}

قلق الكتابة عند كتّاب عرب: في عزلة الكاتب وحصاره

مناهل السهوي 4 مارس 2024
هنا/الآن قلق الكتابة عند كتّاب عرب: في عزلة الكاتب وحصاره
(مارك برادفورد)

القلق من الكتابة هو مصطلح يشير إلى مشاعر من القلق والتشاؤم وعدم الراحة تجاه الكتابة، كما يسمى أيضًا بحبسة الكاتب، أو عزلة الكتابة، أو حصار الكاتب، فيغدو الكاتب غير قادرٍ على تكوين فكرة، أو صياغتها، أو متابعة عمل أدبيّ. وقد يتوقف بعض الكتاب لسنوات، عاجزين عن كتابة عمل جيد، أو مرضٍ.
في هذا التحقيق، توجَّهنا إلى عدد من الكاتبات والكتاب العرب للإجابة عن سؤال قلق الكتابة وأسبابه وحلوله.

باسكال صوما (كاتبة لبنانية):

موت القلق يعني موت الكاتب!




لا شيء يوجع الكاتب كما تفعل الكتابة، ولا شيء يعيد إليه روحه كما تستطيع الكتابة. إنها المحرّك الخفيّ لكل ما يمرّ به الكاتب في أعماقه. لقد مررت بالفعل بمراحل صعبة جدًا، اجتاحتني خلالها موجات عاتية من قلق الكتابة من جهة، وقلق التوقف عن الكتابة من جهة أخرى.
ولأعترفْ، الرعب الكبير هو التوقف عن الكتابة، وهو أمر لا يمكن حسم ظروفه، فقد تقاطعنا الكتابة بسبب ومن دون سبب، وفي فترات وظروف مختلفة، قد تقاطعنا في فترات العشق، أو في مساءات الحزن، أو حتى حين تأخذني الحياة إلى متاهات جديدة. وتعرف الكتابة أنها تستطيع ذلك، وأننا لا نملك سوى انتظار انتهاء المقاطعة، حتى نستعيد أنفسنا وعافيتنا.
لا يستطيع الكاتب أن يكون بكامل عافيته حين لا يكتب بالفعل، وأقصد بذلك أن يكون راضيًا وممتنًا لما قدّمه، وهو أمر لا يحصل كل يوم، حتى حين تتحول الكتابة إلى مهنة، أو عمل يومي. لكن الكتابة بمعناها العميق والحقيقي لا تحصل كل يوم، وأعتقد أنني أعيش على انتظار لحظة الكتابة هذه، ويؤلمني حين تتأخر وأمضي فترات طويلة من دون أن أشعر بأنني كتبت بالفعل، حتى إن كنتُ أكتب مقالات يومية، وهو شيء يشبه الحرمان والكبت.
أما القلق من القرّاء، أو من رأي الجمهور، فهو أمر آخر. لكنّ المقلق أيضًا في مكان هو تراجع عدد القراء وقلة حيلة الجمهور، لا سيما في زمن "الريلز"، و"التيك توك لايف". السوشيال ميديا مسلية أكثر من الكُتب بالنسبة إلى كثيرين، كما أنها لا تحمّل المتلقي إجمالًا أعباء نفسية، ولا تطلب منه سوى التمدد على كنبته والتقليب في هاتفه، وبذلك يجاري العصر، ويشبه أبناء جيله، بخاصة إذا تحدثنا عن الشباب والمراهقين، هؤلاء لا أعرف إن كانت الكتابة، أو المطالعة، أمورًا في بالهم أصلًا، طبعًا باستثناء بعض الفئات التي تحب هذا المجال.
وهذا قلق آخر لدى الكاتب، أن يستطيع التسلل إلى قارئ اليوم، والتعبير عنه، واجتذابه، وهي مسألة مملوءة بالتعقيدات والأسئلة، ماذا يريد قارئ اليوم؟ ما هي همومه التي في إمكان الأدب أن يتناولها؟ وكيف يمكن الدخول إلى الهواتف المحمولة، إيقاف حبال "الريلز" الطويلة، والوصول إلى قلب المتلقي وعالمه.
حتى إنني شخصيًا في بعض الأحيان أشعر بأنني لم أعد أكتب من أجل أحد، ولم أعد أكتب حتى يقرأ أحد، هي مسألة تقوم على رغبتي في الشعور بالحرية تمامًا حين أكتب، حتى أقول ما أشاء بغض النظر عمن سيقرأ، لكنها أيضًا مسألة متعلقة بالعصر الحالي وتعقيداته، وسؤال إن كنتُ أريد أن أواصل المحاولة للحصول على شهرة، أو حيثية ما، في عالم تجتاحه السوشيال ميديا، وأدوات السرعة. هل حقًا هذا ما أريده؟ هو سؤال آخر عن القلق.
أن يعيش الكاتب فهذا يعني أن يقلق، وأظن أن موت القلق هو موت للكاتب أيضًا، وإن كان القلق مميتًا بذاته في بعض الأحيان. لكنه هو ما يحركنا فعلًا نحو الكتابة، ونحو طرح الأسئلة، والبحث والسهر من أجل نص أو فكرة، ما يحرّكنا هو القلق، وربما علينا أن نكون ممتنّين للقلق، وإن كان هو في ذاته أكثر ما يؤلمنا! موت القلق يعني موت الكاتب!

رأفت حكمت (قاص وشاعر سوري):
لحظة الكتابة لن تأتي قبل أوانها


يختلف الأمر بين كاتب وآخر في ما يتعلق بقول أو رفض وجود مثل هذه الظاهرة، كما تختلف، أيضًا، المصطلحات المستخدمة للتعبير عنها، وذلك تبعًا للنوع الأدبي الّذي يعمل الكاتب تحتَ مظلّته. بالنسبة لي، لا أرى أن حالة العجز عن الكتابة مرتبطة بالقلق، لا من قريب ولا من بعيد. قد أتفق مع كلمة "حصار" الواردة في تعريف المصطلح الثاني، لكنّني أميل شخصيًا إلى التعبير عن هذه الحالة بمصطلح " البلوك"، أو المعرّب منه "العزل"، حيث أجد نفسي في كثير من الفترات المتقطعة "معزولًا" عن اللغة بشكل مفاجئ، كأنّ دماغي غير قادر إلا على التفكير بالكلمات فقط، وبمجرد محاولة تدوينها، أو كتابتها، تختفي مباشرة، أقصد أنني خلال هذه الفترة أستطيع ان أصيغ في رأسي نصًا ما، أو قصة ربما، كمونولوج داخلي، لكنّني أعجز تمامًا عن كتابة جملة واحدة منها.
هذه الحالة، التي أراها "صحيّة" بالنسبة لي، تمرّ بي في كثير من الأوقات، وتقصدت هنا أن أقول تمر بي، وليس أمرّ بها، وقد لا أبالغ إذا قلت إنّ الفترات التي أجد فيها نفسي داخل حالة "البلوك" تفوق بضعفين، أو ثلاثة أضعاف، الفترات الّتي أكون فيها قادرًا على الكتابة، لكنّ الفرق هنا يتجلّى في كميّة ما أستطيع إنجازه عندما أكون خارج حالة "البلوك".
أرى أن هذه الحالة صحيّة، لأنّ الدماغ يحتاج إلى فترات بين الحين والآخر لا يكون فيها سوى مستقبِلٍ، ويظل كذلك إلى أن يمتلئ، لتأتي لحظة الكتابة، والتي يطلق عليها كثيرون "لحظة نزول الوحي"، هذا التعبير الأقرب إلى أسطرة مجتمع "الكتاب والشعراء" من دون غيرهم، بغض النظر إن كنت أتفق معه أم لا.
خلال فترة "البلوك"، الّتي أدركها تمامًا عندما تقع عليّ، أشغل نفسي بالقراءة فقط، ولا تغريني الأفكار الكثيرة الّتي تبدأ بالغليان في رأسي، أن أكتبها، إنّما أتركها على مهلها، لتهدأ وتختمر، مع إيماني الكامل، أنّها في لحظة ما ستنفجر "نصوصًا مكتوبة" على الورق، ربّما ستكون أكثر أهمية ممّا هي عليه في رأسي، بشرط لا أتجاوزه، وهو إيماني التّام أن لحظة الكتابة لن تأتي قبل أوانها، وأن آخر شيء عليّ أن أشعر به خلال هذه الفترة هو القلق.
لا توجد بالنسبة لي أي أساليب محددة لتجاوز هذه الحالة، لأنّني أصلًا لا أفكر بطريقة تساعدني على تجاوزها، إنّما فقط أتعامل معها، كحالة لا تقل أهميّة عن الحالة الّتي أكون فيها في أوج قدرتي على الكتابة. وقد لا أبالغ مرة أخرى إذا قلت إنّ أغلب النصوص التي كتبتها وكنت راضيًا عنها، سواء في القصة، أو الشعر، جاءت مباشرة بعد فترات طويلة (قد تدوم لأشهر) من "البلوك الكتابي".

عبير سليمان (شاعرة سوريّة):
أعيش نوعًا إيجابيًا مِن القلق


أعتقد أن قلق الكتابة حالةٌ عاشها كثير من الكتاب، وهي تشبه شعور البحّار الذي قذفته العاصفة بعيدًا عن مساره، فرأى نفسه وسط البحر، من دون بوصلة، عاجزًا عن تحديد وجهته.
يزداد القلق بازدياد الشعور بالمسؤولية، وهذا يدلّ على كاتبٍ يتعامل بأمانة والتزام مع النص والقارىء، ويدفعه ليطوّر تقنياته وينوّع أدواته ويعزز قراءاته الثقافية والأدبية، ليغني أفكاره ومفرداته، وبالتالي نصّه الأدبي، سواء كان شعرًا، أو قصة، أو رواية. ومع زمن شبكات التواصل، من الطبيعي أن يتفاقم القلق، لأن المحكمة منعقدة طوال الوقت، وهيئة المحلفين، أي المتابعين طبعًا، جاهزة سلفًا لإصدار الحكم، مما يجعل الكاتب منشغلًا بها وبِردّات أفعالها، فيتردّد أو يمتنع عن مواصلة الكتابة في حال لم يلقَ الصدى المطلوب. مِثل هذه الأحكام مضللة للغاية، لأنها ليست مقياسًا على الإطلاق، ولا ترقى لمجال التقييم الحقيقي، لا للنص، ولا للكاتب.
مِن الطبيعي أنني عانيتُ قلق الكتابة في مناسبات عدة، فتفاوتَ الأمر بين قلقٍ شديدٍ، وآخر عابر، إلّا أنه لم يجعلني في قطيعة مع الكتابة، بل ربّما خلق نوعًا مِن التحدّي الذاتي، أو العناد، أو الرهان، بأنني أستطيع تجاوز الأمر، لإرضاء نفسي أولًا قبل التفكير بإرضاء الآخرين.
أوّل مرة نشرتُ فيها قصيدةً على فيسبوك، أي قبل حوالي 14 عامًا، لم أتجرأ على مواجهة كل أولئك الغرباء عنّي، الذين سيأتون بانطباعاتهم وأحكامهم، فقمتُ بتغيير صورتي الشخصية، ووضعتُ مكانها صورة لوحة تشكيلية، بهذا حاولتُ تفادي ردّات الفعل غير المحسوبة. أسُوق هذه الذكرى لِأصف طبيعة الضغط الذي يواجه الكتّاب هذه الأيام، مما قد يؤثر على تجربتهم سلبًا إذا لم يتقنوا التعامل مع العالم المحيط بهم، أو يعملوا على صقل مشاريعهم الأدبية وتطويرها، بعيدًا عن التشويشٍ وسوء التقييم.
أظنّ أن الذين رفضوا فكرة وجود قلق الكتابة تمتّعوا بشغفٍ كبيرٍ جارفٍ، أو ربما كانوا يكتبون ضمن وسطٍ يرحّب بجميع ما يقدّمونه من دون نقدٍ، أو مراجعة، مما يفسّر غزارة المطبوعات التي فاقت المئة لبعض الكتاب، لاسيما الأجانب على سبيل المثال، في مجال الرواية والشعر، أو النجومية غير المرتبطة بِسويّة النص، أو القيمة الإبداعية للمنجز الأدبي.
أفترض أنني أعيش نوعًا إيجابيًا مِن القلق، ذلك الذي يجعلني أعيد مراجعة النص مرّاتٍ عدة كي أنتخب الصيغة، أو المفردة المثلى التي تخدم فكرتي، أو شعوري، هذه الخِصلة اكتسبتُها بِفضل أصدقاء مقرّبين، شعراء بالطبع، أشاروا إلى مواطن الضعف في قصائدي القديمة من وجهة نظرهم، بِحكم خبرتهم، الأمر الذي سبب لي استياءً كبيرًا بداية الأمر، لكنني أدركتُ قيمته مع الوقت، وهو يساعدني ليس في كتابة الشعر وحسب، بل في عملي في مجال التحرير أيضًا، إذ إنّ العمل على ابتكار تصوّراتٍ عدة، أو صيغٍ، تقوّي الحرفة الأدبية.
لطالما شكّلت الكتابة بالنسبة لي ملاذًا، أو أسلوب حياة. ولذلك أشعر بالطمأنينة عندما أكتب، وبنوعٍ مِن عدم الراحة عندما أنشغل عنها، أو أتعثّر في اختيار مَطلعٍ للنص، أو مفردة صائبة، لكنني لا أرى في هذا مشكلًة، أو عقبًة، أبدًا، بل أنصرف إلى عمل يملأ وقتي، أو أخرج من البيت، أو أقضي وقتًا طيبًا مع العائلة، أو الأهل والأصدقاء، أحضر فيلمًا جيدًا، أو أقرأ، أيّ شيء يفيدني، أو يستفزني، بعد ذلك بوقتٍ قصيرٍ أستعيد قدرتي على الكتابة، ربّما تكمن المشكلة أحيانًا في أننا حقًّا نحتاج إلى الابتعاد عن الكتابة لبعض الوقت، لاختبار علاقتنا مع الحياة والناس، لكننا لا نعي ذلك.
تطرّقتُ سابقًا إلى هذا الموضوع ضمن ومضةٍ في قصيدة غزل تقول: "أنت قلق كتابتي، أنت ألقُها كذلك".


كمال الرياحي (روائي وكاتب تونسي):
الحبسة حبيبتي الأدبية الأبدية




الحبسة الأدبية. هل مررت بها؟ ومتى فارقتنا أصلًا؟ الحبسة الأدبية جزء أساسي من حياة الكاتب وخبزه اليومي قد تطول، وقد تقصر، وهي علامة صحية على عكس ما يروج بعضهم، فأن تتوقف عن الكتابة فهذا يعني أنك لست براض عما تكتبه، لأننا لا نحبّر إلا ما اختمر في الذهن وأقنعه. من هذا المنطق أتعامل مع الوقت الذي تستغرقه فترة الحبسة الأدبية كفرصة لإعادة التفكير والبحث، أو حتى الاسترخاء ولجم الحماسة المضرّة أحيانًا، التي قد تنجر عنها نصوص استعجالية.
هي مزعجة أحيانًا إن طالت، نعم، ولكنها تصبح غنيمة وحَرِيّة بالشكر بعد أن يعود الكاتب إلى الكتابة بروح أخرى ومخيال جديد وأفكار جديدة.
بسبب الحبسات المتتالية، أقضي أحيانًا في كتابة الرواية الواحدة خمس سنوات. حوّلت هذه الفترات الطويلة المزعجة إلى جدول آخر للتمتع، جدول التمتع بالعمل من الداخل، بالبحث فيه كأنني لا أكتبه.
أذكر أن تلك الحبسة طالت وأنا أكتب روايتي "الغوريلا" فغطست سنة كاملة أقرأ وأشاهد حيوان الغوريلا يائسًا من العودة إلى الرواية، حتى شعرت فجأة أنني مشحون بطاقة غير عادية من صحبتي لذلك الحيوان في الغابات والأفلام والكتب الوثائقية وحدائق الحيوان، ووجدت كل ما التقطته من مشاعره وخصوصيته تقفز إلى شخصيتي في الرواية التي أطلق عليه تنمّرًا "الغوريلا"، بسبب ضخامتها ولونها الأسود. لولا تلك الحبسة لما عرفت الغوريلا الحقيقي، ولما استطعت كتابة الشخصية بذلك العمق الذي كتبته، مستبطنًا كل غرائز ذلك الحيوان ونفسيته الاستثنائية التي قادتني إليها رحلتي المعرفية معه.
هنالك منطق أيضًا يجعلني متوازنًا نفسيًا أمام هذه الحبسة، فنحن الكتّاب العرب على عكس الكتاب الأجانب لا نعيش من الكتابة، فلماذا الاستعجال والركض وراء الوقت في الكتابة؟ الكاتب الغربي له الحق في الحديث عن الحبسة، لأنه محتاج أن يسدد ديونه، وأن يدفع إيجار بيته، وبنزين سيارته من عائدات كتبه، ونحن لماذا ننشغل بهذا البطء في الكتابة والتوقفات، إنها من أبجديات الكتابة.
لا عائدات عظيمة ننتظرها من الكتابة لنتورط فيها بهذا الشكل المرضي ولا فواتير سندفعها بها. البعض خلق له هاجسًا دمّر تجربته كملاحقة الجوائز، فاضطر أن ينتج سنويًا رواية، وأحيانًا أكثر حتى صار يكرّر نفسه في معلبات بالطعم نفسه، والرائحة نفسها، وأغلبهم لم يحقق حتى تلك الأحلام البسيطة والساذجة التي وضعها لنفسها: الحصول على جائزة معينة. الجوائز تأتي مصادفة لنصوص بذل فيها كتّابها جهدًا، وليس لكتّاب ركضوا وراءها وكتبوا لها تحت الطلب، أو بما توهموه مقاييسها.
للنجاة من ألم الحبسة الذي يؤذي أحيانًا نفسيًا، غيّرت نمط حياتي، واهتممت بفن يجعلني بعيدًا كل البعد عن حالة الحبسة الأدبية، ويشبع حاجتي للكتابة دائمًا، وهو فن اليوميات، فانهممت به أكثر من خمسة عشر سنة بحثًا وفهمًا وممارسة، فألفت فيه كتبًا كثيرة نشرت منها كتابًا واحدًا في الإبداع هو "واحد صفر للقتيل"، وكتابًا نقديًا ينشر قريبًا، ووجدتني أدرّسه في جامعة تورنتو، وأدير ورشات حوله في محترفي الأدبي بيت الخيال.
لذلك أرى أن الحبسة الأدبية بمفهومها الإكلينيكي لا تمثّل لي مشكلًا، قد تتأخر روايتي في الصدور، لكني عرفت أن إيقاعي كروائي بطيء بسبب وسواسي الشكلي، فالبحث عن كتابة جديدة مع كل رواية يأخذ مني وقتًا صرت أعّرفه بالوقت الطبيعي؛ خمس سنوات. وقد شبه أحد الكتاب الرواية بالجريمة، والقصة القصيرة بالجنحة، فصارت عندي الخمس سنوات أمرًا عاديًا ومستحقًا لإنتاج رواية. أقول إنتاج، لأن الكتابة عندي صارت صنعة، وعملًا جماعيًا أيضًا.
قد يحدث أن تنهمر أحداث رواية معي في وقت قياسي. وحدث أن كتبت النسخة الأولى من رواية كاملة في شهر واحد، ولكنني قضيت سنة أراجعها. لم يأت ذلك التدفق إلا إثر حبسات متتالية ومؤلمة أسفرت عن رمي أكثر من ثلاث مخطوطات، والتضحية بها، بعد أن قضيت في كتابتها خمس سنوات، اكتشفت أنها لم تكن سوى تمارين كنت أقوم بها لإبقاء ملكة التخييل متيقظة، حتى إذا جاءت فكرة الرواية الجديدة انقضت عليها الملكة، وكانت الرواية.
لذلك قد تدفعنا الحبسة إلى الاستغناء عن مشاريع بعد أن تكون قد نبهتنا أنها غير ناضجة، وقد تهدي الحبسة جديدًا غير متوقع، لذلك أقول إني لا أشكو من الحبسة، إنها صديقتي الأدبية الأبدية التي تجعلني أتعقل وأهدأ ولا أتهوّر، وأبتعد عن الاستسهال والجري وراء الحضور الزائف، فكبار الكتاب خلّدوا بكتاب واحد. لا أعتقد أن خوان رولفو عانى من الحبسة الأدبية على قلة إنتاجه، ولا أعتقد أن التاريخ سيدوّن حبسة سيرفانتس عند معاناته في كتابة دون كيخوته، ولكنه دوّن أنه كتب دون كيخوته، ولو في سنين، لتعيش آلاف السنين. ها أنا أستمتع منذ 2020 بحبسة أدبية في كتابة روايتي الجديدة التي من تمسكي بها رفعت عنها قلمي حتى أجد لنصفها الثاني أفكارًا تليق بها لكي أواصل فلا يقول القارئ يومًا وأنا من قبله: "آخ! لقد بدأ بداية قوية، لكنه استعجل بعد ذلك".

محمد خلفوف (كاتب مغربي):
على الكاتب الحقيقي تجاوز فكرة الطقس والمزاج


قلق الكتابة: أسوأ وَحْشٍ يواجهه الكاتب.. الوحش الذي ينشأ داخل كل كاتب منذ لحظات الكتابة الأولى! لطالما واجهتُ قلق الكتابة مثل بقية كتاب العالم، مع كل قصة، ومع كل قصيدة أكتبها، أجد نفسي محاطًا بإحساس القلق، الذي يصل إلى حدود الخوف من الكتابة، ماذا سأكتب؟ كيف سأكتب؟ لأجل ماذا أكتب؟ لمن أكتب؟ كلها أسئلة أحاول الإجابة عنها من خلال الكتابة نفسها، فالكتابة عملية سؤال مستمر ومفتوح، البحث عن أفكار، البحث عن كلمات مناسبة، البحث عن الأسلوب، مواجهة اللغة، الرغبة في الاختلاف، الخوف من التكرار.
ككاتب، أكون في صراع دائم مع كل هذه الأشياء، أسعى إلى تجاوزها من خلال البحث عن الإلهام في الأشياء المحيطة بي: القراءة، مشاهدة الأفلام، الموسيقى، الطبخ، احتساء القهوة، محاولًا اختراع طقوس لتجاوز حبسة وقلق الكتابة.
أحيانًا، يكون الأمر صعبًا في مواجهة ضغوط الحياة المستمرة التي تحول بين الكاتب والكتابة، ينجح الأمر في الغالب، لأنني أؤمن بأن الكتابة عمل، وليست مزاجًا، أو طقسًا، لذا يجب على الكاتب الحقيقي تجاوز فكرة الطقس والمزاج، هذه الفكرة الرومانسية التي تُعشش في أدمغة كثير من الكتاب، والتعامل مع الكتابة بجدية.
في أحيان أخرى، تأخذني الكتابة إلى فترات من الحزن والاكتئاب والبكاء والتشاؤم ومحاولات الانتحار، عمليات حذف وملء وتبييض وإعادة كتابة، أعيش حالات من الخصام بيني وبين نصوصي، أدخل في مشادات طويلة معها، أفترق عنها ثم أعود إليها، كأننا عاشقان يتعاتبان ويتخاصمان باستمرار، قد يكون أجمل ما في الكتابة أن قلقها يساعدنا ويجعلنا قادرين على تجاوز قلقنا ومخاوفنا، لكنه مع الوقت يتحول بالنسبة لنا ككتاب إلى أكبر مخاوفنا.
يمكن للكاتب أن يَحُلَّ هذه المسألة بينه وبين نصوصه، لا كتابة تأتي بالسهل، لكن الأمر يكون صعبًا عندما يتعلق بالآخر: القارئ، كيفما كان هذا القارئ: قارئ عادي، ناشر، محرر، مترجم، لجان تحكيم الجوائز. عند الكتابة ألغي القارئ، أضع في اعتباري قارئًا مفترضًا، الآخر دائمًا مهم في عملية الإبداع، لا إبداع بلا آخر، الكاتب لا يكتب للفراغ! لذلك يبقى الآخر أكبر كابوس لي ككاتب، الخوف من الرفض، من عدم التقبل، مباحثات تغيير ملامح النص أثناء عملية التحرير والنشر، وأنا لديّ سوابق طويلة من الرفض، وعدم التقبل، لذا يبقى نجاح النص رهينًا بعين الآخر، الآخر الذي تحكمه اعتبارات عدة: ثقافية، فكرية، دينية، أيديولوجية، شخصية، الآخر بكل ما يجلبه من أحاسيس بالرفض والتهميش والاحتقار، لكن كما يقول محمد زفزاف: "النص الجيد يجد طريقه دائمًا"، هذه أكثر مقولة أؤمن بها.
الكتابة والكتاب مدينون عبر تاريخ الأدب للقلق، الأدب وليد القلق والمخاوف والكوابيس، لا كتابة بلا قلق، القلق ملح الكتابة، لذلك لا أريد لقلق الكتابة أن يغادرني، مهما طال، ومهما سكن عظامي وروحي، لأن الكاتب إذا غادره القلق غادره الإبداع، حتى وإن أكله الوحش في نهاية رحلة الكتابة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.