}

"أول يوم من حياتي": تعساء نموذجيون

سمير رمان سمير رمان 2 أكتوبر 2023
سينما "أول يوم من حياتي": تعساء نموذجيون
ملصق فيلم "أول يوم في حياتي"

بدأت دور السينما الأوروبية في عرض فيلم الفانتازيا "أول يوم من حياتي/Il primo giorno della mia vita" (2023) للمخرج والسيناريست الإيطالي باولو جينوفيزي/ Paolo Genovese.
اشتهر جينوفيزي في العالم بصفته مخرج الفيلم الدرامي "غرباء رائعون/ Perfect stranger" عام 2016. والفيلم حكاية عن سبعة أصدقاء غامضين، تضم أزواجًا وعشاقًا، قرروا في إحدى الأمسيات أن يلعبوا لعبةً غريبة تقضي بكشف كلّ أسرار شبكة الإنترنت على هواتفهم، وقراءة الرسائل النصية عبر مكبر الصوت ليسمع الجميع مضمونها. بعد مغادرة الضيوف الشقة، تصرفوا كالسابق، وبقيت علاقاتهم على حالها. ولكنّ اللعبة لم تتم. يتمحور الفيلم كلّه حول السيناريوهات المحتملة لو أنّهم لعبوا اللعبة بالفعل، وماذا لو أنّهم انتقلوا إلى واقعٍ موازٍ، ولم يبق أمامهم سوى التفكير بمسألة التفضيل بين الواقع الفعلي الذي تستمر فيه الحياة يكتنفها النفاق، وبين الواقع المتخيّل حيث تدمّر الحقيقة التي لا ترحم حياة الأصدقاء.
لم يقتصر نجاح الفيلم على حصوله على ثلاث جوائز في المسابقة الأهمّ للسينما في إيطاليا "David di Donatello"، والإيراداتٍ الكبيرة التي جمعها، بل نجاحه في شدّ انتباه صنّاع السينما في عدد من البلدان، بحيث أعيد إنتاجه في كلٍ من: اليونان عام 2016، إسبانيا، وإيطاليا عام 2017، وفي عام 2018 في كلّ من فرنسا، وبلجيكا، وكوريا الجنوبية، وتركيا، والمكسيك، وهنغاريا، وفي عام 2019 في روسيا، وأرمينيا، وألمانيا، ليحتل مكانه في سجل غينيس.
بعد هذا الفيلم، أخرج جينوفيزي أفلامًا مهمّة، مثل فيلم الإثارة الحواري "المكان/ The Place" عام 2017، وفيلم الميلودراما "الأبطال الخارقون/ Superhero" عام 2021، ولكنّها لم تحقق مثل ذلك النجاح الكاسح، لا في إيطاليا وحدها، ولا في صالات السينما العالمية، الذي حققه فيلم "أول يوم في حياتي". كان من المقرر أن يصور في الولايات المتحدة باللغة الإنكليزية، ولكن جائحة كورونا حالت دون ذلك، وربما كان ذلك لحسن الحظّ.
خارج الموسم السياحي، يضفي شتاء روما الماطر سحرًا أصيلًا. توحّد كلّ أفلام جينوفيزي مقاربة عامّة، يكررها المخرج في فيلم" أول يوم من حياتي". يتحدث المخرج عن موضوعات تهمّ جميع الناس بشكلٍ أو آخر: الحبّ، الموت، والعلاقات بين الرجل والمرأة، بين الآباء والأبناء. ولكن نقل هذه الموضوعات إلى الشاشة يتطلب اللجوء إلى تقنية المفاهيم، بحيث يتمّ انتزاع الأبطال والأحداث، من الواقع الفعلي، ونقلهم إلى حالةٍ من التأمل التجريدي. في فيلم "الغرباء تمامًا"، نرى لعبة الحقيقة متمثلةً بكشف أسرار الهواتف المحمولة، والتي يتبيّن في نهاية المطاف أنّها مجرد لعبة من ضرب الخيال. أمّا في فيلم "مكان اللقاء"، فيحدث لقاءٌ مع شخصٍ غامضٍ قادرٍ على تحقيق رغباتك الدفينة، المتوارية عميقًا في نفسك. وحتى في فيلم "الأبطال الخارقون" الذين بنى جينوفيزي شخصياته ببساطة لم يتمكن معها من حرمان نفسه من التلاعب بالخطوط الزمنية التي تفصل بين زمنٍ وآخر.
في فيلم "أول يوم من حياتي"، يجد أربعة أشخاصٍ، رجل وامرأتان وفتى، أنفسهم في حالةٍ وسطية بين الحياة والموت، حيث يفترض أن يساعدهم البقاء على هذه الحافّة في اتخاذ أكثر القرارات أهمية.




في إحدى ليالي شهر يناير/ كانون الثاني الممطرة، تلتقي أريانا (الممثلة مرغاريتا بوي Margherita Buy) بنابليون، (فاليريا ماستاندريا/ Valerio Mastandrea)، الممثل الدائم في أفلام جينوفيزي، في حين تلتقي إيميليا (الممثلة سارة سيرايكو Sara Serraiocco) برجلٍ مجهول الهوية (الممثل توني سيرفيللو/ Toni Servillo)، يأخذهم الرجل المجهول إلى فندقٍ صغير يمتلكه ليقضوا فيه سبعة أيام. في صباح اليوم التالي، ينضم إليهم دانيللي (الممثل غابرييل كريستيني)، البالغ من العمر اثني عشر عامًا. أمرٌ واحد فقط يجمع الأربعة معًا، وهو أنّهم أقدموا على محاولة انتحار، نجحت محاولة ثلاثةٍ منهم، أمّا الصبي المصاب أصلًا بمرض السكري، فكان قد لجأ إلى طريقة غريبة للانتحار عن طريق التهام أربعين كعكة محلاة دفعةً واحدة، لينتهي الأمر به في غيبوبة عميقة. بطل الفيلم، توني سيرفيلو، يلعب دور الملاك الحارس، فيعرض عليهم صفقة تقضي بأن يمضوا أسبوعًا إضافيًا لمراجعة هذا القرار المصيري، وإعادة التفكير بما فقدوه، يعيدهم في نهايته إلى اللحظة التي سبقت الانتحار (الطلقة القاتلة ـ القفز من الجسر ـ وآخر خطوة فوق سطح البناية ـ قطع الحلوى أمام الفتى). اقترح الملاك أنّه إذا تبيّن أنّ عمل شخص منهم كان مثمرًا وفعالًا خلال هذا الأسبوع، فعليه التراجع عن قرار الانتحار، والمضي قدمًا في حياتهم.
يعيد أسلوب (الملاك) إلى الأذهان فيلم "إنّها حياة رائعة/ It’s a Wonderful Life" للمخرج الأميركي فرانك كابريFrank Capra : (1947)، أو قصة "ترنيمة عيد الميلاد/ The Christmas books" لتشارلز ديكنز. يريهم (الملاك) كيف تسير الحياة من دونهم، ويمنحهم فرصة للنظر إلى المستقبل، ويمكنهم من النظر إلى أحبائهم بطريقة جديدة، ويصطحبهم إلى جنازاتهم نفسها، ويذكرهم بلحظات الفرح الصغيرة التي مروا فيها، كيومٍ مشمس على شاطئ البحر، أو الفطائر اللذيذة، حتى أنّه يلجأ إلى بعض الغشّ والتحايل، بدفعهم إلى تكوين صداقات جديدة، مع أنّ شروط الاتفاق تنصّ على بقائهم غير مرئيين.
تدريجيًا، تتضح الأسباب التي دفعت هؤلاء الأشخاص إلى وضع حدٍّ لحياتهم. الشرطية أريانا ذات الخمسين عامًا لم تستطع تجاوز مأساة فقدانها ابنتها قبل سنتين. إيميلي لاعبة الجمباز السابقة أصبحت حبيسة كرسيها المتحرك بعد تعرضها لإصابةٍ خطيرة، لكن ليس هذا ما يعذبها، بل لأنّها تحلّ دائمًا في المرتبة الثانية، فانطفأت جذوة الحياة لديها بعد فشلها المتكرر في احتلال المركز الأول. دانيللي، فتى مصابٌ بالبدانة المفرطة، وبداء السكري، يستغل والداه حبّه المفرط للطعام، ويدفعانه إلى تناول كميات كبيرة من الطعام، وتصويره، وعرض المشاهد على شبكة الإنترنت ليحصد مشاهدات كبيرة، وبالتالي يحصلان على عائدٍ ماليّ للأسرة. وفي حين، كان الفتى يتعرض للتنمّر في المدرسة، لم يكن والداه يدركان أنّه لا يريد أيّ شهرة على شبكة الإنترنت، وأنّه يريد فقط التخلص من أذى أقرانه. ولذلك، يقرر الفتى الانتحار هربًا من كلّ هذا.
يواجه الملاك أصعب الحالات مع نابليون. فهو خبير في التنمية البشرية، استنزفه تقديم الحلول لمشاكل الآخرين في سعيهم لتحقيق أمانيهم، وفي المقابل تحولت حياته هو إلى هوّة سحيقة لا قرار لها. إنّه يرى بوضوح كلّ أساليب "تغيير منظور الرؤية". لا يوجد سبب مقنع يدفعه إلى الانتحار، فهو شخص ناجح، وضعه الماديّ مريح، متزوج من امرأة يحبها وتحبّه (الممثلة إيلينا ليتي)، ولكنّه، وعلى الرغم من كلّ هذا، وخلافًا لمعتقداته الخاصّة، يعاني من اكتئابٍ عميق متواصل. في واقع الأمر، أصبح (الملاك) ينظر إلى عملية إنقاذ نابليون كتحدٍّ شخصيّ، فهو أيضًا يحمل ألمًا خفيًّا في داخله.
لا يخلو فيلم "أول يوم من حياتي"، كغيره من أفلام جينوفيزي الأخرى، من عيوبٍ هنا وهناك... ففي بعض الأماكن يكون سطحيًا للغاية، تبدو بعض الشخصيات غير مقنعة بشكلٍ كافٍ (على سبيل المثال، يبدو الأب دانييل مجرد شخصٍ كاريكاتوري حانق). في الوقت نفسه، استطاع فريق الممثلين، في بعض الأحيان، إنقاذ الحوار المباشر. ونجح المخرج، أيضًا، عند تطرقه إلى مواضيع حسّاسة، في تجنّب الوقوع في التفاؤل المزيف، وتمكن من تحاشي الشعور باليأس التام.
إنّه فيلم يستحق مشاهدة هادئة، فهو يصرخ بقوة إرادة الحياة مقابل الموت، ولكن لا يغيب عن بالنا أبدًا أنّ لنا في الموت حياة أيضًا.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.