}

أربعينية "صوت الأرض" ياس خضر: استذكار الغناء العراقي الأصيل

علي لفتة سعيد 18 أكتوبر 2023
ربما مرّت أربعينية ياس خضر، مطرب الأرض وصوت الشجن العراقي الذي حمله منذ أن عرف العراقيون الحزن، مرور الكرام. لكنه أمر يوضّح بشدّة الواقع العراقي الجديد الذي برز ما بعد المتغيّر الكبير الذي حصل عام 2003. لا شيء له ذاكرة إلّا من كان مرتبطًا بهذا الواقع السياسي الجديد، حتى هذه الذكرى لأشهر مطرب عراقي ما بعد ناظم الغزالي، والذي كان مؤثّرًا بأجيالٍ كاملةٍ ما بعد الجيل السبعيني أمثال كاظم الساهر وماجد المهندس وحسام الرسام وغيرهم، كما أن الأجيال الجديدة تسمع حتى الآن أغانيه العذبة التي تعطي نكهة الحزن وتعلن قيامها بواجب التعويض عن البكاء والغضب والزعل وتكون كبش الفداء الذي يفرغ فيه العراقي حزنه مع الغناء منذ العصر السومري حتى الوقت الراهن.

ياس خضر لقبّ بصوت الأرض باعتباره نابعًا من طين الحزن، كما وصف بأنه الصوت الطربي والشجن الذي يكون في بحّته كلّ تاريخ الألم، وربما يكون لمولده ولانتمائه للجنوب العراقي أثرٌ في تكوين هذه الحنجرة التي تعاملت مع أمرين، الغناء والصوت الديني، حيث ولد من أسرةٍ نجفيةٍ قزوينية حسينية عام 1938 وكان أبوه شاعرًا وخطيبًا وقد توفّي ولم يتجاوز منتصف الثلاثين من عمره بمرض السل الذي كان شائعًا في العراق، ليكون الخلف والسلف وأثر الصوت في أذنيه خاصة وأن أهالي النجف اكتشفوا جمال صوته، فكانوا يطلبون منه إنشاد قصائدهم وقصائد أبيه. ولهذا كانت بدايته مع تجويد وترتيل القرآن، ولكن الأمر المصادف هو الذي حوّله إلى الفن والغناء تحديدًا حيث التقى بالملحن محمد جواد أموري، ابن مدينة كربلاء، يوم كانت هي المحافظة والنجف قضاء تابع لها، فأعجب به ومنحه أوّل أغنيةٍ حملت عنوان (الهدل) في نهاية الستينيات وقد بثّتها إذاعة القوات المسلحة وحصلت الأغنية على شهرةٍ واسعةٍ لم تزل حتى يومنا هذا. وفي عام 1969 التقى الملحن كمال السيد الذي قدم له أغنية (المكيَّر) من كلمات أكثر الشعراء شهرة، الشاعر زامل سعيد فتاح، وقد بثّت من إذاعة صوت الجماهير ببغداد، ليكون ياس أشهر مطربٍ عراقي، لتأتي فترة السبعينيات العراقية التي يطلق عليها العصر الذهبي حيث بدأ بزوغ أبدع ملحّنٍ أنجبته الأغنية العراقية، الفنان الراحل طالب القره غولي، الذي لحّن له أغنية (البنفسج) التي كانت من كلمات الشاعر الكبير مظفر النواب الذي لحن له القره غولي أيضا أغنية (مرّينا بيكم حمد) ثم أغنية (اعزاز) التي كانت من كلمات الشاعر الراحل زامل سعيد فتاح،  لتتوالى بعدها الأغاني ويتربّع على عرش الغناء العراقي، ومن أشهرها (حِنْ وأنه أحن) و(تايبين) وكذلك (ولو تزعل) و(يا حسافة) وعشرات الأغاني التي لم تزل تسمع وتطرب من يسمعها، وهي ربما تحصد المشاهدات في قناة اليوتيوب حتى اليوم. وأمام هذه المسيرة، كُرّم في مهرجان الدوحة السادس عام 2005  وكُرّم في حفل «نجوم الخليج 2008» ومنح الدرع التكريمي من قبل شبكة قنوات النجوم الفضائية. كما كرم في الملتقى الإذاعي والتلفزيوني في عام 2015 بوسام الإبداع.

الفنان الراحل شكّل مع نخبةٍ كبيرة من موجة أطلق عليها الغناء السبعيني فاصلًا ذهبيًا لأن هذه الأصوات كانت تمتلك الحنجرة الغنائية والاحترام الذوقي.

يقول الناقد الموسيقي مهدي الوزني إن الراحل يمتلك صوتًا مميزًا له مساحة عريضة، أي أنه يجيد الغناء بالطبقات الحادّة والغليظة، صوت له جرسه الموسيقي المتفرد المطبوع بالحزن والناتج عن تعايشه مع هموم ربما ذاتية أو هي مجتمعية. ويأتي جمال صوته من امتلاكه لأذن حساسة للنغمة والجملة اللحنية وهذه متأتية من متابعته للتمارين الصوتية والغناء المتواصل، وهذا ما نلاحظه من قوة الصوت وإمكانية الغناء حتى آخر أيامه. وكان صوت الفنان ياس خضر بقوته وجماليته محفّزًا للعديد من الملحنين العراقيين في إبراز إمكانياتهم اللحنية لثقتهم بإمكانيته في التنقل بين المقامات والصعود والهبوط النغمي وإجادة القفلات اللحنية بشكلٍ سلسٍ ومتقنٍ وكذلك إجادته أنواع الغناء العراقي الريفي والشعبي والمديني محافظًا على الأصالة والرقي في اختياراته الفنية الغنائية، وعلى مدى مشوار عمره الغنائي الذي أتحفنا به بأعمالٍ خالدة وباقية في ذاكرة المتلقّي ومحاكية لوجدانه ومشاعره. وعن الغناء بعد مرحلة ياس خضر ومن معه، يرى أن موجة الغناء الحالي وإن أصابها الشيء الكثير ما بعد عام 2003 بسبب الأحداث الجارية والمتغيّرات على صعيد البنى الاجتماعية والسياسية وغيرها إلّا أنها لم تزل مستمرة. ويقول إن هناك مطربين يعملون على إعادة الحياة للأغنية العراقية مثلما أن هناك ملحّنين يسعون إلى إعادة الروح لهذه الأغنية الأصيلة.

يترنّم الشاعر والصحافي عبد السادة البصري بصوت الراحل فيقول: وأنت تجلس سارحًا ذات ليلةٍ، يأتيك صوته الشجيّ مهدهدًا وحدتك:

(حيل اسحن كليبي سحن

وغرّكني بالهم والحزن

يا ليل صدّك

ماكولن أحّاه وأون يا ليل)

حينها تشعر بقيمة وعنفوان وألق الأغنية العراقية الممتدّة من زرياب مرورًا بالموصلّي والقبنجي والغزالي وصولًا إلى ياس خضر والجيل الذي تألّق معه (فاضل عوّاد، حسين نعمة، فؤاد سالم، كمال محمد، سعدون جابر... والقائمة طويلة)، الجيل الذي جعل للأغنية العراقية نكهةً وحلاوةً لا مثيل لهما. ويضيف: إن صوت الراحل يتغلغل في كلّ مسامات الروح ويحلّق بخيالاتنا في حكايات العشق والحزن والشجن والفرح:

(تعال لحبّك أنا أشتاك

ولشوفتك أتمنّه

لا طير بجفاك الطار

برياضي ولاغنّه)...

ولهذا، بحسب ما يقول البصري، فإنه سكن أرواح أجيال الستينيات والسبعينيات والثمانينيات وحتى التسعينيات، قبل أن تهبّ رياح الابتذال والسوقية في بعض الأغاني التي دخلت من مطربين أميّين بمعنى الكلمة لا يفقهون من الطرب والموسيقى والكلمات سوى الردح والصراخ، ما أوصل الأغنية العراقية إلى درجاتٍ متدنيّةٍ لولا وجود بعض الأصوات الأصيلة. ويشير إلى  أن الراحل تألقت فيه الأغنية العراقية (شعرًا، لحنًا، وأداءً) لتكون بحق سفيرة الطرب العراقي في كل مكان وتصبح لازمة لكلّ جلسات السمر والانشراح مهما كان لون الأغنية.  ويمضي بقوله، مَنْ ينسى (الهدل، الريل وحمد، تعال، البنفسج، شموع الخضر، المكيّر، اعزاز، تايبين) والعشرات من الأغنيات التي جسّت حياة العراقيين بكلّ جوانبها، أفراحها وأحزانها، تقلّباتها الاجتماعية والسياسية، إنها تعيش في كل لحظة معنا. ولهذا يعد رحيله ترك ثغرةً في مسيرة الأغنية حاليًا، فالراحل قدّم أفضل وأجمل وأبهى وأروع الأغاني خلال سني حياته الفنية، وعاش عمره كما أرادته له يد الخالق. ولهذا يعتقد البصري أن صوته سيبقى خالدًا، وبصمته منيرةً تشعّ في ليل الأغنية العراقية التي انحدرت نحو الإسفاف والابتذال عند بعضهم للأسف الشديد، لكن هناك ملحنين ومطربين وشعراء باقون في تألقهم المتلألئ يومًا بعد يوم.

ويعزو الباحث الفني والصحافي عبد الجبار العتابي أسباب إطلاق لقب "صوت الأرض" إلى أن صوته يترقرق كالماء ومساحاته تفعم بالخضرة حين يهدهدها النسيم. ويرى أن الراحل امتلك صوتًا شجيًّا مفعمًا بالحلاوة، تشعره يترجم ما فيك من أحاسيس بالنغمات التي تصدر من حنجرته. ويقول إنه المطرب الذي تبغدد بعد أن نزع عنه ملابس الريف وارتدى ملابس الأفندية، قاط ورباط، وتهادى في شوارع بغداد بالأناقة حيث لا يشبه مطربي الريف الذين كان واحدًا منهم كونه جاء من بيئةٍ ريفيةٍ ومن أسرةٍ دينيةٍ معروفة. وذكر أن الراحل لم يكن يقصد أن يكون مطربًا، بل هي المصادفة التي جاءت من خلال غنائه بحفل (ختان) وصادف وجود برنامج خاص لوزارة الزراعة يبثّ من خلال الإذاعة، فسجّلوا الجلسة وبثّت وسمعها الناس وأعجبوا بها وردّدوها وهذه كانت أوّل أغنية له واشتهرت، لتفتح له أبواب الشهرة مثلما فتحت له أذرع الملحّنين لينتقل بعدها من الأغاني الريفية إلى المدنية عبر أغنية (المكيّر) من تلحين كمال السيد في عام 1969 وقد منحت هذه الأغنية إعجابًا متزايدًا. وبحسب العتّابي فإن الراحل يقول إن الانتقالة الحقيقية كانت مع طالب القره غولي كونه كان الأقرب إلى نفسه وقد جازف الاثنان في تلحين وغناء أربع أو خمس أغنيات من قصائد الشاعر مظفر النواب الذي لم يجرؤ أحد على تلحين قصائده أو حتى على غنائها وكان النواب راضيًا عن اللحن والأداء. وذكر أن الراحل كان يفتخر بتتلمذه على يد الموسيقار جميل بشير كونه أضاف له الكثير من المعرفة وقوة الأداء والشخصية التي يفتقدها أغلب المطربين الحاليين.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.