}

مهدي مطشر: استبطان جغرافيا التشكيل والحروف الأولى

تشكيل مهدي مطشر: استبطان جغرافيا التشكيل والحروف الأولى
مهدي مطشر في معرضه بالدوحة (تصوير: العربي الجديد)

حين استقر الفنان العراقي مهدي مطشر (1943) في فرنسا منذ عام 1967 لم يستغرق كثيرًا من الزمن حتى يعلن عن هويته البصرية التي تجعل من المربع جغرافيا تشكيلية محفوفة بالخط العربي وأنماطه المزخرفة، وإدراكه ‏لإمكانات لا نهائية لها.

وفي معرضه الأول في قطر بعنوان "المواجهة عبر الاستبطان" المقام في المتحف العربي للفن الحديث في الدوحة، والمستمر حتى الرابع من مايو/ أيار المقبل، ‏ما يشير إلى فهم استثنائي للتقاليد الجمالية التي ورثها ودُفعت إلى الحاضر بفضل الأساليب المستلهمة، بما في ذلك التجريدية أو التقليلية.

أفردت مساحة واسعة للمعرض حتى تستوعب الأعمال ومنها ما يحتاج إلى حيز ينشئ فيها مطشر أضلاعه المعمارية، لتبدأ فورًا علاقة المشاهد بالجغرافيا ذات الخطوط الواضحة ولغتها العربية في ممارسة مفاهيمية للفن المعاصر مشتبكة بقوة مع تراث العالم العربي ‏الإسلامي.

حروف ورمال

عقود طويلة أمضاها الفنان في أوروبا وثّقت صلته بما يسميها "الثقافة الأولى" في شريط الفيديو الذي أصدره المتحف متحدثًا عن بيئة تأسيسية في بابل العراقية. من المكان إلى الخط العربي وقد كان لا يفهمه لدى مروره بالمساجد، لكن شكله المتموضع في الزخارف كان دفقًا بصريًا جعله يرسمه على الرمل بمرح الطفل فتذروه الرياح ويعيد رسمه ثانية.

والاستعادة وحدها قد تحمل مشاعر الحنين، وهو لا يريد للحنين أن يدير مشروعه الفني من ألفه إلى يائه، بل أراد أن يقدمه بطريقة تأملية. كان الرمل ملعبه وصار الخط ملعبًا واسعًا ومفتوحًا على اقتراحات جمالية غير فولكلورية بل رحلة في الذات ضلوعها ضلوع البيت ولغتها الحروف البِكر.

البيت الأول

يحكي الفنان عن لمعة عاطفية استبدت به في بيته الفرنسي حين دخله وشعر بأنه بالفعل بات بيته دون أن يقبض على السبب، وسائلًا زوجته إذا ما غيّرت أو عدلت شيئًا ما في ديكور البيت، فنفت ذلك.

وبعد لحظات حين قال إنه جائع ردّت الزوجة بأنها للتو انتهت من خبز بضعة أرغفة، فانتبه إلى أن الرائحة هي حتمًا وراء شعوره بأنه في البيت، إذ أن بيته في بابل كان يوميًا محفوفًا برائحة الخبز.

منذ عام 1969 أدرك مطشر طريقه بين هذين الفضاءين، الفعلي في العراق والذهني في أوروبا. وهنا لا نقول الذهني لنستبعد المكان الذي سيكون محل عيشه طوال هذه السنوات. هو ومشروعه ينهلان من بئر كـ "البئر الأولى" عنوان كتاب جبر إبراهيم جبرا، البئر التي تجمعت فيها أولى التجارب والرؤى والأصوات.


اختيار المربع

اختار بوضوح المربع بوصفه وحدة بنائية مع بضعة ألوان محددة وبسيطة هي الأزرق النيلي، ولون الخشب والفولاذ المطلي بالأسود والجدران البيضاء.

لقد اتخذ من الاستبطان أساسًا لأعماله الفنية الدقيقة على مدار خمسة عقود، مغايرًا التقاليد الفنية. ونجم عن ذلك كله تجربة وسمت بانضباطها الشديد، فهي تعكس طابعًا يكاد يكون علميًا بدقته الرياضية.

ومع ذلك، فقد حاولت أعماله في كثير من الأحيان التقاط اللحظات العابرة والعفوية. ومن خلال قلب قواعد العقائد الحداثية، يمكن اعتبار إبداعات مطشر تحديًا متبصرًا.

نقف أمام المربعات والحروف، ولا يبدو أي عمل محتاجًا إلى الزخرفة، وهي بتلك التبسيطية تدخل المتلقي في صلب العلاقة المتوترة تحت هذه السهولة المغرية.

في واحد منها يستعرض الفنان العلاقة بين شكلي المربع والمكعب في ذات الوقت.

فالمربع يبدو شكلًا مسطحًا ويظهر باللون الأزرق البحري العميق، وهو مثبت بشكل آمن على الحائط في مواجهة المشاهد، إلا أنه يظهر على رأس قمة مكعب مقترح متصل بالأرض من نقطة واحدة فقط، علمًا بأن جسم المكعب غير موجود بالواقع، وإنما وقع تحديده بحواف صلبة بارزة متصلة بخطوط رفيعة منقوشة على الجدار.

يتولى هذا العمل الفني إنتاج تلاعب شيّق عن طريق استخدام المواد الصلبة والتركيز على إظهار الأشكال الهندسية كيانًا ماديًا بقدر ما هي خاضعة للإدراك العقلي.

"موضعية بيضاء"

وفي لوحة "موضعية بيضاء" مساحة واسعة لمربعات من الورق المقصوص، يضم كل مربع شقًا داخليًا على شكل حرف "إتش" مطوي بشكل معين للإشارة إلى وجود مكعب عالق يدفع بنفسه إلى الخارج.

وبسبب وجود بعض الشقوق الموازية للمربعات وبعض الشقوق الأخرى المائلة عليها، يؤدي ذلك إلى خلق إحساس بالحركة البصرية وإضفاء الحيوية في المساحة المحيطة، هذا فضلًا عن حركة المشاهدين التي تزيد من الطاقة والنشاط الموجود على السطح عندما تبدأ الأنماط البصرية في الظهور.

ويرجع الفضل في ذلك إلى الارتباط بين النماذج ودور الضوء والظلال. كما يلاحظ أن الوحدات البيضاء الرقيقة تبدو مندمجة مع الجدار في حين أنها تزعزع استقرار سطحه في الوقت عينه.

الخشب والفولاذ المصبوغان وخيوط المطاط تحمل حرفًا أو حرفين، بما يكفي لأول مغامرة في اللغة حين لجأ الإنسان من الرحم إلى الأرض واكتسب هوية اللجوء وبنيت مصائره ومعارفه على كونه لاجئًا وجوديًا.

لدينا الألف وحيدة معتمرة الهمزة قبعة مربعة، وحينما تصل إلى ألف ولام لتصبح أل التعريف لا يوجد وراء الحرفين ما يعرّف لأنها مكتفية بذاتها، وبالاستغناء عن القبعة تنقلب أل التعريف إلى "لا" التي لا تنفي ولا تنهى إنما تصبح حاملًا عاموديًا لبيوت مربعة.

كما لا يوجد في لوحة "هو" ما يشير إلى ضمير غائب، بل استبطان يدخل في مربعات تفضي إلى أخرى.

وبملاحظة الدقة التي يتطلبها تكوين الخط العربي نلمس اعتماد الفنان على قياسات محكمة في إنشاء العمل بتجريد هندسي محكم.

تستوقفنا "الحاء" وهي الحرف السابع في اللغة العربية، الذي عادة ما يكتب بخط أفقي مستند إلى قوس. هنا يعيد الفنان بناء الحرف باستخدام شفرات معدنية رقيقة تشبه خطوطها العريضة الحبر على الورق، ولكنها تظهر الشكل في النهاية على أنه مجموعة من الزوايا بعضها مثنيّ والبعض الآخر مفكك.

من أعمال المعرض:

 

 

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.