}

عالم متوسطي: قراءات تبادلية بين الذات والآخر

هنا/الآن عالم متوسطي: قراءات تبادلية بين الذات والآخر
نُظِّم المؤتمر في معهد الدوحة للدراسات العليا
تحيل عبارة "العالم المتوسط" إلى البر المحيط بهذه المساحة البحرية التي تبلغ مليونين ونصف مليون كيلومتر مربع، ودارت في البر والبحر دورات تاريخية بالغة الأهمية تبادل فيها الشرق والغرب والشمال والجنوب السيطرة، بل والتوسع، انطلاقًا منها إلى ما يسمى العالم القديم، ثم الحديث.
إلا أن دماء الصراع التي سالت منذ بدأ التاريخ وصار مسجلًا في أرشيفات المنتصرين غالبًا ثم المهزومين، كانت تقابلها أحبار تسيل وتسعى إلى الفهم والحوار، والمشترك على قاعدة التنوع والتبادل المعرفي والتجاري وقبول التأثير المتبادل.
في هذا السياق، اختتمت يوم الخميس الفائت أعمال مؤتمر "التاريخ الاجتماعي للعالم المتوسط: الأدب والفولكلور والفوتوغرافيا"، الذي نظمه على مدار يومين برنامج التاريخ في معهد الدوحة للدراسات العليا، بالتعاون مع كلية ترينيتي دبلن، وجامعة كامبريدج، ومشروع الشعر العربي في الجنيزا القاهرية الممول من مجلس البحث الأوروبي.

مجال تبادلي
"لا نعرف بالتحديد إلى أين يصل البحر المتوسط"، كما قال بيدراغ ماتفيجيفيتش، ذات مرة. وإذا ما كانت الحال "عالمًا متوسطًا" فإن المقاربة الأدق له ما قاله أستاذ التاريخ الحديث والتاريخ العثماني عبد الرحيم بنحادة إن المجال المتوسطي تبادلي إلى درجة أن كثافته باتت استعارة تحيل على التبادل في أي مكان، كأن نقول "المتوسط" ونحن نتحدث عن مجال البحر الأدرياتيكي، أو المحيطين الهندي والأطلسي، أو أي مجال يقع فيه تبادل.
ويعزز هذه المقاربة ما قاله عصام نصار، رئيس برنامج التاريخ في معهد الدوحة للدراسات العليا، حين أشار إلى أن البحر المتوسط نقطة انطلاق جيدة لكي ينظر الذين عاشوا على أطرافه إلى ذاتهم، أو إلى الآخر، أو إلى كليهما معًا.
"الجنيزا القاهرية" حظيت بأربع محاضرات من بين عشر، إضافة إلى جلسة تدريبية ونقاشية في الختام للطلاب والباحثين بعنوان "المخطوطات العربية في مجموعة الجنيزا القاهرية بجامعة كامبردج".
تشير الجنيزا إلى مستودع للمخطوطات التي أزيلت من كنيس ابن عزرا في منطقة الفسطاط، في مصر القديمة، في نهاية القرن التاسع عشر. والجنيزا اصطلاحًا هي، أساسًا، كلمة عبرية تشير إلى مستودع لتخزين الوثائق، يمكن العثور عليها في الكنيس اليهودي، أو في مقابر اليهود.
والباحثون القادمون من كلية ترينيتي دبلن، جامعة دبلن، وهم يضطلعون بمشروع "الشعر العربي في جنيزا القاهرة"، قدموا إطلالة على ما تمثله هذه الجنيزا، وما فيها من معارف أدبية واجتماعية وتاريخية أهمل الباحثون ما تكتنزه من تراث عربي.
فهذا محمد أحمد، الأستاذ المشارك في قسم دراسات الشرق أوسطية في كلية ترينيتي دبلن، يتحدث عن"الجنيزا القاهرية والحفاظ على التراث الثقافي المصري"، قائلًا إنها تضم مئات آلاف من المخطوطات المهمة المكتوبة بلغات عدة، من بينها العربية، والعبرية، والآرامية، وغيرها.
وعلى مدار ما يقرب من ألف عام، خزنت الطائفة اليهودية المصرية الوثائق في الجنيزا. وجاءت هذه الوثائق متعددة الموضوعات، منها الديني وغير الديني، وكان الأدب العربي والشعر والأمثال الشعبية والأغاني المصرية من بين الوثائق التي احتفظ بها اليهود منذ مئات السنين في مستودع الوثائق الملحق بالكنيس اليهودي.
ويلفت الباحث النظر إلى أن هذه الوثائق لم تلق اهتمامًا مناسبًا من طرف الباحثين قرونًا عديدة، على الرغم من قيمتها البحثية والدراسية. ليس على مستوى دراسة الأدب العربي الذي تداوله اليهود في هذه الحقبة فحسب، وإنما أيضًا بوصفها فرصة حقيقية للتعرف إلى بعض أوجه التراث الثقافي والاجتماعي المصري الذي قد لا يتوافر في مصادر أخرى.
تعرض دراسته عشرات النماذج من النصوص الأدبية العربية المكتوبة بالحرف العبري. والغريب أن الكتابة العبرية مشكلة تشكيلًا عربيًا، وأن تراكم هذا العدد من النصوص الذي يبلغ 350 ألف وثيقة، يضم النصوص العربية بالحرف العبري، وبالطبع النصوص العبرية الصرف التي نالت الاهتمام، والأخيرة مرقمنة الآن ومتاحة للجميع.
نعثر في هذه الوثائق على اليوميات الاجتماعية والرحلات عبر المتوسط والأمثال الشعبية المصرية ونصوص عربية مبكرة تعود إلى القرن السابع والقرنين الثالث عشر والخامس عشر، احتفظت بهيئتها نتيجة المناخ الجاف في القاهرة، وكذلك بسبب تقاليد يهودية تقضي بعدم إتلاف النصوص التي تحتوي على اسم الله، غير أن الجنيزا كما يلاحظ الباحث وجدت نفسها تحتفظ بكم هائل منها، سواء أكانت ذات صبغة دينية، أم أدبية، من أشعار وأمثال ويوميات ورسائل، وغيرها.

اليهود والآخر
وعن اليهود والآخر عبر المتوسط من خلال شعر الجنيزا القاهرية والرحلات اليهودية تناول محمد عمران خان "الأفكار الصوفية في الشعر اليهودي: تأثير متبادل أم تواصل روحي".
عمران خان، وهو زميل ما بعد الدكتوراة في الشعر اليهودي العربي في جنيزا القاهرة في كلية ترينيتي في دبلن، حاول استكشاف دور الصوفية اليهودية بوصفها جانبًا مهمًا من النصائح والعتاب في الأدب اليهودي.




وهو يعاين عددًا من الأشعار العربية اليهودية (العربية المكتوبة بحروف عبرية) في الجنيزا القاهرية لاحظ أنها تحث اليهود على التمسك بالمبادئ والقيم المتجسدة في الشريعة اليهودية (الميتسفاه)، رغم عرضها في سياق جذاب مبالغ فيه في النصوص الأدبية، عبر القصص والاستعارات والإيحاءات، وغيرها من الوسائط الأدبية الأخرى.
ووفق قراءته، فإن الأفكار التي كشفت عنها هذه الشظايا الشعرية في سياق التاريخ الاجتماعي لليهود في الشرق الأوسط تسمح بتقدير نوع من التناقض، فقد وجد اليهود ملجأ وملاذًا آمنًا في الأراضي العربية الإسلامية، وعلى الرغم من ذلك، فإنهم تغلبوا على تحدياتهم الزمنية باعتمادهم على مصادر القوة الداخلية التي ارتكزت على الدين والتقاليد.
ويخلص إلى أن هذه القيم الراسخة في التراث الفكري الإسلامي التي يتشاركها اليهود هي دليل على وجود تراث مشترك في حاجة إلى مزيد من البحث.

عبر المتوسط
درس أحمد شعير، الباحث المشارك في التاريخ الاجتماعي والثقافي لعالم المتوسط في العصور الوسطى، الجذاذات العربية المكتوبة بحروف عبرية، ضمن مجموعة الجنيزا القاهرية في مكتبة جامعة كامبريدج، من أجل الكشف عن العوامل والتصورات التي شكلت رؤية اليهود لأنفسهم، وللآخر غير اليهودي (الأغيار/ الغوييم)، سواء أكان الآخر في الماضي البعيد، أم في حاضر العصور الوسطى عبر المتوسط.

"الجنيزا القاهرية" حظيت بأربع محاضرات من بين عشر 

ومن خلال تحليل نماذج عدة من الشعر العربي بمجموعة الجنيزا، ومقابلتها بكتابات بعض الرحالة اليهود، سعى شعير إلى كشف العلاقة الوثيقة بين هذا التصور الذاتي وتأثيره في رؤية اليهود للمسلمين والمسيحيين، خاصة عبر المتوسط والشرق العربي الإسلامي في العصور الوسطى. فعلى سبيل المثال، تكشف دراسته عن التخيلات والتصورات اليهودية المتنوعة حول تدمير الهيكل وفترة السبي البابلي، والاستحضار المستمر لذاكرة هذا الماضي المتخيل عبر أشعارهم وكتاباتهم.
ويضرب على ذلك مثلًا دور مقولات "الإرث الإبراهيمي"، و"الشعب المختار"، وحلم "أرض الميعاد"، أو "الحنين إلى القدس" في تشكيل الذاكرة الجماعية اليهودية واستقبالها الآخر في العصور الوسطى.
علاوة على ذلك، حلل الباحث أثر رؤية اليهود أنفسهم بصفتهم أمة مختارة على تبرير استخدامهم العنف، في كثير من الحالات والمناسبات، ضد أولئك "الأغيار"، أو بعضهم، معتمدًا في منهجيته على مقارنة هذه التصورات الموجودة في شعر الجنيزا بمثيلاتها في كتابات الرحالة اليهود الذين زاروا العالم الإسلامي البحرمتوسطي بين القرنين العاشر والخامس عشر الميلاديين، مع تحليل تشابكاتها المختلفة من منظور عابر للثقافات والأزمنة والأماكن.

المجاعة في وصفين
وذهبت سالي عابد، الباحثة في إطار مشروع "الشعر العربي في الجنيزا القاهرية" بكلية ترينيتي دبلن، إلى بحث "المجاعة في مصر في رحلات الرحالة العرب في العصور الوسطى، وفي الجنيزا القاهرية".
عقدت عابد مقارنة بين مصدرين رصدا المجاعة التي وقعت بين عامي 1201 و1202 إبان حكم الدولة الأيوبية، والمصدران هما الرحالة والجنيزا القاهرية.
كانت مجاعة قاسية نعثر على وصف لها لدى الرحالة، لكن بالأخص منهم عبد اللطيف البغدادي الذي استدعت عابد ما كتبه بعد أن أمضى بضع سنوات في الأزهر، وقبل أن يغادر البلاد عقب المجاعة.
الجنيزا القاهرية تذكر المجاعة التي حدثت، والخوف من المجاعات، عمومًا، داخل إطار اجتماعي وثقافي. وتقول هنا إن المقابلة بين السرديتين تتطابق في كثير من الأحداث، ما عدا الذي ذكره البغدادي حول أكل لحوم البشر وأكل الجيف.
هذا غير موجود في الجنيزا كما قرأت الباحثة، إذ أن النصوص التي طالعتها وهي بالعربية، أو بالعربية بحروف عبرية، تتحدث عن موت الناس من الجوع، وعن نزول تعداد اليهود بسبب الجوع، وارتفاع فاحش في الأسعار.
وهي غير متأكدة من صحة، أو عدم صحة، ما ذكره البغدادي، وقالت لـ"ضفة ثالثة": إن أكل لحوم البشر ربما استله الكاتب من تاريخ مجاعات أخرى، وأسقطه على مصر.

تعددية متوسطية
عبر عالم المتوسط، ثمة نصوص أدبية عربية وغير عربية، ونصوص قديمة وحديثة قرأها وفحصها كل من فرح العريضي، وموفق الحجار، من معهد الدوحة للدراسات العليا، في ورقتهما المشتركة "قراءة مفاهيمية في تعددية التجربة المتوسطية".
فالحديث عن أدب البحر المتوسط، بصفته وثيقة تاريخية أو مرآة للحالة الاجتماعية والثقافية لشعوب المنطقة، تطرح مجموعة من الأسئلة الإشكالية المتعلقة بالأدب من جهة، وبالبحر المتوسط وشعوبه من جهة أخرى.
وورقة الباحثين حاولت أشكلة مفهوم البحر المتوسط بصفته مفهومًا أحاديًا بكل ما يشير إليه من شعوب وآداب ومعارف. وتبعًا لذلك، يصبح السؤال عن إمكانية وجود تعددية متوسطية في مختلف السياقات الأدبية والثقافية والاجتماعية والتاريخية بصورة عامة.
يكون للذاكرة (المكانية) الموجودة في أدب الرحلة مدخل أدبي جديد، يعتمد على الأدائية الأدبية المتمثلة بعملية قراءة الرحلة بصفتها "أدائية البحر". ويقصد الباحثان بالأدائية تمظهر السرديات التاريخية في لحظة التأويل الحالية عبر شبكة من العناصر التاريخية والجغرافية (مكان ـ زمان)، ومن ثم، قراءة الرحلة في تعددية مكانية وزمانية، تسمح من خلالها بظهور تعددية سرديات الرحلة نفسها التي يصنعها الباحث بقراءته، كما تصنع سرديات الرحلة له قراءته على نحو تبادلي. وبذلك، لا تكون الرحلة حاضنة الذاكرة فحسب، بل صانعتها، ما يمنحها الحركية ويحميها من خطر أن تصبح ذاكرة مجردة.
اختار كل منهما مجموعة من النصوص الأدبية التراثية والمعاصرة المكتوبة باللغة العربية في مختلف الأجناس الأدبية، والمنتجة في مدن مختلفة على البحر المتوسط، لتبيان مفهوم التعددية المتوسطية، وأشكلة مفهومي البحر والرحلة في المخيال الأدبي العربي، مثل كتاب "جولة بين حانات البحر المتوسط"، (1933) لعلي الدوعاجي، والمجموعة الشعرية لنوري الجراح "قارب إلى لسبوس ـ مرثية بنات نعش".

التبادل والغيرية
أبرز عبد الرحيم بنحادة، أستاذ التاريخ الحديث والتاريخ العثماني، من خلال دراسته "الرحلة في العالم المتوسطي: التبادل والغيرية"، مسألتين أساسيتين تتعلقان بالرحلة، بصفتها شكلًا من أشكال عبور الذات نحو الآخر، وأثناء هذا العبور تطرح على الرحالة عددًا من القضايا المرتبطة بممارسة غيريته، وهذه الغيرية تبرز في أكثر من مستوى، تارة على نحو مبطن، وتارة أخرى على نحو معلن.

 أحمد شعير، الباحث المشارك في التاريخ الاجتماعي والثقافي لعالم المتوسط في العصور الوسطى

ساق الباحث أمثلة تظهر فيها المقارنات التي يعقدها الرحالة أثناء وصف فضاءات جغرافية أو معالم تاريخية (حالة الرحالة العثماني يكرمي سكز جلبي محمد أفندي إلى باريس).
في هذه الغيرية، كما يقرأ بنحادة، يمارس الرحالة تمايزه عن طريق وصف الظواهر التي لم يعتدها (حالة الرحالة المغاربة الذين زاروا المشرق العربي الإسلامي عندما وصفوا ظاهرة شرب القهوة وتناول الدخان).
وفي هذه الرحلات، يحضر التبادل على نحو بارز في مستويات متعددة في الحوارات التي يجريها الرحالة، وهم في أغلب الحالات "مثقفون"، مع نظرائهم في المجالات التي زاروها، والتي تناولت قضايا اجتماعية وفكرية ودينية.

الجوابات في الزمن الكولونيالي
كما عودنا ناصر أحمد إبراهيم، أستاذ التاريخ الحديث والمعاصر في جامعة قطر، فهو يواصل انشغاله في حفريات التاريخ من الأسفل، وعلى وجه التحديد منذ سنوات في هذا التاريخ غير الرسمي خلال الحملة الفرنسية على مصر (1798 ـ 1801)، وما تلاها، من خلال ورقته الموسومة بـ"الجواب الخاص كوثيقة تاريخية: قراءة في جوابات زبيدة ـ مينو".
فلدى ورقته، يبدو الجواب، وهي الكلمة المستعملة في ذلك الوقت وما زالت، وتعني "الرسالة"، أو "المكتوب"، يناقش الباحث فكرة "الجواب الخاص"، بصفته منتجًا أدبيًا، تأثر بسياق اللحظة التي أُنتج فيها: فالجواب، بوصفه وثيقة تاريخية، لا يقيم بمفرده معنى، ما لم نربطه بالسياق الأوسع للظروف الاجتماعية والتطورات المختلفة التي أسهمت في صياغته، أو انعكست فيه.
وركزت الورقة على نوعية معينة من الجوابات الخاصة، التي دارت بين أطراف يجهل طرفاها المرسل والمتلقي لغة الآخر. نحن هنا نتحدث عن الجنرال جاك فرانسوا مينو، الذي خلف كليبر بعد اغتياله على يد سليمان الحلبي، وزوجته المصرية المسلمة زبيدة، بنت محمد البواب أحد أعيان مدينة رشيد.
أصبح مينو طبقًا لشروط العروس عبد الله مينو المسلم الذي يصلي جماعةً، ويلبس العمامة ويصوم شهر رمضان، وهو لا يتقن العربية، وزوجته في المقابل لا تتقن الفرنسية، وبينهما مراسلات بين الزوجة الممتعضة من غياب زوجها الجنرال في مهماته العسكرية، والنميمة التي تطاولها كونها "خائنة" تزوجت من يحتل بلادها، وهو بدوره تزوج من شابة مميزة من دون إغفال أجندته كعنصر مهم في حملة استعمارية.
جهل الاثنين بلغتي بعضهما سمح حكمًا بخلق مساحة ثالثة لفاعلين اجتماعيين، مثل الكاتب والترجمان، اللذين أسهما بطريقة غير مباشرة في التأثير في صياغة المحتوى النصي، وجعل الصياغة تمضي في إطار متحفظ، حجب معه كثيرًا من الأفكار والأحاسيس والمشاعر الوجدانية التي كان في الإمكان أن تفيض بها لغة الجوابات، لولا وجود هؤلاء الوسطاء.




من هنا، طرحت الورقة إشكالية دراسة الجواب الخاص في الزمن الكولونيالي، وتحديد سماته، متخذة من أربعة جوابات لزبيدة نموذجًا، يستكشف القيمة الوثائقية للجوابات، بصفتها مصدرًا للتاريخ الاجتماعي فترة الاحتلال الفرنسي.

لاجئون في رام الله والبيرة
مدينتان داخليتان جبليتان، وهما معًا الأكثر تأثرًا بالنكبة (إذا ما استثنينا غزة الساحلية) لجهة سكانها من اللاجئين الذين يشكلون أغلبيتهما، والقادمين من الساحل أو تخومه.
هاتان هما رام الله والبيرة اللتان يتحدث عنهما سليم أبو ظاهر، زميل ما بعد الدكتوراة في معهد الدوحة للدراسات العليا، في ورقته "اللاجئون في رام الله والبيرة: مسارات متعددة وتوجهات ظاهرية مختلفة".
انطلق الباحث من مقاربة واقع رام الله التي كثيرًا ما صار ينظر إليها من منظور المدينة الطفرة، أو الفقاعة التي تشهد تباينًا في معايير جودة الحياة والتمثلات الثقافية بينها وبين المناطق الأخرى، فقد ركزت النقاشات الأكاديمية، عمومًا، على رام الله وتناولتها من زوايا مختلفة، لكنها لم تبرر التباين بينها وبين جارتها البيرة، ولم تدرسهما في سياق مقارن، ولم تناقش مسار رام الله التي أخذت تنمو على غرار نموذج عالمي ليبرالي، بينما ظلت البيرة تنمو وفق نسق شبه قروي ومحافظ.

عصام نصار، رئيس برنامج التاريخ في معهد الدوحة للدراسات العليا 

وفي إطار معالجة تجسيديات المدينة الثقافية والاجتماعية - الاقتصادية وتمثلاتها في الحياة اليومية، أشار أبو ظاهر إلى وجود إرث طويل من الاختلاف، ومنظومة متشابكة ومعقدة من التصورات والممارسات التي تحكمت بمسار المدينتين وسمعتيهما، ما انعكس على حضور رام الله بصفتها مدينة متفتحة ومتسامحة، في الوقت الذي وسمت فيه البيرة بصفات تحيل إلى عدم قدرتها، أو عدم رغبتها في تبني مسار رام الله الظاهري.
ويبدو أن الفرق يكمن في علاقة المدينتين، وسلوكهما تجاه اللاجئين الفلسطينيين الذين استقروا فيهما إثر نكبة 1948، إضافة إلى التباين في طبيعة تركيبة اللاجئين أنفسهم، وقد مثل هذا الأمر إحدى أهم ركائز الاختلاف ومشاهده التي تمثل التصورات الذهنية وتجسيداتها المحيطة برام الله والبيرة.
ويوضح البحث أن رام الله قد تمكنت من استغلال الصور النمطية والانطباعات المسبقة، لتقوم بتجيير التعددية، وتقبل الآخر لمصلحتها، بينما اتهمت البيرة بالنزعة "العنصرية".
وإذ تسوق الدراسة حالات تشير إلى تراجع حدود تعددية رام الله، فإنها تخلص إلى أن التعصب والانفتاح وقبول الآخر ليست سوى توجهات "ظاهرية" متباينة، وتؤكد ضرورة تجنب التعميمات والصور النمطية التي تسقط على البيرة.

فلسطين والفوتوغرافيا
بعين خبيرة في الثقافة البصرية، وخاصة التصوير الفوتوغرافي، يقطع عصام نصار، رئيس برنامج التاريخ في معهد الدوحة للدراسات العليا، رحلة طويلة مع "فلسطين والفوتوغرافيا والمخيلة الأوروبية"، وهذا عنوان ورقته.
لكننا سنتوصل مع العنوان إلى دور المخيلة الفوتوغرافية التي تصور واقعًا حقيقيًا، بيد أن أي إزاحة، وخصوصًا حين تكون مدبرة، فإن الواقع لا يعود واقعًا ولا حقيقيًا، لجهة المعنى لا المبنى المكون من عناصر هي بالفعل ما التقطه الصندوق الأسود في الكاميرا.
وقد اشتق نصار مصطلح "الأنجلة" وهو يطالع كمًا وافرًا من الصور الفوتوغرافية المبكرة التي ازدحم لأجلها مصورون كثر هجموا على المنطقة، وخصوصًا مصر الأهرامات وأبو الهول، ولكن بالنسبة لفلسطين كانت الصورة تقتفي سرديات العهد القديم، والعهد الجديد، ولذا سماها الصور المؤنجلة.
يقول في هذا السياق إنه بحدود عام 1880، حيث كان التصوير مزدهرًا بعد قرابة ستة عقود من اختراع الكاميرا، وصل إلى فلسطين بحسب إحصائيات 280 مصورًا، من بينهم تانكرد دوما، وفيلكس بونفيس، وفرانسيس فريث، ومكسيم دو كامب.
الكاميرا أوروبية والمستعمر أوروبي. وفي حين كانت العلاقات غالبًا ما تكون ذات اتجاهين في العصور السابقة، أصبحت منذ نهاية القرن الثامن عشر تتدفق، أساسًا، في اتجاه واحد، من أوروبا إلى شرق المتوسط.
يرى نصار أن التصوير أدى دورًا كبيرًا في تشكيل الإدراك الأوروبي لفلسطين بوصفه ملكية غربية، مرتبطًا في المقام الأول بتاريخ أوروبا وشعوبها، ووضعت الأسس البصرية لتمثيل فلسطين في الصور، واستمرت تأثيراتها حتى يومنا هذا، وخاصة في قضية الفصل الكامل بين المكان وسكانه بوصفهما مكونين منفصلين لا يتقاطعان.

الحج في زمن الاستعمار
ناقش عمرو رياض، أستاذ الدراسات العربية والإسلامية في جامعة لوفان ـ بلجيكا، تمثيلات مكة في هولندا في أواخر القرن التاسع عشر وبدايات القرن العشرين، مع استكشاف الكيفية التي أدخلت بها التقنيات الحديثة، بما في ذلك الصور الفوتوغرافية والتسجيلات الفونوغرافية والأفلام، أبعادًا جديدة لخيال الهولنديين عن مكة في الثقافة السياسية والأكاديمية والشعبية، مكونة بذلك معرفة مجتمعية.
وفي دراسته بعنوان "تصور الحج في عصر الاستعمار: وجهات نظر هولندية من خلال التصوير الفوتوغرافي والتسجيلات الصوتية والأفلام"، قال إنه أثناء العصر الاستعماري بدأ تصور مكة يصل إلى أوروبا عبر وسائط متنوعة، مثل الرسوم والتسجيلات الفونوغرافية، والتصوير الفوتوغرافي، والأفلام. وبناء عليه، أدى هذا الإنتاج السمعي والبصري دورًا حيويًا في ازدياد اهتمام أوروبا بمكة بوصفها "مدينة" عالمية جذبت عددًا متزايدًا من المسلمين من مختلف البلاد المستعمرة.
في حين أن التصوير الفوتوغرافي يلتقط معاني "ثابتة" للأشياء والأماكن والأشخاص، قال إن الصور المتحركة تتخطى ذلك، وتروي قصصًا تنقل المشاهدين لتجربة ثقافات وعادات متنوعة على مستوى العالم، على نحو غير مباشر، ما أثر في تصورات الهولنديين ومناقشاتهم حول مكة والحج خلال فترة الاستعمار.
علاوة على ذلك، توسعت قراءة الباحث لتتضمن سياسة التصوير الإثنوغرافي وإنتاج الأفلام حول مكة في هولندا، موضحًا دورها في الأوساط الاستعمارية والأكاديمية والعامة. ومن ثم، سيوضح ذلك ظهور "النظرة الاستعمارية" الهولندية المميزة حول مكة والحج، مع تسليط الضوء على التأثيرات المتعددة لوسائط الإعلام البصرية والسمعية في تشكيل وجهات النظر في فترة تاريخية حاسمة.

(تصوير: معهد الدوحة للدراسات العليا)

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.