}

بونابرت ضحية قراءة ريدلي سكوت السينمائية

بشير البكر بشير البكر 3 يناير 2024
سينما بونابرت ضحية قراءة ريدلي سكوت السينمائية
خواكين فينيكس بدور نابليون في مشهد من الفيلم

لا يزال إمبراطور فرنسا نابوليون بونابرت (1769-1821) يلهم السينما، رغم العدد الكبير من الأفلام التي تناولته. وبعد أن أشبعت السينما سيرته التاريخية، صار كل فيلم جديد مطالبًا بتغيير زاوية النظر إلى هذه السيرة الغنية والمعقدة، وبات على كل مخرج أن يراه من زاوية تضيف جديدًا، إلى الرصيد الكبير من الأفلام والقراءات المختلفة. تعددت محاولات تناول حياة نابليون، التي على قصرها، كانت حافلة بالمغامرات العاطفية والغزوات والحروب في أوروبا، والتي سقط من جرائها أكثر من مليون، واحترقت مدن تاريخية مثل موسكو.

وكان الفيلم الأول فرنسيًا في عام 1927، على يد المخرج الفرنسي آبيل غانس، في فيلم دام أكثر من خمس ساعات بعنوان "نابليون كما يراه آبيل غانس"، تناول فيه سيرة حياة الإمبراطور من الطفولة في مكان ولادته جزيرة كورسيكا، إلى خاتمة حياته، مرورًا بحبه لجوزفين وزواجه وطلاقه منها، والتي يذكر الفيلم بوضوح أنها كانت ملهمته طوال الوقت، كما لو كانت حربه تأكيدًا لها على بطولته وفروسيته. وهناك محاولة سينمائية فرنسية ثانية تدور حول نابليون هو فيلم "السيد إن" لأنطوان دي كاون، قبل 20 عامًا، وهو عبارة عن قصة خيالية تمامًا تدور أحداثها خلال السنوات الأخيرة لنابليون أثناء منفاه في جزيرة "سانت هيلينا"، لكن المؤرخين، اعتبروها ناقصة. والتجربة الثانية كانت أميركية في عام 1954، من إخراج هنري كوستر، تحت عنوان "Désirée"، مثَل فيه مارلون براندو شخصية بونابرت، وعده النقاد فيلمًا متوسطًا، رغم أن هوليوود احتفت به على نطاق واسع. والنسخة الثالثة كانت روسية من إخراج سيرجي بوندارتشوك، الحائز على الأوسكار لفيلم "الحرب والسلام"، رواية تولستوي الشهيرة، ومخرج فيلم عطيل. وقد أنجز عام 1970 فيلمه الذي أعطاه اسم معركة "واترلو" التي كانت المحطة الأخيرة في سيرة نابليون العسكرية، ونهايته أسيرًا على يد الإنكليز ومنفيًا إلى جزيرة سانت هيلانة التي تبعد عن اليابسة 1600 كلم، مخافة أن يعود للحرب من جديد، لكنه مات هناك. ولكن هذا العمل تعرض لانتقادات منها أنه كان استعراضيًا، ولم يتعمق في شخصية بونابرت. أما النسخة الرابعة فهي عربية من إخراج يوسف شاهين عام 1985 أعطاها اسم "وداعًا بونابرت". وهي إنتاج مصري فرنسي مشترك، وتناولت على نحو خاص الحملة الفرنسية على مصر. وقد حظيت بجدل واسع، وانقسام في الرأي، بين من رأى فيها تمجيدًا للحملة الفرنسية على مصر، وبين من اعتبر الفيلم يشكل إضاءة لمرحلة مهمة في تاريخ مصر، بدأت فيها تتلمس طريق التحديث.

أراد المخرج البريطاني ريدلي سكوت أن يدلي بدلوه هو الذي أخرج مجموعة من الأعمال المهمة ذات الطابع التاريخي برؤية جديدة ومختلفة، منها "مملكة الجنة" عن الحروب الصليبية، و"روبن هود". ويتميز سكوت بأنه يقدّم التاريخ وفق رؤية جيدة لخّصها بقوله "أشعر طوال فترة تصوير أي فيلم تاريخي بأنني مسؤول أمام عملية إعادة ما حدث على أكثر من نحو. هناك مسؤولية نقل الحقائق بصياغة سينمائية، وهناك مسؤولية طرح بعد يربط العالمين الحالي والماضي معًا". وكان ذلك واضحًا على نحو خاص في "مملكة الجنة"، عام 2005، الذي كرسّه للحروب الصليبية، في إحالات صريحة للصراع العربي الإسرائيلي.

يتناول الفيلم حياة نابليون بونابرت من منظور شخصي، وكيفية تحوله إلى إمبراطور عديم الشفقة، وعلاقته العنيفة والمتقلبة مع زوجته وحبه الوحيد جوزفين دي بوهارنيه. ويهدف الفيلم للتركيز على معارك نابليون الشهيرة، وعقليته الاستراتيجية وطموحه الذي لا يهدأ، وفي نفس الوقت رؤيته الحربية كقائد عسكري استثنائي. واختار للبطولة خواكين فينيكس في دور نابليون بونابرت، البالغ من العمر 49 عامًا، وفانيسا كيربي في دور زوجته التي تلعب دور جوزفين، وهي تبلغ من العمر 36 عامًا. وهذه أول نقطة سجلها النقاد ضد سكوت الذي عكس الواقع، حيث كان بونابرت يقل عمرًا بست سنوات عن جوزفين، هو في 27 عامًا وهي في 33 عامًا. وقد تناولت الصحافة العالمية هذه النقطة باستفاضة شديدة، وأجرت مقارنات كثيرة مع أفلام سابقة جرى فيها اختيار الممثلات الشابات كمحبات لرجال كبار السن. كانت الممثلة أودري هيبورن تبلغ من العمر 28 عامًا فقط عندما لعبت دور البطولة أمام فريد أستير البالغ من العمر 58 عامًا في Funny Face - بفارق 30 عامًا - وكان عمرها 34 عامًا عندما ظهرت مع كاري جرانت، الذي كان آنذاك 59 عامًا، في تمثيلية. ولسد هذه الثغرة تقول كيربي في حديث صحافي، إنها توصلت وزميلها خواكين فينيكس، الذي لعب دور الإمبراطور الفرنسي المزاجي، إلى اتفاق لدفع بعضهما البعض إلى أقصى حد ممكن "يمكنك أن تفعل كل ما تشعر به... اصفعني، يمكنك الإمساك بي، يمكنك سحبي، يمكنك تقبيلي، أيًا كان الأمر".  والهدف من ذلك تجنب كليشيهات الدراما، لكن لم يفلح المخرج في إسكات الصحافة، كون علاقة نابليون مع جوزفين محورية في الفيلم.

من النقاط المهمة التي أغفلها ريدلي سكوت عدم إظهار مدى تأثير نابليون الإيجابي على المجتمع الفرنسي من خلال إنشاء "قانون نابليون" (getty) 


أبرز الانتقادات على الفيلم وأقساها جاءت من فرنسا، التي تعد نابليون رمزًا للجدارة لأنه نجح على الرغم من أنه لم يكن نبيلًا. ولكن الفيلم يحاول تصويره أنه كان أحمقًا تمامًا. لم يكن نابليون قديسًا ولم يتوقع أحد من سكوت أن يقدم صورة إنجيلية له، لكن نابليون الخاص به غريب للغاية. ويطرح سؤالًا كيف يمكن لمثل هذا المعتوه أن يكون استراتيجيًا سياسيًا وعسكريًا مشهورًا إلى هذا الحد. في الواقع، كان نابليون يتمتع بشخصية كاريزمية كبيرة حتى أن أولئك الذين كانوا يكرهونه، كانوا مفتونين به. ووصفته مدام دي ستايل بأنه يتمتع "بابتسامة مغرية ونظرة باردة".

ويقول أستاذ العلوم السياسية رومان مارسيلي إن أكثر ما أثار غضب الشعب الفرنسي هو التصوير "الباهت" لنابليون كشخصية "متواضعة". وأضاف "هذا الفيلم يشبه البصق في وجه الشعب الفرنسي، لأنه يبدو كما لو أن ريدلي سكوت سخر من نابليون وتاريخ فرنسا". ومردّ هذا الحكم إلى أنه هناك افتتان بنابليون في فرنسا. ويظهر آخر استطلاع رأي أن 74% من الأشخاص الذين شملهم، ما زالوا معجبين بنابليون. وبالطبع هناك من يكرهه، لأسباب كثيرة، منها أنه أعاد العبودية في جزر الهند الغربية الفرنسية، ولإساءة استخدامه للسلطة عندما أصبح إمبراطورًا لفرنسا، ولكن حتى هؤلاء الناس يشعرون بخيبة أمل من الفيلم لأنه فشل، حسب ردود فعل كثيرة، في "معالجة إرث بونابرت بشكل جوهري، سواء كان جيدًا أم سيئًا". ومن النقاط المهمة التي أغفلها فيلم سكوت عدم إظهار مدى تأثير نابليون الإيجابي على المجتمع الفرنسي من خلال إنشاء "قانون نابليون"، المعروف باسم القانون المدني لعام 1804، والذي حدد القوانين المتعلقة بحقوق الملكية، والحقوق الفردية مثل حرية الدين وهو الذي اعتمدته دول أوروبا الغربية، ولا يزال يعد القانون الأكثر تقدما منذ قوانين روما. وفشل المخرج في الخوض في الفصل الأكثر جاذبية في التاريخ الفرنسي، الذي امتد من الثورة الفرنسية إلى إمبراطورية نابليون، التي بدأت عام 1804.

أما بخصوص جوزفين فهي الضحية الثانية في الفيلم. ومن المعروف عنها أنها كانت امرأة ذكية ذات مصير استثنائي، لكن في الفيلم تم تصويرها على أنها شخصية اجتماعية تجمع العشاق من حولها، وأن بونابرت يخاطبها بطريقة سوقية. ورغم أن سكوت عرض بعض الرسائل الحميمة بينها وبين بونابرت، لكنه صور العلاقة منذ البداية على أنها مهزوزة، وتخلو من التقدير، الذي كان بونابرت يكنه لها. ويجانب سكوت الأمانة، عندما يظهر هروب نابليون من منفاه في "إلبا" من أجل لم شمله مع جوزفين في فرنسا، بينما في الواقع كانت ميتة بالفعل منذ عدة أشهر.

نهاية الفيلم التي تعطي عدد الضحايا خلال الحروب النابليونية "صادمة"، وتتجاوز ثلاثة ملايين. صحيح أن الحروب النابلونية تسببت في سقوط الكثير من القتلى ومع ذلك، لم يكن هو المسؤول عن شن كل الحروب. وهنا تصدق عبارته الشهيرة "التاريخ مجموعة من الأكاذيب التي اتفق عليها الناس".

تبقى نقطة مهمة حول الإسقاط التاريخي من الفيلم. يحاول البعض أن يربط بين شخصية نابليون والرئيس الروسي فلاديمير بوتين، وحربه على أوكرانيا، وما خلفته من تدمير وخسائر بشرية في البلدين. غير أن سكوت كان يعمل على الفيلم منذ عام 2018، وانتهى من تصويره في نهاية 2022. واللافت أن الفيلم الذي كلف أكثر من 160 مليون جنيه استرليني، يحقق مشاهدات كبيرة في صالات السينما العالمية منذ بداية عرضه في تشرين الثاني/ نوفمبر الماضي. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.