}

الوشم كطريقة لتعبير الإنسان عن نفسه منذ العصر الحجري

مناهل السهوي 25 مارس 2024
اجتماع الوشم كطريقة لتعبير الإنسان عن نفسه منذ العصر الحجري
رموز ومعتقدات مختلفة تمثلها علامات هذا الوشم (Getty)

قليلون من يعرفون أن الكاتب البريطاني جورج أورويل امتلك وشمًا على يده، وكان عبارة عن بقع زرقاء صغيرة على كل مفصل، ويعتقد أن معناها مرتبط بالاضطهاد من قبل السوفيات، أو إشارة لانتمائه السياسي، لم يكن واضحًا تمامًا معنى الوشم، لكن من المدهش حقًا ما يثيره الوشم من أسئلة، وبخاصة حين يرتبط بشخص مثل أورويل.

بين أوروبا القديمة ومصر

في العصر الحديث، ما زال يعد الوشم في بعض المناطق علامة على الطبقة الدنيا من المجرمين، أو أولئك الذين يعيشون على هامش المجتمع، لكنْ شيئًا فشيئًا بات الوشم يعد جزءًا من الموضة، بخاصة بعد وضعه من قبل سياسيين وفنانين. الأهم أن تاريخ الوشم قديم، وممارسته تعود إلى ما قبل التاريخ الحديث، انتشر تقريبًا في كل مكان في العالم، وعبّر عن رغبات وتوجهات وأفكار مختلفة، وبات اليوم حركة فنية في حد ذاتها، تستخدم الجسد كلوحة للحبر.
إذا ما نظرنا من حولنا، سنشاهد كثيرًا من الأشخاص الذين يستخدمون الوشم، بأشكال مختلفة، ورسوم، وكلمات، وأحرف. ورغم أن الوشم يبدو اختراعًا حديثًا، لكن الحقيقة أنه موجود منذ آلاف السنين، ويُعتقد أن كلمة وشم دخلت اللغة الإنكليزية من الأصل التاهيتي "tatau"، التي تصف الرسم على الجسد في بولينيزيا في القرن الثامن عشر، لكن العلماء يتفقون على أن هذه الممارسة تسبق ظهور الكلمة نفسها بكثير.
أول دليل على استخدام الوشم وجِدَ على جسد أوتزي (رجل الثلج)، الذي عاش في العصر النحاسي (العصر الحجري الحديث)، في أوروبا الغربية القديمة، وتم اكتشاف المومياء الأكثر شهرة في أوروبا، في جبال الألب في عام 1991 محفوظًا في الثلج. عاش أوتزي منذ حوالي 5200 عام، وقال العلماء إن بعض الوشوم على جسد أوتزي رسمت في مناطق مرتبطة بالألم مع تقدم السن، مثل الركبتين والكاحلين، ما دفع علماء الآثار إلى افتراض أنها رُسمت كنوع من علاج الألم، لكن الوشم الهندسي الآخر الموجود على صدر أوتزي يشير إلى أن الوشم كان له نوع من الاستخدام الشعائري، أو الاحتفالي، أو حتى الديني، منذ العصر الحجري الحديث.
الدليل التالي الأقدم على الوشم يأتي من المومياءات التي يُعتقد أنها ماتت بين عامي 3351 و3017 قبل الميلاد، في مصر القديمة. كانت هذه الوشوم هي أقدم دليل معروف على الوشم الذي يمثل صورًا لحيوانات، ورموزًا تشير إليها أوشام أخرى يعود تاريخها إلى فترات لاحقة، أي أن الوشم استُخدم في النهاية كرموز عبادة في مصر القديمة.
صنعت مواد الوشم في عصور ما قبل التاريخ من الموارد الطبيعية، مثل الفحم، أو النباتات، كما استخدم الناس أدوات بدائية، مثل العظام والعصي الحادة، لثقب جلدهم وإدخال هذه المواد داخلها، وهكذا بعد أن يشفى الجرح تبقى المادة داخل الندبة، ما يمنحها الشكل المطلوب.
كان تحديد موضع الوشم مهمًا أيضًا، فاعتُقِدَ أن الزينة حول المعصم والأصابع تعمل على درء الأرواح الشريرة والأمراض، يشير الوشم أيضًا إلى عضوية قبيلة، أو عشيرة، أو مجتمع، ونظرًا إلى أن الوشم أشار إلى الأدوار الاجتماعية والثقافية والدينية والطبية في المجتمعات، لذلك انتشر على نطاق واسع، بسبب تعبيره عن جوانب مختلفة من المجتمعات.

الوشم بين تذكّر عزيز والعقاب
وجدت الوشوم منذ القدم، وجمعت البشر في مناطق وخلفيات وأزمنة مختلفة، كطريقة للتعبير، أو التواصل، أو الشفاء، أو التعبير، أو العقوبة حتى، ولليوم تستخدم الوشوم للأسباب ذاتها، وكأن الإنسان يبحث عن الشيء ذاته منذ آلاف السنين، التعبير عن نفسه، الاستمرار في التذكر، أو الارتباط بأشخاص وذكريات محددة، أن نرى ما نعتقده، أو نريده، جزءًا منّا، أو جزءًا من جلدنا.
يشير الوشم إلى ارتباط بالماضي والأصل، والانتماء إلى جماعة، أو فكر، أو ديانة، أو حتى فرقة موسيقية، فما زال وشم شعب الماوري، السكان الأصليين لما يعرف اليوم بنيوزيلندا، منتشرًا ويستخدم كطريقة للتذكير بالشعوب الاصلية للمنطقة، إذ توشم علامات الوجه التقليدية المعروفة باسم "موكو كاوا" على ذقون النساء، فيما يتم نقشها على معظم وجوه الرجال، ويطلق عليها اسم "ماتاورا". وقبل سنوات عدة قامت نانايا ماهوتا، وزيرة الخارجية في نيوزيلندا، بوضع وشم الماوري على ذقنها، وقالت في تغريدة لها إن الوشم التقليدي يقدم طرقًا إيجابية لتمكين التعبير الثقافي، والاعتزاز بأني من سكان الماوري.





يختلف معنى الوشم من منطقة إلى أخرى، لكن تبقى اليابان من البلدان التي ارتبط فيها الوشم ارتباطًا وثيقًا بعالم الجريمة، حيث قام رجال عصابات الياكوزا بوشم كامل أجسادهم، وكان الوشم إشارة إلى مدى ارتباط فلسفة الوشم في الثقافة اليابانية بالعنف والأعمال المتهورة.
لم يكن وضع الوشم أمرًا يعود للشخص على الدوام، ففي روسيا تحت حكم القياصرة، ولاحقًا تحت الحكم الشيوعي، تمت الإشارة إلى السجناء وفقًا لجريمتهم، والحكم عليهم، وهكذا حتى في مسألة الوصم يستمر الوشم في حمل معاني الإقصاء، أو العقاب، الذي كان مستخدمًا منذ آلاف السنين بالفعل.
في المنطقة العربية، استُخدِم الوشم، منذ وقت ليس ببعيد، لأغراض عدة، منها تمييز القبائل والعشائر، ولأغراض جمالية، ففي العراق سمي الوشم "الدكة"، وفي سورية "الدق"، الذي ما زالت الجدات يحملن أشكالًا مختلفة منه، وكان موازيًا للمكياج والزينة. لكن، بعد ستينيات القرن الفائت، اختلفت النظرة العامة للوشم، وبات يحرّم على نطاق واسع لأسباب دينية. رغم ذلك، ما زال يحافظ على انتشاره في عدد من المناطق. أما الأمازيغ فحرصوا حتى وقت قريب على الحصول على وشوم ترتبط بالطبيعة، كالشّجرة، والأفعى، والذّبابة، والنحلة، وكان لكل منها معنى يتعلق بالطاقة، أو القوة.

الوشم بين الفخر والعار

حمل الوشم منذ فجر التاريخ معاني متناقضة، ففي معظم مناطق العالم اليوناني والروماني القديم، نُظر إلى الوشم على أنه علامة على العقاب والعار، ولكن من بين عديد الثقافات القديمة أيضًا، كالتراقيين، والغاليين، والبكتيين، والكلت، والبريطانيين، مثلًا، كان يُنظر إلى الوشم على أنه علامة فخر. لكن وفي الحالتين تأتي أهمية الوشم من فكرة أبديته، عجز الشخص عن التخلص منه، وكأن الوصمة الاجتماعية أو الثناء الاجتماعي يتحوّل إلى علامة واضحة على الشخص.
الوشم جزء من التراث المشترك لمعظم البشرية، وبات اليوم حركة فنية متكاملة تتطور وتتغير وتدخل عناصر جديدة إليها، لكن المثير في هذه الحركة الفنية أن الوشم قد يكون طريقًا لتحسين علاقتنا مع أجسادنا، ربما التقينا جميعنا بأشخاص وشموا أسماء أعزاء فقدوهم، أب، أو ابن، وقد يكون الوشم وسيلة للتعامل مع الصدمة trauma، بخاصة في حالة الوشم التذكاري الذي يختار بعضهم وضعه بعد فقدان شخص عزيز. والوشم التذكاري مثال واحد على الطرق التي يمكن أن يساعد فيها فن الوشم في تحسين الحالة بعد الصدمة، ويمكن أن يكون الوشم طريقة للتعامل مع العنف المنزلي، أو حتى مرض السرطان.
وفي تجربة أجراها فيرين سوامي، عالم النفس في جامعة أنجليا روسكين، قام بفحص نظرة الأشخاص إلى أجسادهم قبل وبعد حصولهم على الوشم، فوجد أن القلق بشأن مظهرهم، والمشاعر العامة بعدم الرضى الجسدي، تراجعت فور وضع الحبر على جلد المشاركين. وهكذا يظهر الأثر النفسي الإيجابي للوشم في حالات معينة.


مصادر مختارة:
ــ وشوم الياكوزا اليابانية... تحت إبرة اسمها الألم ـ عماد فؤاد ـ العربي الجديد ـ 29/ 3/ 2021.
The ancient history of tattoos—revealed by inked-up mummies- Erin Blakemore- National Geographic- 5\ 5\ 2023
Ink positive: how tattoos can heal the mind as well as adorn the body- David Robson- The Guardian- 31\ 7\ 2021

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.