}

ذكرى وفاة مارك توين: الانحياز إلى الشعب

سمير رمان سمير رمان 6 مايو 2024
استعادات ذكرى وفاة مارك توين: الانحياز إلى الشعب
صورة معاد تلوينها لمارك توين (1900/ Getty)

في 21 من شهر نيسان/ أبريل عام 1910، وبعد حياةٍ حافلةٍ بالنشاط والإبداع، توفي مارك توين/ Mark Twain، الكاتب الأميركي، والأديب الساخر، والصحافي، والناشط السياسي والاجتماعي. اتسّم أسلوب توين الإبداعي بالفكاهة والنقد الساخر، كما برع في مجال الخيال العلمي الفلسفي. في الوقت نفسه، عُرف توين بمواقفه الإنسانية والديمقراطية التي ظهرت في أنشطته كافّةً على اختلاف أنواعها.
كتب ويليام فولكنر أنّ مارك توين كان "أول كاتب أميركي حقيقي، وجميعنا أتباع له". أمّا أرنست همنغواي، فرأى أنّ الأدب الأميركي بمجمله خرج من عباءة كتاب مارك توين "مغامرات هاكلبيري فين".
لم يستطع صموئيل لانغهورن كليمنس (الاسم الحقيقي للكاتب) مقاومة نداء نهر ميسيسبي، فعمل بحارًا مرشدًا على إحدى السفن المسافرة في النهر. كانت تلك المهنة الأولى التي مارسها في حياته العملية، والتي تمنّى، كما قال هو شخصيًا، أن يمارسها طيلة حياته. ولكنّ الحرب الأهلية وضعت نهاية لحلمه هذا بعد أن أوقف النقل النهري في جميع أنهار أميركا عام 1861، فاضطر كليمنس إلى البحث عن مهنةٍ أُخرى. في عام 1861، انتسب إلى الماسونية في محفل "النجم القطبي" رقم 79 في مدينة سانت لويس. وخلال إحدى أسفاره، أرسل من فلسطين إلى المحفل مقبض مطرقة أرفقها برسالةً ساخرة قال فيها "(نَحتَ "الأخ" كليمنس): مقبض مطرقة من جذع شجرة أرزٍ لبنانية، سبق وزرعها الأخ غوفرد بوليونسكي قرب جدران مدينة القدس".
ساهمت تجربة الحياة التي أمضاها توين في الغرب الأميركي بقوةٍ في تكوينه ككاتب، حيث شكّلت العمود الفقري لكتابه الثاني. في نيفادا، وعلى أمل الحصول على ثروة، تحوّل إلى عامل منجمٍ يكدّ في التنقيب عن الذهب والفضّة. قضى فترةً طويلة، مع كثير من الحالمين في الثروة، في معسكرٍ جماعي في ظروفٍ قاسية. وقد أسهب في مؤلفاته اللاحقة في وصف أسلوب حياة المنقبين الصعبة. على الرغم من الفترة الطويلة التي عمل فيها في التنقيب، لم يتمكّن من أن يصبح منقبًا حقيقيًا. وعندما تبخرت آماله في الحصول على الثروة، ترك التنقيب عن الفضة، وانتقل إلى العمل في جريدة "Territorial Enterpreise" في ولاية فرجينيا. في تلك الصحيفة، بدأ صموئيل كليمنس التوقيع على كتبه ومقالاته باسمه المستعار "مارك توين". وفي عام 1864، انتقل إلى سان فرانسيسكو، حيث راح يكتب لصالح صحف عدة في وقتٍ واحد. جاء النجاح الأول عام 1865 عن طريق قصته الساخرة "قفزة الضفدع كالافيراس الشهيرة"، التي طبعت في جميع أرجاء الولايات المتحدة الأميركية، وحازت وقتها على لقب: "أفضل قصةٍ أدبية ساخرة في أميركا حتى الآن".

مسيرته الإبداعية
ألهم أسلوب الكتابة التي اتبعه الكاتب جون روس براون أسلوب مارك توين. ويرى النقاد أنّ رواية "مغامرات هاكلبيري فين" هي أعظم مساهمات مارك توين في الأدب. في حين حظيت بشعبية كبيرة لدى الجمهور روايات: "مغامرات توم سوير"، و"الأمير والفقير"، و"يانكي كونتيكيت في بلاط الملك آرثر"، ومجموعة قصص "نهر الميسيسبي". بدأ مارك توين مشواره الأدبي بمقاطع فكاهية متواضعة، وانتهى بمخططات تطاول الحياة الإنسانية، مليئة بالسخرية الدقيقة التي تطاول الحياة الاجتماعية والسياسية، وتأملات فلسفية عميقة، ولكنّها متشائمة للغاية في الوقت نفسه بشأن الحضارة الإنسانية.




كان توين شغوفًا بالعلوم، وصديقًا مقربًا من العالم والمخترع نيكولا تيسلا، حيث كانا يقضيان أوقاتًا طويلة في مختبر الأخير، الأمر الذي انعكس بوضوح في أدب توين، وخاصّةً في تفاصيل رواية "يانكي كونتيكيت في بلاط الملك آرثر"، الذي أدخل فيها توين مفهوم السفر عبر الزمن، فلعب الكتاب دورًا محوريًّا في إدخال عدد من التقنيات الحديثة إلى إنكلترا في عهد الملك آرثر.
كان توين شخصية بارزة في الرابطة الأميركية المناهضة للإمبريالية، التي كانت تحتج ضدّ ضمّ أميركا للفيليبين. وردًا على تلك الأحداث، التي أودت بحياة أكثر من 600 شخص، كتب توين كتيبًا بعنوان "واقعة الفيليبين"، ولكنّه لم ينشر إلّا عام 1924، أي بعد 14 عامًا بعد وفاته. ومن حينٍ إلى آخر، كانت الرقابة الأميركية تحظر عددًا من مؤلفاتٍ توين متذرعة بأسباب مختلفة. ويعود تشدّد الأجهزة الرقابية تجاه مؤلفات توين، بالدرجة الأولى، إلى مواقف الكاتب النشطة على المستوى الاجتماعي والمدني. في العقد الأول من القرن العشرين، جرت محاولات عدّة لحظر رواية "مغامرات هاكلبيري فين"، بسبب التوصيفات الطبيعية والعبارات اللفظية التي عُدَّت مسيئة للسود. وعلى الرغم من مناهضة مارك توين الصريحة للعنصرية والإمبريالية، وذهابه أبعد بكثير من غيره من أدباء عصره في رفضه للعنصرية، كان يستخدم في مؤلفاته كلماتٍ وعباراتٍ كانت متداولة بشكلٍ واسع في تلك الفترة، ولكنّها تعد اليوم كإيماءاتٍ تحمل إساءاتٍ عنصرية. في عام 2011، صدرت نسخٌ جدية من روايتي "مغامرات مارك سوير"، و"مغامرات هاكلبيري فين"، وقد استبدلت فيها كلمة: زنجي: على سبيل المثال، بكلمة "عبد".

الكاتب والناشط المتمرد
تقول الأساطير الشعبية إنّ بعض الأطفال ولدوا من ملفوفةٍ، وإنّ بعضهم الآخر حمله طائر اللقلق بمنقاره وجاء به إلى العالم. أمّا صموئيل كليمنس فربمّا يكون مذنّب هالي قد حمله إلى عالمنا، وربما يكون غادر عالمنا مع المذنّب نفسه بعد 74 عامًا قضاها على كوكبنا.
كان مارك توين في حياته مذنّبًا ملتهبًا، وشخصًا متقدًا كنجمٍ سماوي، ومضيئًا ككوكبٍ، فقد استطاع بالفعل خلال حياة واحدةٍ فقط أن يجعل كوكبنا أفضل. على الرغم من حياته الوحيدة التي عاشها على الأرض، فقد كانت وكأنّها مئة حياةٍ دفعةً واحدة: فقد شهد مارك توين الحرب الأهلية الأميركية بين الشمال والجنوب، وشارك بنشاطٍ في الحركة الشعبية التي اجتاحت الولايات المتحدة الأميركية في ثمانينيات وتسعينيات القرن التاسع عشر. وعلى حدود القرنين التاسع عشر والعشرين، عمل مارك توين بفعاليةٍ في صفوف الحركة المناهضة للإمبريالية. وفي كلّ تلك الأحداث، وقف منحازًا إلى طرفٍ واحدٍ بعينه ــ الشعب.
وصف توين بدقةٍ استراتيجيات الخداع والاحتيال التي تعتمدها إمبراطوريات عالم المال. وتوقّع ظهور علم بصمات الأصابع، وتنبّأ بظهور الإنترنت. والغريب أنّ الكاتب توقع تاريخ وفاته، لأنّه كان على علم بموعد عودة المذنّب، آملًا أن تكون وفاته متوافقة مع عودة المذنب. وبالفعل، غادر مارك توين الحياة مع وصول المذنّب الأرض... ولكنّ الأمر الأكثر وضوحًا من بين الأمور الاستثنائية التي اتصف بها مارك توين أنّه كان كاتبًا لامعًا ترك 935 منتجًا، وأكثر من 50 ألف رسالة ومقالة.




انتهت طفولته في الثانية عشرة من عمره، عندما ترك المدرسة. ومع ذلك، ونكايةً بجميع الحاصلين على شهادة الدكتوراه في العلوم، منح مارك توين شهادات الدكتوراه من جامعتي أكسفورد، وييل، وغيرهما من الجامعات. كانت الحياة نفسها هي جامعة مارك توين، شأنه شأن الكاتب الروسي مكسيم غوركي. وربما لهذا السبب نشأت بين الكاتبين الروسي والأميركي علاقة مودة وإعجابٍ متبادلة، وتحوّل لقاؤهما في مدينة نيويورك عام 1906 إلى لقاءٍ أدبيّ تاريخي... فقد كان توين رجلًا متمردًا معاديًا للإمبريالية، ومناهضًا للعنصرية، وكارهًا للاستعمار، وكذلك كان غوركي. لم يكن توين ليسمح أن يمرّ حدثٌ اجتماعي واحد من دون أن يشارك فيه، وكان يظهر دومًا في جميع تلك المناسبات مرتديًا بزّة بيضاء، وعلى رأسه قبعةً من اللون نفسه، وكأنّه كان يريد بتلك الهيئة أن يعبّر عن احتجاجه في وجه هذا العالم الأسود الكئيب. كانت المحاضرات التي يلقيها تحظى بإقبالٍ ونجاح منقطعي النظير، وترافقها دومًا عواصف من التصفيق. كانت تلك المحاضرات تسبب القلق والخوف لجهاتٍ معينة في السلطة والمجتمع الأميركي، وكانت ضحكات الكاتب الرنانة الساخرة تتردّد في أرجاء العالم، وكان صوته الحادّ يسمع في كلّ زوايا هذا العالم البائس الظالم.
وفي حين كان مارك توين يأخذ وطنه على محمل الجدّ، فقد سمح مع ذلك لنفسه أن يسخر منه. وبسبب مواقفه المعروفة، بادرت السلطات إلى حظر مؤلفاته بصورةٍ لم يعرفها تاريخ الأدب الأميركي. وحتى اليوم، يطلق على كتب مارك توين "الناقد الاجتماعي" عباراتٍ تصمها بـ"العار السياسي وعدم الموثوقية". بدأ طريقه الإبداعي بروحٍ دعابةٍ مؤدبة، وواصله بالسخرية اللاذعة، وأنهاه بسخرية غاضبة مسمومة. وفي سنواته الأخيرة، رمى توين قفاز التحدي في وجه القرن العشرين القادم، والذي أكّد بقسوة أنّ الحضارة الأنجلو ــ أميركية قامت عمليًا بإبادة شعوبٍ بكاملها، وأنّها في حين "ترفع راية أمير السلام في يدٍ، تمسك في الأُخرى بخنجر القاتل، وتحمل على ظهرها كيس اللصوص". وأخيرًا، وفي نهاية مشواره، يطلق توين حكمه المدمّر على الولايات المتحدة الأميركية: "لقد تعفّنت الجمهورية العظيمة حتى قلبها"!

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.