}

"تكوين 2" لموندريان في المزاد.. عن التجريد وجوهر الأشياء

سارة عابدين 13 نوفمبر 2022
تشكيل "تكوين 2" لموندريان في المزاد.. عن التجريد وجوهر الأشياء
"تكوين 2" في صالة سوثبي للمزادات في نيويورك(4/11/2022/فرانس برس)
لقرون طويلة حاول الرسامون الأوروبيون رسم لوحات ثلاثية الأبعاد في مساحات كبيرة، ما يخلق أوهامًا تحاكي الواقع. في المقابل، أراد بيت موندريان، وغيره من الفنانين الحداثيين، نقل الرسم إلى ما وراء التصوير الطبيعي، للتركيز بدلًا من ذلك على الخصائص المادية للطلاء، وقدرته الفريدة على التعبير عن الأفكار تجريديًا، باستخدام الخط واللون والتكوين. بحلول عام 1930، كان موندريان قد صقل أسلوبه الخاص في باريس خلال عشرينيات القرن الماضي، ونتيجة لذلك أنتج واحدًا من أهم وأشهر أعماله، بعنوان "تكوين 2"، وهو لوحة مكونة من الألوان الأساسية؛ الأحمر والأزرق والأصفر، بالإضافة إلى اللونين الأبيض والأسود. وستعرض هذه اللوحة للبيع في قاعة مزادات سوثبي للفن الحديث بداية من 14 نوفمبر/ تشرين الثاني الحالي.

في المرة الأخيرة التي عرضت اللوحة فيها للبيع، تم بيعها بمبلغ 2.2 مليون دولار، وكانت أغلى لوحة في الفن على الإطلاق. بعد مرور ما يقرب من 40 عامًا، ستعود تلك القطعة الفنية الفريدة إلى قاعة سوثبي مرة أخرى، ولكن المتوقع أن تباع بأكثر من 50 مليون دولار.
يقول أوليفر باركر، رئيس مجلس إدارة سوثبي، إن هذه اللوحة تستحق هذا التقدير الكبير، لأنها تحفة فنية لا يمكن إنكار أهميتها في تاريخ الفن، كما أنها تحمل السمات المميزة لنهج موندريان الرائد في التكوين واللون والخطوط. وحتى الآن، تبقى لوحة حيوية بالرغم من مرور ما يقرب من مئة عام على رسمها.
أبعاد اللوحة (46 × 46) سنتيمترًا، وتعد رؤيتها في الواقع مفاجأة كبيرة، حيث أنها لوحة صغيرة بألوان بسيطة وتتكون من خطوط أفقية ورأسية من دون أي شيء آخر، وهي تجسيد لأسلوب موندريان الخاص الذي سماه "Neo-Plasticism"، أو الفن التشكيلي الجديد، حيث حاول من خلال الرسم تقديم لغة تصويرية جديدة تمثل القوى الديناميكية والتطورية التي تحكم الطبيعة والتجربة البشرية. واعتقد موندريان أن التجريد يقدم جوهر الأشياء بدلًا من الصور المزخرفة الوهمية في العالم الواقعي المرئي.


التجريد والتقدّم البشري

بيت موندريان.. أوتو بورتريه (1918/ Getty) 


كانت لوحات موندريان الأولى تقليدية تمامًا على مستوى الموضوع والأسلوب، حيث درس الفن في أكاديميات الفنون في لاهاي وأمستردام في هولندا، ثم بدأ في محاكاة مجموعة متنوعة من الأساليب المعاصرة، بما في ذلك الانطباعية والانطباعية الجديدة والرمزية، في أثناء محاولته العثور على أسلوبه الخاص. يمكن رؤية تأثير هذه الحركات الحديثة في تطور لوحات موندريان التي تظهر بمرور الوقت رغبته في تفكيك العالم ومكوناته وعناصره، حيث سعى إلى التركيز على الخط واللون والشكل الهندسي من أجل إبراز الخصائص الشكلية لعناصر اللوحة. استوحى موندريان فكرته من التكعيبية التي قادها كل من بيكاسو وبراك اللذين حاولا استكشاف وجهات نظر متعددة للعنصر داخل اللوحة الواحدة.




بدأ موندريان في استكشاف الأشكال المجردة في الوقت الذي انتقل فيه إلى باريس في عام 1912، في سلسلة لوحات بعنوان "Pier & Ocean/ الميناء والمحيط"، والتي تختزل المناظر الطبيعية إلى مجموعة من الخطوط الرأسية والأفقية. وأراد في ذلك الوقت تجاوز التكعيبية المتمثلة في تجزئة الأشياء، والانتقال إلى التجريد الخالص. مع ذلك، لم يحدث ذلك التحول في طريقة موندريان فجأة، لكنه استمر في العمل الممنهج المدروس، وكان إنتاجه للوحات ضمن سلاسل جزءًا من طريقته في العمل واستكشاف قضايا الموضوع والتكوين. بسبب تلك الطريقة، يمكننا حاليًا رؤية تطور لغته التصويرية وصولًا إلى أعماله الأخيرة المجردة تمامًا.
يشير استخدام موندريان لمصطلح تكوين إلى تجربته مع الأشكال المجردة، والتي بدأت عند عودته إلى هولندا قبل اندلاع الحرب العالمية الأولى. بقي هناك حتى انتهاء الحرب، وفي أثناء وجوده في هولندا طور أسلوبه بقوة، وخلص إلى أن التكوينات الهندسية بدلًا من التكوينات العضوية باستخدام الألوان الأولية بدلًا من الثانوية تمثل القوى العالمية بصورة أكثر دقة من وجهة نظره. تطور أسلوبه التجريدي بالتزامن مع اهتمامه بالفلسفة والروحانيات، واعتقاده أن تطور التجريد هو علامة على التقدم البشري.


تأثير الفلسفة على موندريان
رأى بعض مؤرخي الفن أن لوحة موندريان "تكوين 2" تعبيرٌ عن اهتمامه بالعلاقات الديالكتيكية، والأفكار التي قدمها الفيلسوف الألماني هيغل في أوائل القرن التاسع عشر، والتي تفيد بأن الفن والحضارة يتقدمان من خلال لحظات متتالية من التوتر والمصالحة بين قوى المعارضة العالمية. بالنسبة لموندريان، فإن لوحته، التي استخدم فيها ألوان متضادة، هي فكرته عن تطور العلاقة بين المتضادات. قد تعكس اللوحة أيضًا ارتباطه بالجمعية الثيوصوفية، وهي مجموعة تقتصر على فئة معينة كان لها حضور قوي في أوروبا، وكان من ضمن أفكارها الاهتمام بالأضداد للتعبير عن الوحدة الخفية.





انضم موندريان إلى تلك الحركة الغامضة مع عدد من الفنانين، مثل فاسيلي كاندنسكي، وكاسيمير ماليفيتش، وكانت الثيوصوفية مصدرًا مباشرًا لأفكارهم وأعمالهم، وأصبحت تلك الجمعية التي تأسست عام 1875 من أكثر المنظمات الروحانية تأثيرًا في أواخر القرن التاسع عشر وأوائل القرن العشرين.
بدأت العلاقة بين الثيوصوفية والفن الحديث رسميًا في أواخر القرن التاسع عشر، عندما رد بعض الفنانين والكتاب بقوة ضد مادية العصر الذي هيمن عليه العلم والصناعة. وفي مقال نشر للناقد الفني ألبرت أورير كتب عن عدم جدوى التفكير العلمي في مواجهة أسرار الحياة الأعمق. توافقت الثيوصوفية مع الفن الحديث لأنها تؤمن بالفكرة القائلة بأن الأسلوب الطبيعي التقليدي للفن الغربي يقلد المظاهر السطحية للطبيعة، وهو غير كاف لتفسير الألغاز الكامنة العميقة في عناصر الكون. ففي لوحة موندريان، ترمز الخطوط والأشكال والألوان إلى وحدة الكون برؤيته الخاصة.


حركة The Style
أسس موندريان، في أثناء وجوده في هولندا، حركة فنية باسم The Style، أو الأسلوب، مع الفنان ثيو فان دويسبورغ. تبادل الاثنان من خلالها عددًا من الأفكار حول الفن وعلاقته بالحياة، نظرًا لاعتقادهما بأن تطوّر الفن تزامن مع تقدم البشرية. ولذلك فكرا أن الفن الجديد ينبغي أن يشمل كل التجارب البشرية. أسس فان دويسبورغ مجلة فنية حملت اسم الحركة للترويج للمدرسة التجريدية الهندسية التي يمكن أن تعبر بالخطوط والألوان عن الحياة الحديثة. على الرغم من أن موندريان، وفان دويسبورغ، افترقا في النهاية، إلا أن حركتهما التي جمعت بين الفن الحديث والحياة كانت مؤثرة للغاية، لدرجة أن المبادئ التجريدية التي أسساها ما زال يتردد صداها حتى اليوم.
ببساطة، فكرت تلك الحركة في التجريد كطريقة لفهم الكون، ويمكن أخذ لوحة بيت موندريان "تكوين 2" كمثال، حيث تحتوي تلك اللوحة على الألوان الأساسية؛ الأحمر والأزرق والأصفر مع الأسود والأبيض، من خلال مزج تلك الألوان يمكن التعبير عن كل ما يوجد في العالم، لأنها ألوان نقية وأساسية. أما بالنسبة للخطوط الأفقية والرأسية، فهي من وجهة نظر موندريان ليست مجرد خطوط، ولكن قوى، أو نواقل اتجاهية ديناميكية محددة بواسطة قوتين متفاعلتين؛ قوة أفقية وقوة عمودية، ومن خلال تلك الخطوط يمكن التعبير عن أي شيء في الكون.


جاذبية الفن الحديث
في كتاب مترجم أخيرًا حول سيرة بيت موندريان، يقول الناقد الفني الأميركي، بيتر شجيلدال، إن موندريان، يقف جنبًا إلى جنب مع بيكاسو، باعتبارهما الأسلاف الرئيسيين للتصوير الأوروبي في القرن العشرين. لم يصنف فقط كواحد من مبدعي التجريد الأوروبي، لكنه وضع بجوار الأساتذة الهولنديين القدامى العظماء، مثل رامبرانت، وفان غوخ، الذي أحدث كل منهما ثورة في مسار الرسم وتاريخ الفن في وقتهم.





تختلف تلك المجموعة من التكوينات عن اللوحات السابقة، أو اللاحقة، لموندريان، وتتميز تلك اللوحة بالمربع الأحمر الكبير الذي يحتل الربع الأيمن العلوي من اللوحة، لأن اللون الأحمر نادر الظهور في أعمال موندريان، حيث توجد 17 لوحة فقط من إجمالي 120 لوحة نفذها الفنان بين عامي 1921 و1933 فقط يظهر فيها اللون الأحمر بوضوح.
وتأتي أهمية الحدث لأنه نادرًا ما تعرض لوحات موندريان في مزادات فنية، لأن أغلبها محفوظ في مجموعات فنية تخص أشهر المتاحف حول العالم، وتمثل اللوحة كل ما يمكن أن نعرفه أو نقوله عن موندريان، كما تعد رمزًا للجاذبية الدائمة للجمالية الحديثة، التي تتميز بجمال هادئ وتوازن تركيبي، حتى أن اللوحة تبقى في الخيال العام للفن الشكل الأكثر شيوعًا للتجريد، والذي أثر على حركات فنية وثقافات عالمية في ما بعد.


مصادر:
https://smarthistory.org/de-stijl-part-i-total-purity/
https://smarthistory.org/abstract-art-and-theosophy/
https://www.sothebys.com/en/videos/piet-mondrians-modern-masterpiece-composition-no-ii
https://www.piet-mondrian.org/composition-ii-in-red-blue-and-yellow.jsp
https://www.sothebys.com/en/articles/abstract-art-pioneer-piet-mondrians-signature-grid-masterpiece-composition-no-ii-from-1930-to-star-in-sothebys-modern-evening-auction-this-november
https://smarthistory.org/abstract-art-and-theosophy/

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.