}

الفن الحديث وجرح الحرية

سارة عابدين 1 مارس 2023
تشكيل الفن الحديث وجرح الحرية
"رجل المستقبل"/ بول كلي/ متحف الفن الحديث/ لندن(14/10/2013/فرانس برس)
أينما يعيش الإنسان يوجد الفن، لأن الفن هو أي شيء يصنعه الإنسان، أو يفعله، ويؤثر فينا، ويحركنا لنشعر بالجمال ونراه. يستخدم الإنسان مخيلته لابتكار جمال فريد، وكل شيء يؤثر في طريقة تعبير الفنان عن فنه. لكن عالم الفن المعاصر لا ينتمي إلى القواعد الفنية القديمة المعروفة، والفنانون أصبحوا يتمتعون بحرية اختيار المعاني والمفاهيم الخاصة، وأصبحت للمشاهدين الحرية الكاملة في طريقة فهمهم للفن، حيث الفن موجود في منطقة حرة تمامًا، لكن متى بدأت هذه الحرية في الفن، وما تأثيرها على الفنان؟

الحرية جرح
عند ظهور التصوير الفوتوغرافي، بدأ الفنانون في الانفلات تدريجيًا من الرغبة في نقل الطبيعة كما هي، ولم تعد هنالك حاجة إلى تلك النزعة التوثيقية التصويرية في الفن؛ بلمسة واحدة يمكننا حبس الطبيعة في صورة فوتوغرافية. نزع الجميع إلى التحرر من سطوة الطبيعة، والاتجاه إلى التجريب، فرسم الانطباعيون انطباعاتهم عن الأشكال والبشر والضوء والهواء، ومن بعدهم ظهرت التعبيرات والمشاعر والرموز، حبس دالي الوقت في لوحة، وفكك براك المناضد والجرائد، وشوه بيكاسو الوجوه، ورسم موندريان تكويناته المجردة، ورسم ميرو عالمه الملون، بحثًا عن أساليبهم الخاصة التي جاهدوا لتبتعد عن الطبيعة. جرَّب فنانو القرن التاسع عشر، وفنانو القرن العشرين، كل ما يمكن تجريبه، من قص ولصق وتخطيط وتقطيع، ووضع مارسيل دوشان مبولة ووقع عليها كعمل فني، ورسمت الفنانات بدماء دورتهن الشهرية، واستعملن أجسادهن كموقعة فنية ذاتية. ثمة لوحات صنعت من القمامة، وأخرى من الحجارة والأخشاب وبقايا الطعام، ولم يعد هنالك معيار للجمال، حتى أن أحدهم ألصق موزة بالجدار وباعها بملايين الدولارات. كل هذا التاريخ يحمله الفنان المعاصر في رأسه وهو يقف أمام السطح الأبيض في كل مرة، هذه الحرية التي يشعر بها الفنان الحديث أمام اللوحة تدفعه دفعًا إلى التجريب، حيث يصبح السطح الأبيض مكانًا لاحتمالات لا نهائية، وكل لوحة هي عدد لا نهائي من اللوحات المحتملة والمتجددة.
يقول جوزيه ساراماغو، في كتابه "دليل الرسم والخط"، على لسان البطل: "لن أعرف أبدًا أكثر مما أعرفه الآن، وهو أن كلتا اللوحتين غير نافعتين، لكنني سأتمكن من اتخاذ قراري إذا ما كان الأمر يستحق أن أترك نفسي لغواية أسلوب تعبير ليس هو أسلوبي، رغم أن هذه الغواية تعني في النهاية أن هذا الأسلوب الذي كنت أستخدمه بإصرار ليس أسلوبي، وكأنني أتبع قواعد ثابتة". تلك الجدلية القائمة التي عبر عنها ساراماغو في روايته يمكن أن تكون جدلية الفن الحديث، ومعضلة الفنان المعاصر، حين يسأل نفسه ماذا أرسم؟ كيف أرسم؟ كيف أجرح هذا السطح الأبيض، وبأي أسلوب، هل أجرحه بالخطوط التي أعرفها، وبالطريقة التي أرى فيها العالم، أم أجرحه بتلقائية وتداع حرّ يشبه الكتابة الحرة؟ أم أجرحه برؤية بصرية تعبر عن أفكار فلسفية؟

أين بدأت الحرية الفنية؟
لم يكن للفن الحديث أصل رئيسي يخبرنا من أين أتى، لكن هنالك اتفاق عام على أنه شوهد لأول مرة بين القرنين الثامن عشر والتاسع عشر، بعد الثورة الفرنسية. مع ذلك، فإن الفن بمعناه الأوسع يشمل المهارة والخيال الإبداعي في سياق موسيقي، أو أدبي، أو مرئي، أو أدائي، ويزودنا بتجربة قد تكون جمالية، أو عاطفية، أو فكرية، أو مزيجًا من هذه التجارب معًا، حتى قرر فن ما بعد الحداثة الانفصال الثوري الجذري عن النظريات السابقة المعروفة باسم "الروايات الكبرى" للفن والسياسة والاقتصاد والثقافة من أجل خلق نظريات جديدة.




يتعامل الجزء الأكبر من نظرية ما بعد الحداثة مع الاعتقاد بوجود الفن من حولنا مسبقًا، والفنان هو الشخص الذي يمكنه التعرف على هذه العناصر الفنية وتوليفها داخل العمل الفني، ليصبح العمل الفني موضوعًا مفتوحًا للتفسير بين الأجيال المختلفة والفئات الاجتماعية والدينية المختلفة، تبعًا للسياقات المتعددة بيئيًا وتعليميًا وسياسيًا.

بيت موندريان وجاكسون بولوك وبول كلي
أتذكر دائمًا، بكثير من الغبطة، بيت موندريان، وجاكسون بولوك، وبول كلي؛ فكل منهم بدأ كلاسيكيًا بطريقة ما، لكن خلال ذروة حياتهم المهنية اتخذت أعمالهم الفنية أنماطًا متباينة تمامًا. وعلى الرغم من أن أعمال موندريان، وبولوك، وكلي، كانت مختلفة تمامًا عندما يتعلق الأمر بالأسلوب، لكن تأثيرهم كبير، ولا يمكن إنكاره في الفن الحديث. عاش بيت موندريان حياة متواضعة، وكان يتبع فلسفات صوفية، ولم يصبح مشهورًا إلا بعد وفاته في أواخر خمسينيات القرن الماضي. على عكس جاكسون بولوك، الذي اختار أن يعيش حياة صاخبة، وكلي الذي كان متصوفًا بطريقة أخرى، لكن حياتهم الشخصية ليست المقصد هنا، وإنما تأثيرها على أسلوب كل منهم الذي يظهر الحرية غير المحدودة في الفن التجريدي. لنحاول، هنا، أن نجيب عن سؤال الفن الحديث: هل يختار الفنان أسلوبه الفني، أم الأسلوب هو الذي يفرض وجوده على الفنان؟

جاكسون بولوك (Getty) 

على الرغم من دراسة بولوك للفن على يد معلمه توماس هارت بينتون، وهو أحد أعظم أساتذة الفن، إلا أنه اختار نهجًا فنيًا مستقلًا تمامًا عن معلمه السابق. وصف المؤرخون أسلوبه بأنه تعبيري تجريدي، حيث اختار بولوك عدم استكشاف موضوع معين في الفن، استكشافه كان متعلقًا بتطبيق الطلاء على اللوحة. لم يتحدَّ بولوك قواعد التكوين فحسب، بل تحدى أيضًا الطرق المعتادة لبناء اللوحة، وتجنب الاستعمال التقليدي للطلاء الزيتي، مستخدمًا الدهانات المعتادة، لكن التركيبات المختلفة لهذه الألوان أعطت إبداعاته بعدًا أكبر. بالإضافة إلى ذلك، استخدم بولوك العصي والأكواب والأقمشة لصب الطلاء وتنقيطه على اللوحة الموضوعة على أرضية الستوديو الخاص به، ما يسمح له بالاقتراب من التكوين من أي زاوية. كان بولوك فخورًا بذلك الاستكشاف الفطري الذي يحدث في أثناء عمله، وتلك الطريقة جعلته يشعر أنه جزء من اللوحة بدلًا من مجرد العمل عليها عن بعد.




على نقيض ذلك الاستكشاف العملي، والشبكة الملونة من الطلاءات المختلفة، نجد أعمال موندريان التجريدية عبارة عن استحضار رمزي لرحلة الإنسان إلى الروحانية، حيث كان من أتباع فلسفة الثيوصوفيا، واحتضن فكرتها القائلة بأن القوانين المطلقة تحكم الكون، وعملت تلك الفلسفة على تفسير مفاهيمها من خلال الرياضيات. يمكن تبسيط معنى الثيوصوفيا بطريقة الفيلسوف النمساوي رودولف شتاينر، الذي قال إن ما زرعناه سنحصده تبعًا للتناغم الكوني، وإن هنالك مخططًا محددًا لكل شيء يعمل تحت توجيه إلهي بموجب قوانين ثابتة، وللإنسان مكانه المحدد في هذا المخطط، فهو يعيش في ظل هذه القوانين، إذا فهمها وتناغم معها سيكون سعيدًا، وإذا حاول كسر هذه القوانين عن قصد، أو عن غير قصد، سيعيش مهمومًا وبائسًا. تلك النظرية كانت أساس أهم الأعمال التجريدية لموندريان، وهي التكوينات الفنية الهندسية التي كانت مكونة من الألوان الأساسية فقط، إلى جانب الأبيض والأسود بخطوط رأسية وأفقية من دون أي خلل في النظام للتعبير عن النقاء المطلق في اللون والتكوين.
يقف الفنان السويسري بول كلي في منطقة خاصة به يمكن أن نعدها مرجعًا لأفكار عدد من الفنانين من بعده. وعلى الرغم من أنه يعتمد في رسم لوحاته على فكرة فلسفية تشغل عقله، لكن النتيجة الفنية مختلفة تمامًا عن موندريان، الذي اعتمد فكرة فلسفية هو الآخر. كان كلي موسيقيًا، وغالبًا ما كان يمارس العزف على الكمان للإحماء قبل الرسم. رأى كلي أوجه التشابه بين الموسيقى والفن البصري في القوة التعبيرية للون باعتبارها شبيهة بقوة الصوت في الموسيقى. في محاضراته في مدرسة الباوهاوس، قارن كلي بين الإيقاع البصري في اللوحات، وبين الإيقاع الهيكلي لتكوين موسيقى يوهان سباستيان باخ. تحدى كلي كل الحدود التقليدية التي تفصل بين الكتابة والفنون البصرية، من خلال استكشاف لغة تعبيرية جديدة، ولغة تجريدية شعرية، وإلى حد كبير استكشاف رموز وعلامات تصويرية. أعجب كثيرًا بفنون الأطفال، لأنهم يبدعون أعمالهم بعيدًا عن النماذج والأمثلة السابقة، ولذلك سعى إلى تحقيق بساطة مماثلة غير مدروسة عن طريق اللون والخطوط والخامات اليومية.


في الفن لا إجابات مطلقة
بعد البحث في عوالم فنية متباينة، وأحيانًا متناقضة، ليس هنالك يقين بإجابة صحيحة تمامًا، لكن يبدو أن أفكار الفنان، وطريقة حياته، غالبًا ما تكون متناغمة مع أعماله الفنية، وأسلوبه الفني، وطريقة صنعه للفن، أي كانت الطريقة التي تبدأ بها الفكرة من داخله، أو من عالمه الخارجي، لكن في نهاية الأمر الاتساق مع الذات يبدو واضحًا في أعمال كبار الفنانين الذين تركوا أثرًا حقيقيًا في عالم الفن. يضع الفنان جزءًا من أفكاره حول الحياة وروحه وقلقه الوجودي على اللوحة، فلا ينفصل العمل الفني عن صانعه.


روابط و
إحالات:

 https://arthistoryunstuffed.com/piet-mondrian/

https://www.theartstory.org/artist/mondrian-piet/

https://study.com/academy/lesson/jackson-pollock-art-style-paintings-death.html

https://www.theartstory.org/artist/pollock-jackson/

https://www.britannica.com/topic/theosophy

https://www.theartstory.org/artist/klee-paul/

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.