}

محسن الرحاوي.. ابن المنجم يصوّر أوديسا المنجميين في جرادة

فريد الزاهي 15 أكتوبر 2022
تشكيل محسن الرحاوي.. ابن المنجم يصوّر أوديسا المنجميين في جرادة
وجبة خفيفة (محسن الرحاوي)
محسن الرحاوي 


صادفته في أروقة مدرسة الفنون الجميلة في تطوان مهرولًا بقامته الفارعة، ووجهه المحمر، وسحنته مضمّخة بالسواد، وعلى ثيابه آثار الفحم. كان محسن الرحاوي يعدّ حينذاك مشروعه للتخرج من المدرسة. تحدثنا سريعًا، وأطلعني بعد ذلك على بعض أعماله. ثم، وقتًا بعد ذلك، طلب مني أن أكتب له نصًا بالفرنسية يعزّز به طلبه لمنحة فنية. فجّر في ذلك النص ذكرى رجل أحببته في صباي. كان الرجل الشرقي الوسيم والأنيق زوج خالتي، يحضر من شمال فرنسا كل صيف، ليملأ داره الكبيرة في المدينة القديمة بفاس بمرحه وتعامله المغاير معنا نحن الصبيان. يحادثني بالفرنسية، فأجيبه بما ملك لساني من جمل أختارها بعناية، فيربت على كتفي برضى، ويمنحني خلسة قطعة نقود كبيرة تنير يومي بالسعادة. لم يحدثنا يومًا عن عمله. كنت أسمع فقط من بناته أنه يشتغل في مناجم الفحم في شمال فرنسا. ومع مرور الوقت، بدأت أسمع بمرضه القاتل، وهو لا يزال لم يصل بعد الستين. عاد الرجل أخيرًا ليستقر في بيته، ويعالج مرض الصدر الذي أحدثته المواد السامة التي امتلأ بها... حتى جاءني يومًا خبر وفاته.


استعادة المصير الأسود

المنجميون (محسن الرحاوي) 


كانت هذه الحكاية مدخلًا للكتابة عن محسن الرحاوي، ابن عامل مناجم الفحم الحجري في جرادة. وللتفاعل الحميم مع عالمه، هو ابن المناجم التي ظلت تزود البلاد بالفحم لمدة ثمانين عامًا. مناجم جرادة في الجنوب الشرقي للمغرب انطلقت في بدايات الاستعمار، أي في نهاية العقد الثاني، وأغلقت في نهاية التسعينيات. اكتشفها أحد المهندسين البلجيكيين حين أبصر بها أرنبًا أبيض اسودت فروته بالفحم. حفرت بعدها المناجم وتوالت في العمل فيها أجيال كاملة أبًا عن جد. وتشكلت حول المناجم مدينة بالاسم نفسه صار يقطنها أكثر من ستين ألف نسمة. وبعد الإغلاق، غادر كثيرون المنطقة، ولم يبق هناك غير سكان فقراء يعتاشون من استخراج الفحم الحجري بطريقة غير شرعية لا تكفيهم لسد الرمق. وبالرغم من المساعدات التي منحتها الدولة للمتضررين من الإغلاق، إلا أنها لم تكن كافية لتوازنهم المعيشي. فكانت ثورة المناجم على الوضعية، منذ بضع سنوات قليلة.
يختار محسن الرحاوي استعادة هذه المأساة الإنسانية التي يعيشها أناس "مناجم الموت"، منذ تلك الفترة، وفي معارض عديدة، ليجسد بالرسم والتشكيل والمنشأة والمنجزة الفنية، الحياة التي عاشها، هو "ابن المنجم" الذي نما في أحضان رجاله وهم يقبرون أنفسهم يوميًا في مغاور الأرض، يستنشقون رغمًا عنهم كل الأبخرة السامة التي تطلقها المادة السوداء، ويخرجون منها وكأنهم قطعة من الفحم.



لا يكتفي محسن الرحاوي فحسب باستعادة وهج الذاكرة، ولحظات الخوف، أو الانتظار، ولا فقط برسم أفق الموت المحيق بالرجال، إنه يقدم مسحًا أنثربولوجيًا فنيًا، ليجعل من الُمشاهد شاهدًا عارفًا بكل شيء، حتى تلك الأدوات المستعملة التي يرسمها للتوضيح. هذه النظرة تحول المعرض إلى رواية بصرية تحكي وتصف وتوضح، تنتقل من لحظات العمل إلى لحظات العطالة والملل. لهذا ثمة في المعرض مستويان متراكبان: في أعماق الأرض ورحمها، حيث يغدو العمال أجنّة تسبح في أوردة الأرض، وفوقها حيث يعيش العمال لحظات المتعة الجماعية التي يبددونها في لعبة الورق.


الأعماق البهيمة الفحمية

اليد القوية 


بيد أن ذاكرة المنجم لا تشتغل فقط بطريقة واحدة، ولا تستدعي تعبيرًا "تشكيليًا" واحدًا؛ وكأن كل مستوى يشتغل في تصور الفنان الشاب على هواه. فأعماق الأرض تتشح بالسواد الكالح، وتنحو في العمل التشكيلي إلى السواد، إذ إن الأجساد تلتحم بسواد الأرض، وتغدو جزءًا لا يتجزّأ منها. هذا هو ما يمنح الفنان مادته الخام التي بها يشكل عالمه الجوفي. إنه يحول الفحم إلى مسحوق ويشتغل به في صياغة عمق اللوحة، وفي منحها سوادها الفحيم. وهو بهذا الاشتغال يعيش تجربة العمال مع هذه المادة ليخاطر (مؤقتًا) بنقاوة صدره من أجل تجسيد صوره التي اختزنها عن أبيه، والتي جربها بارتياده لسراديب المناجم وأقبائها. تتشكل مادة اللوحات، إذًا، من مادة موضوعها، لتجسد برمزية تصورية باهرة كافة المدلولات المبتغاة، وتساهم في جعل المشاهد يعيش تجربة المنجم وكأنها تجربة واقعية وميتافيزيقية "لا غبار عليها".




هنا أيضًا يشتغل الفنان بشكل إقلالي minimalist وكنائي في الآن نفسه، لاعبًا أحيانًا على الحرفية، "ليفجر" فيها مجازيتها والتباسها الدلالي. فكلمة "mine" (منجم)، في اللغة الفرنسية، تعني أيضًا: اللغم، والقنبلة، أو المتفجرات. لهذا يرسم الفنان ما يشبه قبضات الديناميت على جدار داخلي للمنجم. بيد أن أعواد الديناميت ليست سوى شموع، وكأنه بذلك يحول العنف الناري المفجر إلى لحظات نور ممكنة. هذا التأويل يعكس الدلالات من الداخل ويفجر عنفها الواقع نحو ممكنات نورانية للحلم. وهكذا أيضًا يتحول المنجم القاتل إلى رحم منفتح على الحياة والحلم كما على الموت.
في هذا المستوى الباطن، أيضًا، ثمة لحظات الأكل والاستراحة، التي يجسدها الفنان في مُنشأة/ لوحة تمثل بشكل ساخر (سخرية سوداء) أواني الأكل والطبخ وهي تنغلق على قطع من الفحم الحجري تنتظم بشكل متوازن في اللوحة على أرضية يتمازج في لون مسحوق الفحم مع لون التربة الغمراء. وتشكل هاتان اللوحتان ثنائيًا يواجه بين العمل والراحة في موطن منغلق تحضر فيه الأشياء وتغيب فيها الكائنات. إن هذا الغياب للمنجميين يمنح للعمل الفني قوة مزدوجة: فهو يركز على المدلولات بشكل موارب، ويستحضر الغائب من خلال ما يتصل به، وهو من ناحية ثانية يؤشر للموت المزدوج: فالعامل محكوم عليه بالموت في رحم الأرض باعتباره غائبًا عما يمكّن طبيعيًا من وجوده، وحتى التعرف عليه (غياب الملامح تحت غبار الفحم)، وباعتباره كائنًا محكومًا عليه بالموت نظرًا للأمراض التي تقتلعه من الحياة بشكل مبكر بسبب ما يفرزه الفحم من مواد سامة خطيرة على صحته. وحين يحضر الإنسان فمرة أخرى بشكل مجازي كنائي من خلال منشأة الأيدي في جميع أوضاعها (مشدودة أو منبسطة) والمضمخة بسواد الفحم. فالأيدي هي الآلة العاملة في المنجم، وهي التي تلامس صخور الفحم وشذراته، كما أنها هي الأيدي نفسها التي تتناول الطعام... فحركتها تشكل بهذا المعنى حركية رمزية شاملة...
تفصح هذه اللوحات المتصلة بالحياة في أعماق الأرض عن منحى تجريدي تعبيري، يتجلى أيضًا في السلسلة التي تتراصف فيها الشموع الصغيرة البيضاء المستعملة، وكأنها تشكل خطوطًا أفقية تسعى لاكتساح المساحة الخلفية المسودة. وذلك عبارة عن إعادة تشكيل ذاتي وغنائي لأغوار المنجم. الشموع، سواء ببنيتها البيضاء الشفافة، أو بتكوينها المادي المرن، كما بما تنتجه من نور في العتمة المقابل المادي "الطبيعي" لهذه المادة التي تنتجها الأرض وتنتج الطاقة الحرارية بشكل آخر. إنه صراع بين مصدرين للنور، أحدهما خطير، والآخر طبيعي، أحدهما مطواع، والآخر ذو سلطة تطويعية قاهرة، أحدهما فردي، والآخر جماعي وبنيوي (إذ الفحم تستغله المؤسسات الصناعية). ثم إن الفنان يقوم بالدفع بهذه العلاقة التباينية إلى أقصاها، من خلال تذويب الشمع ليندمج بمسحوق الفحم ويشكلا مساحات لونية متماوجة يتشاكل فيها النور والعتمة، الشمع والفحم...
هذه الأعماق البهيمة تقودنا إلى المنشأة الهائلة التي تتشكل فيها رغائف الخبز الطويلة (baguettes) كعلامات نافرة في الفضاء، هائلة الحجم، شكلها الفنان من مادة الريزين ومسحوق الفحم. وفي انتصابها النافر ذاك تتبدى الخلفية المشكلة بآثار اليد السوداء متراكمة ومتراصة على الجدار خلفها. إنه الخبز الأسود. بل إنه المقابل الرمزي لآنية الأكل القصديرية، بحيث إن الأكل يغدو امتدادًا للفحم كما وجوه العمل وسحنتهم... وكأن الفنان يقول لنا: من الفحم يتشكلون وإليه يعودون...


من تزجية الوقت إلى سواد الأفق

شبح 


حين نخرج من تلك الأعماق البهيمة، التي تحول كل شيء إلى كيانات رمزية وكنائية، وإلى شذرات تتمثل في تلك اللوحة التي تتشكل كلية من قطع الفحم الحجري، بسوادها وبريقها، ينتقل الفنان (من دون مقدمات) إلى التعبير التشخيصي، ويحول شخصياته إلى كائنات آدمية برؤوس أرانب (بالتأكيد، إحالة إلى حكاية الأرنب واكتشاف الفحم في الثلاثينيات). إنها أرانب تجمع فوق الأرض كوم الفحم، أو تلعب لعبة الورق. وهكذا تحضر الكائنات مجسمة، لكنها من دون هوية تحمل رأس ذلك الأرنب الذي كان مصدر تعاستها وكدحها وموتها المبكر. بيد أن الألوان تغدو فاتحة، ومعها تمنح بسيطة الأرض لهم ألوانها في ظل النور الطبيعي.




لا يكتفي محسن الرحاوي بهذه اللعبة التي تنطلق من الباطن إلى الظاهر، من بطن الأرض إلى سطحها، إذ يجعلنا نحس أنه يقوم بعمل فني شامل، على غرار إميل زولا في رواية "جيرمينال"، التي يحكي فيها بتفاصيل باهرة حياة عمال مناجم الفحم. هذه المنظورية التي تتحول إلى نظرة أنثربولوجية فنية تكتمل بصنع خارطة عالم سوداء، لا قارات ولا تضاريس فيها، عالم يشبه يوم القيامة وقد احترقت فيه الأرض تمامًا. كما يغدو وجدًا شخصيًا حين يغلق عينيه ويقوم بمنجزة فنية (برفورمانس) يحمل فيها الفحم ليرسم به عالمًا من الخطوط المتداخلة، مبتكرًا كتابة بصرية تدعونا أكثر للتأويل. إنه الحنق النابع من الداخل، الذي يبلغ مداه الأقصى بعرض شريط مصوَّر يكشف لنا عن هذا الحنق الثائر النابض بالحسرة والغضب والهياج. تبدو لنا يدا امرأة تعجن الخبز بالطريقة المنزلية التقليدية، وهي تحكي عن زوجها وحياته في المنجم، وعن خوفها وقلقها على حياته...

متضامنون 


هنا موطن العلاقة الحميمة التي يختزنها الفنان في ذاكرته. إنه يحكي في الآن نفسه جزءًا من حياته وحياة أبيه، وحياة رفاقه، في منطقة كانت تعدهم بالرفاه قبل أن تتحول إلى جحيم ينتج الفقر والمرض والموت... وهو يحكيها بكافة ما أوتي من طرائق، بالصباغة، كما بالمنشأة الفنية داخل اللوحة، كما بالنحت والفيديو... من خلال تحويل الأسود إلى نور، وتحويل الألوان إلى عتمة...
هكذا يجسد الفنان الشاب بشكل باهر خصوبة الفن المعاصر وقدراته على استثمار البعد الأنثربولوجي والسياسي والتاريخي، بل والبيئي أيضًا، ليحول تجربته الذاتية إلى تجربة فنية عمومية، وإلى شهادة على واقع أسود. إنه يعيد إلى موطنه وهجه الثقافي في هذه الأوديسا المأساوية التي تشهد على خراب عالم الصناعة الحديث...

ملحوظة: من غريب الصدف أن المعرض الذي انطلق يوم 8 أكتوبر/ تشرين الأول الحالي يُقام في مبنى يسمى "معرض آليات المناجم" يعود إلى عهد الاستعمار، يحتضن غاليري يحمل الاسم نفسه، في قلب مدينة مراكش.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.