انطلاقًا من روح الشباب، تلك الفئة العمرية التي يستهدفها المهرجان، حرص ملتقى القاهرة الدولي للمسرح الجامعي على تنويع المكان الذي ستنطلق منه دورته الجديدة، وذلك مثل كل عام عبر دوراته السابقة. في الدورة السادسة من عمر المهرجان التي انعقدت فعالياتها على مدار سبعة أيام (19 ــ 25 أكتوبر/ تشرين الأول الجاري) تحت شعار "أبدع... انطلق"، اختارت إدارة الملتقى مسرح السامر لاستضافة حفلتي الافتتاح والختام، فضلًا عن بعض العروض. وبعيدًا عن دوافع اختيار المكان، فقد جاء في توقيته كما يقال؛ حيث يواجه المسرح العائم على الجانب الآخر من النهر مصيره في الانقراض ضمن مجموعة من القرارات الحكومية الصادرة مؤخرًا تستهدف اجتثاث عددٍ من المعالم الفنية والتاريخية لتوفيق بعض الأوضاع القانونية.
وحلّت سلطنة عُمان دولة ضيف الشرف لدورة هذا العام، كما شاركت بعرض في المسابقة الرسمية، التي تضم 10 عروض تتنافس على جوائز المهرجان، بزيادة عرض عن العام الماضي. وكما حدث في الدورة السابقة، اشتركت مصر بثلاثة عروض، فيما ضمّت بقية القائمة عروضًا من: رومانيا، والعراق، والأردن، والمغرب، والسعودية، وسورية، التي لم يتمكن فريقها من حضور الدورة الماضية، وكان ضمن المشاركين، جراء القصف الإسرائيلي لمطاري دمشق وحلب، حيث تزامن مع انعقاد المهرجان.
ضم البرنامج عددًا من الفعاليات، من بينها سبع ورش فنية مُصاحبة، في الإخراج المسرحي، والرقص المعاصر والأفريقي، والارتجال والغناء المسرحي، ومسرح العرائس والتمثيل، تحت إدارة مجموعة من المسرحيين والمختصين من مصر، وروسيا، والمغرب، ورواندا، والجزائر.
وضمّت قائمة المكرمين خمسة أسماء فنية، وهم: من مصر أحمد صيام، وعايدة فهمي، ورانيا عاطف، والممثل الشاب مصطفى أبو سريع، بالإضافة إلى المخرج والكاتب المسرحي العماني عماد الشنفري.
وحملت الدورة اسم الفنان فؤاد المهندس الذي رحل عن عالمنا سنة 2006 عن عمر يناهز الثمانين عامًا، ومشوار فني تجاوز النصف قرن.
أستاذ الكوميديا ومهندس البهجة
لم يقتصر عطاء فؤاد المهندس الفني على مجالي السينما والمسرح؛ وإن تميزت تجربته في الأخير عن بقية المجالات الفنية التي خاضها وبرع فيها، وربما كان أشهرها رحلته الإذاعية الممتدة لعدة عقود، والتي تنوعت بين البرامج والدراما الإذاعية، نذكر منها: "كلمتين وبس، ساعة لقلبك، العتبة جزاز... وغيرها"، هذا بخلاف بعض الاسكتشات الشهيرة، مثل "الراجل ده هيجنني، والصيام مش كده" وفوازير "عمو فؤاد" بأجزائها المتعددة. لقد ظل المسرح بمثابة الحب الأول للمهندس، حتى أن الناقد والسيناريست د. وليد يوسف حين كلف بتناول تجربة الأستاذ في كتاب يقول: "كنت أرى كناقد سينمائي أحقق كتابًا لمهرجان سينمائي أن تركيزي سيكون في الأساس على أفلامه، إن قيمة منجز المهندس في السينما محدودة مقارنة بعطائه المسرحي والإذاعي العظيم".
ورد ذلك ضمن مقدمة كتاب "فؤاد المهندس: الكوميديا الراقية والمشاعر الصادقة" الصادر عن مهرجان الإسكندرية السينمائي الدولي في دورته الأربعين ضمن الاحتفال بمئوية ميلاد المهندس، وقد سبق ذلك تكريم من مهرجان جمعية الفيلم تزامنًا مع انعقاد دورة اليوبيل الذهبي مع ذكرى ميلاد المهندس، كما تم الاحتفاء بكتاب "مهندس البهجة" للدكتور وليد الخشاب، والصادر عن دار المرايا للثقافة والفنون.
ولد فؤاد المهندس في حي العباسية بالقاهرة في السادس من سبتمبر/ أيلول 1924، وهو الابن الثالث ضمن أسرة د. زكي محمد المهندس، عميد كلية دار العلوم، وأحد الأسماء البارزة في تاريخ التعليم المصري، ولكونه رجل لغة في المقام الأول كانت الفُصحى في مأمن داخل منزله الذي شبهه بعضهم بالحصن، الأمر الذي انعكس بالطبع على الأبناء، وخلق بينهم وبين اللغة العربية علاقة وطيدة، سواء مع فؤاد، ومن قبله مع الإذاعية القديرة صفية المهندس، أخته الكبرى.
وكما هي العادة مع غالبية الفنانين، لم تخلُ بدايات الأخوين من معارضة الأسرة امتهانهما للفن. إلا أنه وبخلاف المعتاد، لم يكن الأب هو من يعارض ذلك، بل كان على العكس داعمًا للأخوين، وبالأخص فؤاد. وحدها الأم هي التي لم ترضَ عن ذلك، حتى أنها حين علمت بمشاركة ابنها ضمن مسرحية مدرسية، تسللت إلى خشبة مسرح مدرسة فؤاد الأول الثانوية (الحسينية حاليًا)، وانتظرت ظهوره على المسرح لتنهره بجملتها الحاسمة "انزل يا ولد". ولم يكن أمام فؤاد سوى الرضوخ لأمه والعودة معها إلى المنزل، حيث كانت تنتظره "علقة سخنة"، لكنها لم تمنعه من مواصلة حلمه حتى ولو في الخفاء، بعيدًا عن أعين الأم، كما روى في أكثر من حديث تلفزيوني سابق.
في المرحلة الجامعية، يخوض فؤاد تجربته الفارقة مع العملاق نجيب الريحاني، حين ذهب إليه لإجراء حوار بصفته أحد أعضاء فريق التمثيل في الجامعة. كان الريحاني مشغولًا كعادته، ولم ينتبه إلى فؤاد إلا بعد وقت، فبادره بطريقته المعهودة في الأفلام: "أنت مين وعايز إيه". حينئذ نزل على طالب كلية التجارة "سهم الله" كما يقول، ولم ينطق بكلمة سوى بعد محاولات من الريحاني لطمأنته، فإذا به يطلب من الريحاني إخراج مسرحية لفريق الجامعة. بعد إلحاح يوافق الريحاني، ويحصد الفريق "كأس يوسف وهبي" في التمثيل في أولى دوراته.
لقد مثَّل المسرح الجامعي نقطة انطلاق للمهندس، مثله مثل كثير من الفنانين، وهذا ما أكد عليه نجله محمد المهندس من خلال كلمته القصيرة عقب تسلم درع تكريم والده، الأمر الذي لامس أحلام عشرات الشباب المسرحيين المتواجدين في المهرجان من طلاب الجامعات.
نجوم من الجامعة
اعتمدت نسبة كبيرة من العروض المتنافسة هذا العام على نصوص وروايات، وهي سمة غالبًا ما يلجأ إليها كثير من الشباب لضمان جماهيرية العمل، رغم أن عددًا من المسرحيين يفضلون ذلك أيضًا عن النص المكتوب مباشرة للمسرح، وربما كانت مسرحية مثل "الجريمة والعقاب" خير دليل على هذا؛ حيث حظيت بنصيب الأسد من جوائز المهرجان: أفضل ديكور والمركز الثاني في التمثيل مناصفة (رجال ونساء) مع مسرحيتي "هنانة" (السعودية)، و"أجراس الدم" (العراق)، اللتين حظيتا بجائزتي أفضل عرض جماعي للأولى، وأفضل إضاءة للثانية، مناصفة مع المسرحية الأردنية "زلزال" للمخرجة الشابة ميس الزعبي، حيث لعب عنصر الإضاءة دورًا هامًا في دراما المسرحية التي تدور أحداثها بين عالمي الإنس والجن في إطار من السخرية المُرة، تبين لنا تفوق الأول على الأخير فيما بدر عنه من شرور، وقد حصدت جميع العروض المتنافسة على جائزة أو أكثر، باستثناء عرضين من سورية والمغرب، وهما "توركاريه"، و"الصمت".
كما حصد عرض دولة ضيف الشرف "قطرة من قمح" على جائزتي أفضل تمثيل نسائي/ مركز أول، وأفضل أزياء. وهو عرض ملحمي فانتازي من تأليف نائل الجرابعة، وإخراج عدنان البلوشي، الذي يصحبنا في رحلة تاريخية تدمج عددًا من الثقافات والشعوب، تشابهت في ما بينها قوى السلطة الحاكمة وصراعها الأزلي مع جموع الشعب. وبحصول عرضي "نهاية اللعبة"، و"حيث لا يراني أحد"، على جائزتي المركز الأول في التمثيل، وأفضل إخراج للأولى، وأفضل عرض مسرحي متكامل للثانية، تصبح الحصيلة فوز جميع العروض المصرية المشاركة. تنطلق أحداث "نهاية اللعبة" من المسرح الثنائي عن رائعة العبثي الشهير صمويل بيكيت، وقد حظيت المسرحية بحضور وتفاعل لافت، حتى أن أركان قاعة مسرح الهناجر احتشدت بالمشاهدين الذين لم يجدوا مقعدًا شاغرًا.
وحصد العرض الروماني "سفر التكوين الجديد" جائزة لجنة التحكيم الخاصة، وهو عرض يحتفي بمسرح الجسد، من إخراج جيمزا لازلو بيتر، الذي برع في توظيف مجموعة من كبيرة من الممثلين والمؤدين بمهارة، بما يخدم المنحى الفلسفي للنص في رحلة البحث عن ناموس جديد ربما تجد فيه البشرية خلاصها بعيدًا عن تحيزات الأديان.
بخلاف هذا، احتوى برنامج المهرجان على ثلاث مسابقات موازية، هي: "مسابقة سامية حبيب للنقد المسرحي التطبيقي"، التي تفتح المجال للنقاد من الشباب للكتابة عن العروض المقدمة في دورة المهرجان. وفاز بالمركز الأول كريم خالد عن مقاله "الجن أصبح أكثر إنسانية من البشر" عن مسرحية "زلزال"، وجاءت في المركز الثاني مقالة "هل نعاقب على اختيارنا" للكاتبة جاسمين عاطف عن مسرحية "الجريمة والعقاب"، أما المركز الثالث فذهب إلى ندى مرجان عن مقالتها "عقارب تدور بلا نهاية" عن العرض المسرحي "حيث لا يراني أحد". وفي مسابقة "محمود نسيم للتأليف المسرحي" فاز كل من مونيكا جوزيف (المركز الأول ــ سيري)، وشادي السعيد (المركز الثاني ــ الدجاجة)، وأحمد محمد من لبنان عن نص "بافوميت".
ضمت مسابقة نجم الجامعة عددًا كبيرًا من المواهب، بما يتجاوز العشرين موهبة. وقد أتيحت لكل منهم عشر دقائق لتقديم فقرته، والتي تنوعت بين التمثيل والستاند آب كوميدي والاستكشات والغناء والتعبير الحركي، فضلًا عن إلقاء الشعر بالعربية الفصحى، واللهجة العامية. ومن بين المشتركين ألقى أحد الطلاب قصيدة قديمة لشاعر من غزة تؤكد على أن كل احتلال زائل لا محالة، وستبقى فلسطين ما بقيت الحياة، كما كان يقول الرئيس الفلسطيني ياسر عرفات "شاء من شاء وأبى من أبى".