}

"كائنات مسكينة": ما بعد فرانكشتاين

باسم سليمان 26 أبريل 2024
سينما "كائنات مسكينة": ما بعد فرانكشتاين
لقطة من فيلم "كائنات مسكينة"
هل تستطيع تخيّل ملامح وجهكَ وأنتَ في رحم أمّك؟ هذا السؤال لا يستهدف أيّة إجابة واقعية أو عقلية، فالغاية منه، أن يتم تعليم تلاميذ كهنة مذهب الزن الصيني، بأنّ الاستنارة لا تحدث وفق الأسئلة النمطية أو الإجابات المنطقية! وهذا ما يتغيّاه المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس في فيلمه الجديد: "كائنات مسكينة/Poor Things" لعام 2023، الذي ارتكز على رواية الخيال العلمي للأسكتلندي ألسدير غراي بالعنوان ذاته، وقد قام بكتابة سيناريو الفيلم توني مكنمارا بالاشتراك مع الكاتب. وجسّد شخصيات الرواية في الفيلم كلّ من إيما ستون، ويليام دافو، ومارك روفالو. رُشح الفيلم لكثير من الجوائز، وفاز بكثير منها، مثل البافتا، واختيارات النقّاد، ومؤسسة شيكاغو، وغولدن غلوب. وأخيرًا توّجت إيما ستون بأوسكار 2024 عن دورها في الفيلم.
إنّ التغريب، أو السؤال الزنّي ــ من زن ــ الذي انتهجه لانثيموس في فيلمه بالعودة إلى العصر الفيكتوري بنزعته العلموية الصارمة وفلسفته المادية وأخلاقياته المتزمتة، قابله من جهة أخرى بسريلة ــ من السريالية ــ الواقع بمتخيل علمي فانتازي، فنرى عربة بخارية برأس حصان، وقطارات معلّقة، ومناطيد غريبة الشكل. وكل ذلك ترصده عدسة (عين السمكة) التي استخدمت في التصوير، مع أنّها تقدّم صورة محيطية كاملة، إلّا أنها تشوّه إطار الواقع وتضغطه؛ وهذا الأمر كان مقصودًا من لانثيموس ليصبح التغريب مرئيًا حتى في الأشياء العادية.
عبر هذا الأسلوب، قدّم لنا لانثيموس واقعَ ومتخيّلَ القرن التاسع عشر، الذي أنتج عالم الأحياء داروين من جهة، وهـ. جـ. ويلز، رائد الخيال العلمي، من جهة أخرى. وخاصة في روايته "جزيرة الدكتور مورو"، الذي كان يحاول فيها بطل الرواية الدكتور مورو عبر الجراحة تخليق كائنات تدمج بين البشر والحيوانات، ما دامت جميع الكائنات الحيّة قد تفرعت عبر تاريخ التطور الذي رصده داروين من خلية واحدة ــ إن صحّ التعبير مجازًا ــ فما المانع، ما دام الأصل واحدًا، أن يكون للأفرع قدرة على الاندماج. وهذا ما نراه في بيت الدكتور غودين (ويليام دافو)، فنرى خنزيرًا بجسد دجاجة. هذا التغريب للواقع كان القصد منه (إعادة ضبط) للمنظومة المعرفية والأخلاقية لدى المشاهد حتى يكون قادرًا على كسر التابوهات (المنطقية) العرفية القارة في ذهنه من أجل إعادة التفكير فيها، وتجاوز معقوليتها الضيقة إلى معقولية أوسع، وكأنّنا نغادر الكون البطليموسي إلى الكون الكوبرنيكي.
من هو د. غودين الذي نجده في فيلم لانثيموس؟ سريعًا، يتبادر إلى ذهننا مخلوق الدكتور فيكتور فرانكشتاين في رواية ماري شيلّي، الذي صُنع من أجزاء جثث مختلفة، وصُعق بالكهرباء فدبّت فيه الحياة. لقد تعرّض د. غودين في طفولته لعنف ممنهج من قبل والده باسم العلم والمعرفة والأخلاق، فأصبح مخلوقًا مشوّهًا على صعيد الوجه والجسد، ومخصيًا في الوقت نفسه، فوجهه أقرب إلى كولاج لملامح بشرية. تذكر شيلّي في روايتها بأنّ مخلوق د. فيكتور فرانكشتاين، والذي أصبح مشهورًا بلقب فرانكشتاين، حصل على القبول البشري لمرة واحدة، عندما التقى بأحد العميان، فلم ينكر تشوّهه وبشاعته ووحشيته. وعندما ذهب به إلى عائلته، أصيبت عائلة الأعمى بالهلع من رؤية الوحش، فما كان من فرانكشتاين إلّا أن قتلهم. ليس غريبًا أن يصبح دأب مخلوق د. فرانكشتاين قتل خالقه ما دام قد خلقه على هذه الشاكلة المخيفة، حيث تبدأ مطاردة مميتة بينهما تنتهي في القطب الشمالي على حدود العالم المأهول.
وهنا يتبدّى السؤال: لماذا هذا التناص بين سردية ألسدير غراي التي صدرت عام 1992، وكل من رواية شيلي وويلز؟ يعيش د. غودين في قصره الفيكتوري القوطي الهيئة، وهناك يجري تجاربه على الحيوانات والأجساد البشرية، ويقوم بتشريحها. وعلى الرغم من أنّه مشهور على الصعيد الطبي، إلّا أنّ هيئته الفرانكشتانية جعلته مرفوضًا من أناس مجتمعه. ولما حانت الفرصة ليصنع مخلوقًا يقبله/ يحبّه؛ كانت بيلا (إيما ستون) تلك الأنثى التي رمت نفسها من أحد جسور لندن كي تنهي حياتها؛ هي القدر المشتهى، التي وصلت إليه قبل أن تلفظ أنفاسها الأخيرة. لقد كانت بيلا حاملًا فقام د. غودين باستبدال دماغ جنينها بدماغها، فنهضت من موتها تحت وقع صدمات الكهرباء بجسد ناضج ودماغ جنينها، إنّها فرانكشتاين أنثى! هكذا نرى بيلا الأنثى الناضجة جسدًا تتحرّى خطواتها الأولى غير المتّزنة وكلماتها الأولى بعقل طفل. لم تجفل بيلا من د. غودين، بل كانت تحبّه وتسمّيه: الإله! إنّ النقص الذي اعترى وجود فرانكشتاين شيلّي يتم تجاوزه في رواية غراي المقتبس عنها فيلم لانثيموس، فنحن أمام أنثى جميلة نزع منها ماضيها السيء، ومنحت حاضرًا ستصنعه بيدها.




كانت مملكة بيلا قصر أبيها، لا تخرج منه أبدًا، فهو يريد أن يحميها من قسوة العالم الخارجي الذي هربت منه بانتحارها، لكن بيلا لا تعرف شيئًا عن ماضيها أبدًا، فقد ولدت ليلة أمس بجسد ناضج وعقل طفلة. وعندما أدخل د. غودين أحد تلامذته إلى حياة بيلا، ليساعده بتدوين ملاحظات عن تطورها اليومي عبر تعداد خطواتها المتّزنة وعدد الكلمات الجديدة التي تكسبها كلّ يوم، يجد التلميذ أنثى مفعمة بالجمال، لكنّها كطفل تريد تجريب الأشياء عبر كسرها وطعن الجثث في مختبر أبيها والتلفظ بالكلمات النابية والتصرف بلا حياء، إلّا أنّها بريئة ونقية كصفحة بيضاء. يكتشف المساعد ماكس (رامي يوسف) حقيقة بيلا، لكنّه يغرم بها وتستلطفه بيلا، فيخطط د. غودين لزواجهما، فيحضر المحامي دانكن (مارك روفالو) ليكتب عقدًا يلزم كلًا من بيلا وماكس بعدم مغادرة القصر. تستثير شروط عقد الزواج دانكن، فيتسلّل لرؤية تلك البيلا التي يرى فيها تجربة أشبه باكتشاف قارة جديدة عذراء. تجد بيلا بالمحامي فرصتها لترى العالم والخروج من الشرنقة التي حبسها فيها والدها. لا يمانع الوالد إلّا ظاهرًا، وكأنّه كان يخطط سرًّا لحدوث ذلك. وعندما يناقشه ماكس بذلك يخبره بأنّ بيلا حرّة.
لقد كان التصوير بالجزء المتعلّق بحياة بيلا في القصر بالأبيض والأسود، وهذا ليس دليلًا على الزمن الماضي فقط، وإنّما على الحدّية التي يحياها د. غودين، فهو ابن الزمن الفيكتوري في إنكلترا، بكلّ تزمّته الأخلاقي، وعلمويته الباردة. وما إن تخرج بيلا من هذا الزمن، وتدخل حاضرها الشخصي، حتى تبدأ الألوان بالظهور من أصفر فان غوخ إلى أزرقه. لقد كانت بيلا تريد تذوّق الحياة بحواسها، وكأنّها مع المرحلة التي تكلم عنها سورين كيركغارد؛ وأطلق عليها اسم (المرحلة الجمالية)، حيث تنطلق بيلا لتجربة حواسها كلّها؛ بدءًا من الجنس بأبعاده كافة مع دانكن إلى الطعام والرقص، لكن من دون رقابة ذاتية ولم تكن لتعنيها رقابة المجتمع أبدًا. هذه الحرية صدمت المحامي المخادع، الذي رأى في بيلا أرضًا جديدة يروضها كما يريد، لكن بيلا كانت أكثر ثورية من غواية الشيطان ذاته، فتركته مفلسًا، بعدما تبرّعت بأموال كسبها من القمار لأولاد فقراء. ومن ثم خانته لتعلن له بأنّ جسدها ملكها لا ملكه، مع مقارنة تهكمية بمحدودية القدرة الجنسية لدى الرجل مقابلة مع الأنثى؛ وكأنّ بيلا تقول له بأنّ قمع الذكر للأنثى يأتي من هذا المنحى!
تتعرّف بيلا على القراءة، وتكتشف بأنّ الحياة أعمق من متع عابرة، فتقرأ الفيلسوف والشاعر رالف والدو إمرسون، وغيره. وتعرف أنّ الاستقلال لا يكون بالكلمة فقط، بل بالمال أيضًا. ولأنّها لا تملك مهارات بعد، تلجأ إلى أقدم مهنة في التاريخ/ الدعارة. وهناك ترى أنماط الرجال في المجتمع، من الغني الغندور إلى السادي، إلى الجاهل، إلى العجوز المتصابي، فتبتسم لمقدار الحماقة التي يعيشها البشر.
بعدما اكتسبت بيلا معارف كثيرة، تدخل المرحلة التأملية، وفق تقسيم سورين كيركغارد لحياة الإنسان، فهي، وإن كانت مولعة بمتع حواسها، إلّا أنّ في الحياة أشياء أخرى أكثر غنى وجدوى من متع الجنس والطعام. لذلك تعود إلى قصر والدها لأنّها تحبه حقًا على الرغم من فرانكشتانيته، وترضى بالزواج بمساعده ماكس. وفي لحظة عقد القران، يدخل زوجها القديم، ويطالب بها. إنّ بيلا ليست زوجته حقًا، فلقد ماتت منتحرة، وهي الآن بعقل جديد، وليس عقلها القديم، ومع ذلك تذهب معه، تريد أن تعرف ماذا حدث لأمّها/ لها! لم يكن زوجها إلّا ضابطًا مصابًا ببارانويا الارتياب، ظانًّا بأنّ الجميع يريد اغتياله، من خدمه إلى زوجته. الآن فهمت بيلا لماذا انتحرت، وتقرر أن تترك بيت زوجها لتعود إلى والدها المريض. يرفض الزوج، ويهدّدها، فتقدم على تخديره وحمله معها إلى قصر أبيها ليتم تحويله إلى كلب وفي بجسد رجل.
يموت د. غودين محاطًا بأحبته، وترثه بيلا فرانكشتاين القرن العشرين بعلميته وأخلاقياته النسبية، فلا حدود أخلاقية متزمتة ولا علموية، لا ترى بالإنسان إلّا مجرد آلة عضوية.

المخرج اليوناني يورغوس لانثيموس (Getty)

إنّه أمل جديد يسطع مع بيلا، حيث نراها تجلس في حديقة القصر تطالع كتابًا، وتستعد لأن تصبح طبيبة، بينما ترمق من حولها، زوجها اللطيف ماكس، وكلبها/ زوجها القديم، وفتاة مراهقة نسخة مصغرة عنها، كان أبوها ومساعده قد صنعاها في غيابها. يبدو المنظر العام مريحًا وبيلا بأخلاقيتها المنفتحة وعلميتها المتجدّدة قادرة على اجتراح عصر جديد، يتجاوز فيه الإنسان ذكورته السامة لينفتح على أنوثته اللطيفة.
ليس فيلم لانثيموس ديستوبيًا. وليس حتى نسويًا بالمعنى الحدّي، بل ما بعد ديستوبي، وما بعد نسوي، إنّه أشبه بأسئلة رهبان الزن؛ فهو وإن أسقط العصر الفيكتوري على لحظتنا الراهنة، إلّا أنّه بالمحبة التي تمت بين فرانكشتاين/ غودين/ الإله والأنثى/ بيلا؛ حرّر الأنثى/ الإنسان من ثيمة الغواية، وبأنّها المسبّب في الخطيئة الأساسية؛ هكذا تُفهم مظاهر العري التي قدّمتها بيلا، فعلى الرغم من فجاجتها إلّا أنّها ليست بمظهر الغواية، إنّما بهيئة الطبيعة الإنسانية، فبيلا ترفض الإسقاطات النمطية على جسدها من قبل الذكر والمجتمع. وتفكّك في الوقت نفسه المنظومة الدينية التي تجعلها مجرد ظل للشيطان، أمّا لناحية مخاطر العلم، فلولاه لم تكن قادرة على العودة إلى الحياة بدماغ ابنتها والانتقام من زوجها السادي. وما يقصده لانثيموس بأنّ العلم والإله والأخلاق، هي أشياء حيادية بذاتها وجيدة في الوقت نفسه. ونحن البشر في النهاية من نملك اليد العليا في جعل أمر ما خيرًا أو شرًا.

*كاتب من سورية. 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.