}

التراويد: أغاني الفلسطينيات المُشفّرة لإيصال رسائل الثوار

أوس يعقوب 14 فبراير 2024
موسيقى التراويد: أغاني الفلسطينيات المُشفّرة لإيصال رسائل الثوار
التراويد والثوب الفلسطيني التقليدي

التراويد، ومفردها ترويدة، وتسمّى أيضًا الملولة، هي نوع من الفولكلور الغنائي الفلسطيني انتشر في ثلاثينيات القرن العشرين، وتحديدًا مطلع الثورة الفلسطينية الكبرى سنة 1936، عندما عمدت قوات الاحتلال البريطاني إلى قطع كلّ أساليب التواصل بين الثوار والقرى ومحيطها، وقد صيغت كلماتها لتبدو كشيفرة حتّى لا يتسنى للمحتلّ أن يفهم المراد منها وإدراك معناها، بخاصّة أنّها استخدمت في نقل الرسائل بين المعتقلين وأهاليهم، كما استخدمتها النساء في نقل رسائل الأخبار، والتحذيرات للثوار.
ووفقًا لمصادر فلسطينية، فإنّه من الصعب تحديد الفترة التي ظهر فيها هذا النوع من الغناء المُشفّر في فلسطين بدقة، لكن يُرجح أنّه ظهر مع نهاية الاحتلال العثماني، وبداية ما يعرف بالانتداب البريطاني.
وفكرة التشفير قائمة على أساس قلب الحرف الأخير من كلّ كلمة، وإضافة حرف اللام بكثرة بين الكلمات، بحيث تبدو، للوهلة الأولى، وكأنّ كلماتها أشبه بتعويذة! والغرض من ذلك التمويه على معاني الكلمات المقصودة، وعليه كان في إمكان النساء أن يغنيّن الأغنية في حضور جنود الاحتلال العثماني ومن بعده البريطاني، من دون أن يفهموا معناها، فيما يصنف على أنّه لغة تمّ اختراعها لغايات نضالية. ففي تلك الفترة شهدت فلسطين بداية ظهور حركات مقاومة نسائية مثل "رفيقات القسام"، و"زهرة الأقحوان"، وتعدّدت أدوار المرأة الفلسطينية في المقاومة، فعملن على إخفاء السلاح وإيصاله مع الطعام إلى الفدائيين في الجبال، ونقل الرسائل الهامّة للثوار.
وتُحكم الترويدة بإيقاع معين يعتمد على الإلقاء بدرجة كبيرة، فالإلقاء منغم ويحمل موسيقاه الخاصة، لأنّه قديمًا لم يكن يؤدّى بصحبة أيّ آلات موسيقية، وكانت النساء تغنّيه بشكل جماعي، وبأصواتهنّ يخلقن ذلك الإيقاع.
وقد استمرّ الفلسطينيون يتعاملون بتلك اللغة/ الشيفرة حتّى بعد النكبة عام 1948، فإلى يومنا هذا نجد في عدد من المخيّمات الفلسطينية في الوطن والشتات نساء يجدنَ غناء التراويد، لكنّ عدد من يتذكر منهنّ كلماتها يتضاءل يومًا بعد يوم، الأمر الذي دعا المهتمّين بهذا النوع من الفنّ إلى التحذير منذ سنوات من تعرّضه لخطر الانقراض ما لم يُحافظ عليه.




يذكر الكاتب التونسي هيكل الحزقي، في مقالته "بالحبر السري... عن التشفير كلغة وحيلة في الموسيقى العربية"، أنّه "ظهرت جهود جبارة لإعادة صياغة المنسي من ذلك التاريخ بالاعتماد على منهجية بحث تقوم على الإصغاء الواعي لشهادات شفوية ممّن عاصروا تلك الفترة، أو سمعوا عنها، وترتيب المعلومات والأفكار إثر ذلك، وهو ما حرصت على القيام به الدكتورة فيحاء عبد الهادي، التي أرّخت للمساهمة السياسية للمرأة الفلسطينية منذ الثلاثينيات حتى سنة 1982، ووثقت عددًا من روايات النساء". يضيف الحزقي: "تشير الدكتورة فيحاء في مؤلّفها حول أدوار المرأة الفلسطينية في الثلاثينيات إلى أنّ المرأة الفلسطينية كانت تعمل على إخفاء السلاح، وتوصيله مع التموين الغذائي لرجال المقاومة في الجبال على الدابة، وكذلك نقل الرسائل السرية من وإلى المقاومين، والقيام بمهمّات الاستطلاع، وإعطاء الإشارة للقيام بالعمليات العسكرية، وإخفاء رجال المقاومة عن الإنكليز، وتسهيل تهريبهم، وابتكار مختلف الوسائل في هذه الأعمال. تشير الأغنية إلى هذه الأدوار للمرأة الفلسطينية تضمينًا وتلميحًا".
وشهدت فترة الانتفاضة الفلسطينية الأولى في أواخر الثمانينيات إحياءً وتوثيقًا للأغاني الفولكلورية، ومنها التراويد، وكانت هناك حملة واسعة لجمع التراث الشعبي المشتت الذي أصبح طي النسيان، أو نُهب، أو دُمّر، أو فُقد، على مرّ السنين.

فنٌّ أبدعته نساء فلسطين

التراويد فن غنائي أبدعته النساء دعمًًا للثوار الفلسسطينيين في ثورة 1936


استطاعت المرأة الفلسطينية منذ قرون أن تحافظ على التراث الشعبي ودعم المقاومة من خلال غناء التراويد. هذا الفنّ أبدعته الجماعة، فهو لا ينسب إلى شخصية بعينها، وقد عمل جيل جديد من الفنانات الفلسطينيات، مثل ريم بنا، وتريز سليمان، وسناء موسى، ورلى عازر، وسلوى جرادات، على حفظ هذا الإرث للأجيال القادمة.
ولأنّه غالبًا ما تُعرّف الترويدة خطأ على أنّها نوع موسيقي، تُوضح المغنّية والباحثة في التراث الفلسطيني، سناء موسى، أنّ كلمة ترويدة تعني ببساطة "أغنية" في اللغة العامية.
وتغنّي موسى بعض هذه التراويد، وتقدم شروحًا لها، في برنامجها التلفزيوني "ترويدة"، وتراها تجوب المدن والقرى الفلسطينية ومخيّمات اللجوء في الشتات، لتسمع تلك التراويد بنفسها من نساء جيل النكبة الأوّل، وتأخذ عنهنّ طريقة الغناء الأصلية.
تشير المصادر الفلسطينية إلى أنّ كلمة التراويد مأخوذة من الفعل "رَوَّدَ" أيّ ردّد لحنًا وكرّره. وهذا اللّحن يتكرّر رغم التغيّرات التي تطرأ على كلمات الأغاني وموضوعاتها. لكنّ العبارات الافتتاحية والختامية تظلّ ثابتة حتى لو تغيّر المضمون، أو عُدّل.
فيما تذهب بعض المصادر إلى أنّ كلمة ترويدة مأخوذة من "وِرد" بمعنى "يا واردات على النبع"، أيّ القدوم إلى النبع، والبدء بتعبئة الماء. كانت النساء الفلسطينيات يغنّينَ الأهازيج وهنّ على نبع الماء، ويبدأنّ بتحدّي بعضهنّ بعضًا بتلك الأهازيج "يا واردات على النبع والميِّ سيالة طلّ الحبيب من صفد والعين ميّالة".





والمعروف أنّ الأغاني الشعبية الفلسطينية هي أغانٍ ريفية متنوّعة في أدائها، وتتميّز بلحنها البسيط والحزين ولغتها المحكية، وهي ترتبط ارتباطًا وثيقًا بالحفاظ على الهوية الفلسطينية، إلى جانب ما يميّزها من عادات وتقاليد وطقوس احتفالية وملابس وطعام تقليدي، وما إلى ذلك.
وتغنّي النساء التراويد في المناسبات الوطنية، وكذلك الاجتماعية، كمواسم الحصاد، أو قدوم فصل الربيع، أو الذهاب إلى جداول المياه للحصول على الماء، أو غسل الملابس، أو في ليالي الحناء والأعراس، خاصّة في القرى والأرياف.

"شمالي" أشهرها
أشهر أنواع التراويد ترويدة "شمالي"، التي تعني باللغة العربية "أغنية الشمال"، أو "ترنيمة العشاق"، والتي تروي قصة تحرير بعض الفدائيين الفلسطينيين من الأسر في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي. وظهرت من جديد وتردّد صداها بعد هروب ستة أسرى فلسطينيين من سجن جلبوع الإسرائيلي في شهر سبتمبر/ أيلول 2021.
وهذه الترويدة في الأصل أغنية حبّ، وتحمل في مضمونها معاني مختلفة عن الحزن والشوق والحبّ، تقول كلماتها:

"شمالي يا هوا الديرة شمالي
على اللي بوابهم تفتح شمالي
وأنا الليلة لبعث مع الريح الشمالي
يوصل ويدور على الحباب يابا
يا هوا روح سلملي عليهم
وطالت الغربة واشتقنا لهم
يا طير روح للأحباب ووصل لهم
وصلهم ودورلي على ناس لي منهم
وسلم لي على المحبوب وميل عليهم
وسرب ولا تخرب يا عالي الراس
وإن سربت روح مع السلامة".

أمّا ترويدة "يا طالعين الجبل" فكانت بمثابة البشرى للأسرى الفلسطينيين من المعتقل البريطاني، وتروي هذه الأغنية قصّة تحرير بعض الفدائيين الفلسطينيين من الأسر في منتصف الثلاثينيات من القرن الماضي. وتغنّى على هذا النحو:
"يا طالعين عين للل الجبل يا موللل الموقدين النار
بين لللل يامان يامان عين للل هنا يا روح
ما بدي منكي لللكم خلعة ولا لالالا لابدي ملبوس
بين للل يامان يامان
عين للل الهنا يا روح
ما بدي منكي لللكم خلعة ولا لالالالا بدي زنار
بين للل يامان يامان
عين للل الهنا يا روح"
قدّمت المغنّية والموسيقية والملحنة الفلسطينية، تريز سليمان، ترويدة "يا طالعين الجبل" في ألبوم صدر سنة 2016. وتوضّح تريز أنّه في كثير من الأحيان كانت هذه الأغاني المُشفّرة تُستخدم لحماية الممتلكات وتنبيه الجيران بشأن التهديدات وعمليات السرقة.
وهناك ترويدة "لا تطلعي"، التي ترتبط بالزفاف، والتي قامت سناء موسى بإعادة توزيعها وغنائها سنة 2010. تُغنى هذه الأغنية الحزينة لتوديع العروس الجديدة قبل أن تترك منزل والديها وتذهب إلى منزل زوجها.

                                 ترويدة الخليل "يا حلولبنا"- أداء سناء موسى


مراجع:
ــ د. عبد اللطيف البرغوثي، كتاب "الأغاني الشعبية العربية في فلسطين والأردن"، جامعة بير زيت، مكتب الوثائق والأبحاث، سنة 1979.
ــ كريستينا حزبون،  "الأغاني الشعبية الفلسطينية... إرث ثري حافظت عليه النساء عبر الزمن"، موقع "نون بوست"، 24/12/2021.
ــ هيكل الحزقي، "بالحبر السري... عن التشفير كلغة وحيلة في الموسيقى العربية"، موقع مجلة معازف"، 19/03/2017.
ــ محمود العطار، ""يا بلح زغلول" و"الليلة يا سمرا"... كيف أجادت الشعوب العربية "تشفير" أغانيها؟"، موقع "عربي بوست"، 18/ 11/ 2021.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.