}

ستوديو جيبلي: مغامرة بصرية وفكرية مع الرسوم المتحركة

مناهل السهوي 15 مارس 2024
سينما ستوديو جيبلي: مغامرة بصرية وفكرية مع الرسوم المتحركة
يُنظَر إلى ميازاكي كمصدر فخر لليابان


ما زالت تدهشني المشاهد المصورة لستوديو جيبلي، ومثل كثيرين، تمكنت أفلامه أن تأخذ مكانًا دائمًا في قائمة أفلامي المفضلة، ليست مجرد رسومٍ متحركة، أو أنمي، بل هي أكثر من ذلك، فخلف تلك الرسومات المتقنة والشخصيات اللطيفة هنالك عمل شديد الإتقان، وقصة تستحق الروي عن طريق الخيال. تمكن ستوديو جيبلي الياباني من ترك حالة سينمائية خاصة في العالم، عن طريق عمق منتجه، وخصوصية حكاياته، بالإضافة إلى الرسم المدهش للطبيعة والشخصيات والتفاصيل الأخرى، ما جعل هذا العالم يحتل مكانًا خاصًا بين شرائح واسعة من المشاهدين، ليس بين الأطفال وحسب، بل من الكبار، وحتى محبي السينما.

استخدام الخيال لتغيير وجهات النظر
تأسس ستوديو جيبلي عام 1985 في اليابان على يد هاياو ميازاكي، وإيزاو تاكاهاتا، ويقدم أفلام الأنمي، وهو المصطلح المرادف لكلمة أنيمشن (أفلام الرسوم المتحركة الغربية)، لكنْ هنالك اتفاق عالمي على إطلاق مصطلح الأنمي على تلك الخاصة باليابان.
تركت أفلام ميازاكي بشكل خاص بصمة قوية في العالم، واليوم ينظر إلى المخرج ذي الـ 82 عامًا كمصدر فخر لليابان. معجبو ميازاكي، وستوديو جيبلي، ليسوا من محبي الرسوم المتحركة وحسب، بل أيضًا من محبي السينما في جميع أنحاء العالم، ساهم فيلم Spirited Away، بشكل خاص، في ترك مكانة مرموقة للستوديو، ولمخرجه، بعد فوزه بالجائزة الكبرى في مهرجان برلين السينمائي، وجائزة الدب الذهبي، وجائزة أوسكار أفضل رسوم متحركة لعام 2003، كما تركت أعماله أثرًا في السينما الحديثة، فقال المخرج الكندي جيمس كاميرون بأن سلسلة أفاتار الشهيرة التي أنتجها تأثرت بالأميرة مونونوكي، أحد أعمال ميازاكي.
حكايات ميازاكي ليست مباشرة عن الخير ضد الشر، لا تهدف إلى خلق صراع تقليدي، بل انسجام من نوع ما، وفهم أعمق للحالة الإنسانية، أو لإحدى وجوهها، قصص معقدة وغنية، هدفها النهائي هو استعادة الانسجام، أو تحقيق فهم أعمق، بدلًا من قتل الوحش، أو إنقاذ الأميرة، تتصارع الحكايات مع موضوعات التدمير البيئي، والتقدم التكنولوجي، وحقوق المرأة، ورأس المال والعمالة، كل ذلك ضمن مغامرة خيالية مليئة بالإثارة لن تشعر فيها للحظة أنك تشاهد فيلمًا قد يغير رؤيتك للتقدم التكنولوجي الجنوني بطريقة خيالية!
يستخدم الستوديو أسلوبًا مميزًا في الرسوم المتحركة المرسومة والقصص الخيالية الغريبة لاستكشاف موضوعات عميقة، مثل الحزن والخسارة والقلق وإزالة الغابات والرأسمالية والعواقب المدمرة للحرب وآثار النمو السكاني، كل ذلك من خلال الخيال مستكشفًا المواضيع الأصيلة والصعبة بجعلها قابلة للفهم من قبل جميع الأعمار.

بطلات جيبلي هن سيدات مصائرهن
كسر ميازاكي الصورة النمطية للنساء في اليابان حتى في أشكال البطلات، وفي مقابل صناعة مرئية تصرّ بمعظمها على إضفاء طابع جنسي على النساء وتجاربهن وتقديمهن ضمن قوالب محددة فعل ميازاكي العكس، فقدم نساء وفتيات اعتياديات، من جميع الأعمار والأشكال، ضمن أدوار فيها مساحة آمنة للحكايات النسوية، فتتحرك وتنمو الشخصيات على طبيعتها.

لقطة من أحد أفلام ميازاكي 


قال ميازاكي سابقًا إن عددًا من أبطال أفلامه نساء وفتيات قويات، شجاعات ومكتفيات ذاتيًا، ولا يفكرن مرتين في القتال من أجل ما يؤمنّ به، وسيحتجن فقط إلى صديق، أو مؤيد، لكنهن لن يحتجن إلى منقذ. يستبدل ميازاكي المرأة التي تحتاج إلى منقذ بتلك التي تمتلك صديقًا، أو شريكًا، يدعمها، وبدلًا من التركيز على الرومانسية بين الشخصيات، يستكشف ميازاكي عددًا من القصص الذاتية للشباب، علاقتهم بالطبيعة، والحياة العصرية، والتطوّر الصناعي والتكنولوجي.




بطلات جيبلي هن سيدات مصائرهن، كما أنهن يأخذن أدوارًا داعمة لنظيراتهن من الإناث، على عكس أفلام ديزني، والتي كانت الفتيات يتنافسن فيها. تدعم بطلات جيبلي بعضهن لإيجاد مسارهن الخاص، مثلًا، في فيلم (Nausican of the Valley of the Wind) نوسيكان بطلة وادي الرياح هي امرأة قوية ولطيفة في الوقت ذاته، فهي قائدة لا تعرف الخوف، ولكنها أيضًا لطيفة وكريمة.
تركت أفلام جيبلي صدًى قويًا لدى شرائح واسعة، وخاصة النساء، إذ أن الرسائل والشخصيات الحقيقية تؤكد على فكرة جوهرية هي أننا جميعًا فريدون ونمتلك أصواتًا خاصة وتجارب مهمة بغض النظر عمن نكونه، أو نريده.
في فيلم Spirited Awa، الذي يدور حول فتاة صغيرة تدعى تشيهيرو، أُجبرت على تولي وظيفة في الحمام من أجل البقاء في مدينة الأرواح، وإنقاذ والديها، تمكن ميازاكي بذكاء وخفة من الربط بين موضوعات مثل كوارث المجتمع الرأسمالي، ومخاطر ثقافة الاستهلاك المفرط، كما تناول الطرق التي يتمسك بها الناس بمرحلة معينة من حياتهم، رافضين المضي قدمًا والتخلي عن راحة ما هو مألوف، لذلك يفشلون في النمو والتطور.
طبيعة تشيهيرو العادية هي مصدر قوتها، لأنها مثل أي طفل آخر، وبالتالي يمكن التعرف عليها بسهولة، توصف في الفيلم بأنها شقية وصغيرة، وهو عكس ما هو متوقع عادة من البطلة. وهنا يكمن إنجاز ميازاكي الرائع في تصوير الأنوثة بطريقة أكثر واقعية. تشيهيرو فتاة عادية تصبح بطلة حكايتها، ومن ثم مثالًا للفتيات حول العالم. يتلاعب المخرج بالصور النمطية، ويعيد إلى الحياة نساءً يخالفن اتجاه الكليشيهات في أفلام الرسوم المتحركة، لكنهن قابلات للتصديق ومحبوبات، وقد بدأ بذلك في الحقيقة منذ وقت طويل، قبل حتى أن تفكر ستوديوهات أخرى، كستوديو ديزني، في تغيير الصور النمطية للفتيات.
في Howl's Moving Castle، تُلعن البطلة صوفيا، فتتحول إلى عجوز، ثم تجد عملًا كمدبرة منزل لساحر نرجسي، وتتورط في مقاومته للحرب الدائرة بين الممالك. وإلى حد كبير، يبدو أن هذا الفيلم كان رد فعل ميازاكي السينمائي على الصراع في العراق، قصة قوية ومؤثرة عن الهوية الداخلية والجمال.
تتمكن صوفيا من استكشاف الجمال وتحدي نفسها، حتى وهي عجوز ومتعبة، لتعيش مرحلة عكسية، فتعود من التقدم في العمر إلى سن الشباب، مع تطور تجاربها.

دعوة إلى حب الطبيعة
كل من تابع أفلام ستوديو جيبلي شدته من دون شك المناظر الطبيعية الخضراء الممتدة، الزهور والمروج التي رسمت بدقة وفن لا مثيل لهما ساحات خضراء مترامية الأطراف، وغابات قديمة كانت موطنًا لمخلوقات رائعة، وأحيانًا أسطورية. يعكس الاهتمام بالتفاصيل احترام ميازاكي الكبير للطبيعة، ويمكن لمس موضوع حماية البيئة في أعماله، بعضها بشكل صريح، والآخر بشكل أقل وضوحًا.
هل يمكن نسيان آلهة الذئاب الكئيبة التي تجوب عالم الأميرة مونونوكي؟ أو المخلوق العجيب توتورو، الذي بات ذا شعبية عالمية؟ لكن أحد أقوى المشاهد الذي يصور كيف أثر التطور الصناعي على الطبيعة في فيلم Spirited Away حين تصل روح نتنة إلى الحمام، حيث أُجبرت بطلة القصة تشيهيرو على تولي العمل. الضيف القادم للاستحمام هو عبارة عن كتلة نازّة من الطين تجبر رائحتها النتنة الجميع على الهرب بعيدًا في حالة من الاشمئزاز. أثناء عمل البطلة، وتزويد الضيف بالمياه، تلاحظ وجود قطعة حديدية مغروسة في جانبه، وبمساعدة بقية العاملين في الحمام، نجحت تشيهيرو في إخراج القطعة، فيما يشبه بداية لخروج كمية مرعبة من الأشياء الصناعية والحديدية الأخرى، كدراجة، وقطع أثاث قديمة، وقمامة، في النهاية يغادر الضيف في شكله الحقيقي، روح ضاحكة.
إن الطبيعة في ستوديو جيبلي ليست بيئة مادية مجردة، إنما تمتلك روحًا واضحة، كما في فيلم نوسيكا، حيث يعد بحر الاضمحلال جميلًا وسامًا وقاتلًا ومتجددًا في الوقت نفسه، وبالتالي فالعالم الطبيعي مشحون بإحساس وقوة غالبًا ما يتم إنكارهما في الخطاب السائد. ولكن الستوديو يركز أكثر على علاقة الإنسان بالطبيعة، وليس على أهمية الطبيعة، وكيف يمكن أن تغير علاقتنا بالطبيعة من نظرتنا إلى أنفسنا وأهدافنا وأحلامنا.
بطريقة ساحرة، لا يعلمنا ستوديو جيبلي أن نحمي البيئة، لأننا مضطرون إلى ذلك، ولأن البشر سينقرضون فيما لو استمر التغير المناخي، أو لأن هذا هو الشيء الوحيد الذي يجب أن نقوم به، إنما يدعونا لفعل ذلك لأنه أمر جميل ودافئ، ويجعلنا نشعر بإنسانيتنا عميقًا، ويدفعنا لاحترام العالم من حولنا.
في "الأميرة مونونوكي" (1997)، يحاول ميازاكي تحقيق توازن بين البشر والطبيعة، تدور أحداث الفيلم في القرن الرابع عشر في اليابان، حيث تخوض مجموعات مختلفة من الناس، وأرواح الغابة، معارك مستمرة لتحقيق ازدهارها ونموها الخاص. معارك بين مستعمرة التعدين التي أثارت غضب أرواح الغابة، وبين أرواح الغابة. لا يحتوي هذا الفيلم على أي أشرار، ولا إحساس ملموس بالعدالة، رغم أنه يصور الصراعات بين البشر والطبيعة، إلا أن الجمهور قد يرى الخير في كلا الجانبين تمامًا.
على الجانب الآخر، هنالك أفلام لم تسعَ بشكل مباشر إلى تقديم مشاكل الطبيعة، أو أثر الإنسان المدمر عليها، كما في فيلم (Totoro) 1988، الذي يعكس مدى إعجاب الشعب الياباني بالطبيعة، واحترامها من خلال الاعتقاد بوجود أرواح للغابات والأنهار والجبال. هذه الأفلام ليست مستفزة بيئيًا، مثل "الأميرة مونونوكي"، و"نوسيكا"، لكنها تحرك رابطًا عجيبًا في علاقتنا مع اللون الاخضر والطبيعة.
ستوديو جيبلي هو مغامرة بصرية وفكرية، حيث ستلامس المشاهد الفريدة أجزاء كثيرة داخلنا، وستترك داخلنا فهمًا مختلفًا للحياة والعلاقات والطبيعة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.