأى نيكي مشاهد بؤس الأطفال في الخيام، فقرّر تغيير وجهة الإنقاذ، متحملًا كل أعباء هذه المهمة المالية واللوجستية ومتحديًا مخاطرها. جَمَعَ الأموال، وثّق أسماء الأطفال، صوّرهم، انتزع موافقات أصحاب القرار في المملكة المتحدة، ومن ثم بدأت عملية الترحيل والتبنّي على قدم وساقيْن.
الفيلم استرجاعي يبدأ بعد 50 عامًا من قصة إنقاذ الأطفال، حين ظلّ العجوز نيكي (أدى دوره بِاقتدار كعادتِهِ الإنكليزيّ المُخضرم أنْتوني هوبكِنز) مسكونًا بالماضي، وبذنب عدم تمكّنه من إنقاذ الدفعة الأخيرة وعددها 250 طفلة وطفلًا، التي ركِبت القطار الأخير، الذي كاد ينطلق في اللحظة التي وصل بها الاحتلال النازيّ إلى المحطة، فاعتقل المتطوّعات والمتطوّعين الذين كانوا يساعدون نيكي، وغيّر وجهةَ القطار. يكاد فضول معرفة مصيرهم يقتله؛ هل أُخذوا جميعهم للمحرقة (المحرقة مرّة أخرى)؟ هل نجا بعضهم؟




أكذب إن قلت إنني لم أبكِ عند وصول الفيلم (110 دقائق) لِمشهده الأخير (سأترك بعض التفاصيل خصوصًا المؤثّرة لمن يرغب مشاهدة الفيلم). أكذب إن قلت إن الفيلم لا يحمل رسالة إنسانية مشعّة الدّلالات؟ أكذب إن قلت إن المشترك الإنسانيّ ليس واحدًا ماجدًا ضابطًا لإيقاع القيم، فأين المشكلة إذًا؟ المشكلة في أنهم (هُم) لا يرون هذا المشترك واحدًا، طبعًا أستثني كل حُرٍّ وحُرّة وكل من خرجوا ليقولوا لا لِازدواجية المعايير، نعم لِواحديّة القيم، وكلَّ من تحرّكوا مطالبين بالحرية لِفلسطين، على امتداد بلدان أوروبا، ومعها ولايات أميركية كثيرة، وكندا، وأستراليا، ونيوزيلندا.
ينتزع الفيلم تعاطفنا بقوّة، يبحث عن دمعتنا الأخيرة، فالدمع كلّه ذرفناه ونحن نشاهد مقتلة الأطفال الغزّيين التي جرحت وجهَ الإنسانية، وَأصابت قيم الكوكب في مقتل.

"آينشتاين والقُنبلة": عُقدة الذّنب
في الفيلم الثالث "آينشتاين والقنبلة/ Einstein and the Bomb" الدائر في فلكِ الحرب العالمية الثانية وَمحرقتها، وما انتهت إليه من صناعة أميركا للقنبلة الذرية، ثم إلقاء اثنتيْن منها على مدينتيْن يابانيّتيْن: هيروشيما (ألقيت عليها قنبلة الولد الصغير)، وناغازاكي (ألقيت عليها قنبلة الرجل البدين)- (لاحظوا الفوقيّة الأميركية حتى في اختيار أسماء قنابل ذريّة نوويّة)، فإنّ الأجندات تأتي من غير مطْرح؛ من كون عالم الفيزياء آينشتاين (اليهوديّ) مشعًّا بأخلاقيات إنسانيّة حول السلام وَضرورة قيام علاقات البشر على المحبة وَالوداعة، وما إلى ذلك. إنه (العبقريّ المعذّب) الذي ظلّ مسكونًا بِعقدة الذنب. أمّا التوجيه الأجنداتيّ الثاني في الفيلم، فهو في كيف عامل النازيّون اليهودَ، وصولًا إلى المحرقة. في إطار متداخلٍ بين الوثائقيّ والدراميّ يوصل الفيلم في (76 دقيقة) عرض رسائله، وهي رسائل يرى مخرج الفيلم الإنكليزي أنتوني فيليبسون (لاحظوا أن الأفلام الثلاثة التي تناولناها مخرجوها إنكليز!)، أنها لا تحتاج إلى كثيرٍ من فنون السينما وجمالياتها، فالأداء التمثيلي الخاص بالشق الدراميّ من الفيلم ليس متقنًا، والتناوب بين الدرامي والوثائقيّ ليس مدروسًا. والفيلم، على وجه العموم، يركّز على النّبذ العنيف الذي تعرّض له آينشتاين في بلده، أكثر بكثيرٍ من تركيزه على ما أحدثته القُنبلتانِ من شرخٍ في جوهر معنى وجود أبناء الكوكب المطحون بالأجندات، وما تسبّبتا به من جروحٍ عميقةٍ غائرةٍ لا تنتهي بالتّقادم.
في الأفلام الثلاثة عودة سينمائية غير حميدة لزمنٍ يُفترض أن أوروبا رَمته خلف ظهرها، وأنَّ شعوبها تتطلع قدمًا نحو الأمام، ونحوَ التخلّص من اللوبيّات، ومِن هيمنة أميركا على قرارات أنظمتِها. أفلام مثقلة بالأجندات، تفرض علينا تحديًا وجوديًا، وسؤالًا تأسيسيًا: هل يفهم مخرجونا وصنّاع أفلامنا الرسالة، فَينتجوا ما يحمل أجنداتِنا، ويعزّز سرديّتنا ويدافعُ عن حقوقِنا؟
أمّا سؤالي لهم، فهو: أمَا آنَ لأفلامِ محرقتِكم، بوصفها حصانَ رهانِكم، أن تترجّل؟

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.