}

"سينما سينما" على "العربي 2": تشكيل الوعي السينمائيّ

أشرف الحساني 14 مايو 2024

 

يحاول برنامج "سينما سينما" الذي يُبثّ على قناة "العربي 2" أنْ يخلق الحدث في العالم العربي. إذْ نادرًا ما تُطالعنا برامج فنية تُعنى بالفن السابع وتعمل من خلال هذا اللون الفنّي على طرق موضوعات ذات صلة بالمجتمع والسياسة والذاكرة والتاريخ. غيابٌ كهذا غير مُبرّر من الناحية الفنية، إذْ رغم وفرة الموارد المادية التي تُتيح للكثير من القنوات التلفزيونية العربيّة إمكانية إنتاج برامج سينمائية مختلفة تُساير تحوّلات السينما العربية والعالمية، إلاّ أنّ العكس هو ما يحدث تمامًا. فأغلب هذه القنوات يغلب عليها المحتوى السطحي الترفيهي المتمثل في برامج الطبخ والتجميل. في حين تظلّ البرامج السينمائية مغيّبة، بحيث يعتبرونها تدخل ضمن المواد الاستهلاكية التي لا تخلق جدلًا سياسيًا واسعًا في المجتمع. كما أنّهم يجدون في السينما فنًا برجوازيًا لا يتابعه الناس بقوة، كما هي الحال بالنسبة إلى باقي البرامج السياسية والدينية التي تحظى بنسب مشاهدةٍ عالية، مقارنة بنظيرتها التي تهتمّ بالفنّ والجمال. إنّنا هنا أمام انتقائية فجّة لا تعطي للفنون قيمتها وأصالتها من الناحية الفكرية ومدى تأثيرها في وجدان الناس وتفكيرهم. مثل هذه الأمور، أصبحت مُقلقة بالنسبة للباحث والناقد الفني الذي يجد نفسه أمام ساحةٍ تلفزيونية عربيّة فارغة من الفنّ العَالم والقادر على إنتاج فعل المقاومة الشعبية والنقد السياسي لفساد الأنظمة وجبروتها، حيث يتم تعويض ذلك بنوعٍ من التجارب الساذجة التي تتعامل مع الفنّ وفق طريقة استيهامية خارجة عن مدارات التاريخ والمجتمع. بيد أنّ هذا النكوص، لا يجد نفسه داخل القنوات العربية فقط، بل نعثر على ترسّباته داخل بنية الثقافة العربية المعاصرة ورهانها الدائم والمُستمرّ على ثقافة "المكتوب" على حساب البصري. إذْ رغم ادعاء هذه الثقافة وتشدّقها بمفاهيم الحداثة والمعاصرة، إلاّ إنّها تحتاج إلى سنواتٍ طويلة للصحو والنهوض من هذا السبات المُميت. فنادرًا ما نعثر اليوم على مؤلف يحتفي بالثقافة العربية من جانبها البصري ويُظهر جماليات الحضارة العربيّة في مجالات تتعلّق بالمعمار والزخارف والموسيقى والمنقوشات، بل إنّ تكريس الرواية وجعلها لسان حال المثقف العربيّ، يعطي الانطباع على الطريقة التي تتعامل بها هذه الثقافة مع الممارسات الفنية والأدبية، باعتبارها موضة ثقافيّة لا أكثر.

ظهور برنامج "سينما سينما" أشبه بوردة جميلة داخل العالم العربي، إذْ يحرص كلّ من محمّد أمين بن حمزة وماري تيريز معلوف وإلياس دمر على تقديم أخبار سينمائية تسعى جاهدة إلى رصد كواليس الأفلام والمهرجانات داخل المنطقة العربية وخارجها، بما يجعل المحتوى يتابع عن كثب كلّ المُستجدّات الفنية التي يعرفها عالم الفنّ السابع. ويُعتبر ذلك ميزة خاصّة للبرنامج، فهو لا يكتفي بموضوعات قديمة يُعاد طرحها من جديد، بل يعمل البرنامج على تتبّع المستجدات في الساحة السينمائية العالمية ورصد تطوّرات هذا الفن في علاقته بالقاعات والجمهور وغيرها. وغالبًا ما لا تطرح موضوعات البرنامج على أساس أنّها مجموعة من الأخبار والمعلومات، وإنّما يتم رصدها ومناقشتها من خلال مشاركة ناقدٍ. وفي هذا الأمر، ما يستحقّ الانتباه، لأنّه يُظهر بطريقة غير مباشرة مكانة النقد ووظيفته على مستوى تداول الأفلام وتحليلها ونقدها وفتح عيون المشاهدين على أفلام وظواهر وقضايا وإشكالات.

هنا يغدو النقد ممارسة فكرية يوميّة ووظيفة تتجاوز الإعلام والإخبار، صوب التفكير في إشكالات راهنة وفق تصوّر أصيل مبنيّ على مفاهيم ونظريات وسياقات. فالنقد ممارسة فكرية أكثر من كونه إعلامية، رغم أنّه مُرتبطٌ في ممارسته بعملية الكتابة والتفكير، لكنّه هنا يتّخذ شكلًا جديدًا ويلعب دورًا محوريًا في العملية التواصلية بين المنتوج السينمائي والمُشاهد. فهو يقوم بدوره في تأجيج النقاش ومقاربة الأشياء من زوايا نظرٍ مختلفة، بها يُضيء العوالم السينمائية التي يطرحها البرنامج. فالناقد يرفع سقف المناقشة ويجعلها ذات صبغة معرفية تُقدّم تحليلًا وتكشف عن معطيات يشهدها الفنّ السابع. إنّ البرنامج في تقديمه لا يدّعي شيئًا ولا يحاول أنْ يُقدّم نفسه على أساس أنّه الأفضل (مع أنّه كذلك برأيي) لكنّه معنيّ بتقديم أخبار حول عالم السينما بطريقةٍ هادئة تُثير المتلقّي وتجعله مُنفتحًا وعارفًا بالمستجدّات التي تطاول الساحة السينمائية العالمية. يُتيح هذا البرنامج بالنسبة للمُشاهد العاديّ غير المتخصّص معرفة أحوال الصناعة السينمائية انطلاقًا من معلومات وقضايا وإشكالات يضعه فريق البرنامج داخلها، بما يجعله عارفًا ومتابعًا للشأن السينمائي، كما هي حال مختلف البرامج السياسية والاجتماعية. إنّ الوعيّ بالسينما كحقّ في المشاهدة والعيش والسفر، يغذّي في المُشاهد ملكة الحلم ويجعله شخصًا آخر يعيش الفنّ ويتنفّسه.

يُقدّم البرنامج وفق طريقةٍ خفيفة تُساير تحوّلات البرامج المعاصرة في حلّتها وزينتها وصُوَرها وإيقاعها الخفيف والمؤثّر في وجدان المُشاهد. بل وتُعتبر هذه الخصائص عامل جذب للناس من أجل المُشاهد. مع العلم أنّ جميع محتوى قناة "العربي 2" غدا يمتلك خصوصية بصريّة تجعله مختلفًا ومتفرّدًا بصنعته داخل الشاشات العربيّة. فهذا العنصر البصري يظلّ هامًا بالنسبة لأيّ محتوى تصويري. ومع مرور السنوات تُصبح هوية القناة معروفة بصُوَرها وجمالياتها وألوانها وإيقاعها لدرجةٍ يسهل من خلالها على المُشاهد التعرّف على محتوى القناة. إنّ برنامج "سينما سينما" بقدر ما يُقدّم أخبار وأحوال ومستجدات الفنّ السابع، يُساهم ضمنيًا في بلورة نوعٍ من النقد السينمائي الذي لا يجري وراء الكلمات والمفاهيم والخطابات، بقدر ما يحاول أنْ ينقل هذا النقد إلى إطاره الأوّل المبنيّ على الشفهي. ليس الغرض من هذه العودة تغيير مفهوم النقد ووظيفته، بل إعطاء شرعية جديدة لهذا النقد عبر مفهوم الصورة. فهذه الأخيرة، تشُدّ المتلقّي وتدفعه إلى مشاهدة البرنامج أكثر من أيّ خطابٍ مكتوب والذي غالبًا ما لا يحظى باهتمام بالغ مقارنة مع الخطاب البصريّ المؤثّر في المتلقي. إنّنا أمام طفرة تكنولوجية قويّة ينبغي استثمارها من أجل تغذية النقد السينمائي نفسه. بيد أنّ هذه التغذية ينبغي أنْ تزيد من عمق العملية النقدية والحفاظ على بريقها الفكري المرتبط بالمفاهيم والنظريات والسياقات حتّى لا يتحوّل النقد إلى صحافة. إنّ "سينما سينما" لا يدّعي شيئًا بل يُقدّم نفسه كبرنامج يستعرض جملة من الأخبار ويُحلّل قضايا وإشكالات تشغل وجدان الساحة السينمائية العالمية. لكنّه يُساهم بطريقةٍ مُذهلة في رفع منسوب الثقافة السينمائية داخل الجمهور. فهذه الثقافة لا تحضر في الراهن الثقافي لكونها تتعامل مع السينما بوصفها مجرّد وسيط بصري ترفيهي يدفع الناس إلى الترفيه والاستجمام، على الرغم من أن سينما العالم العربي اليوم تُعرض في مهرجانات عالمية وتحظى باحتفالاتٍ كبيرة في محافل دولية. بل إنّ بعض الأفلام باتت تُنافس في جوائز مهمّة بما يدفعها إلى أنْ تغدو كونية. وبالتالي، فإنّ مثل هذه البرامج تدفع الناس إلى اكتساب ثقافة سينمائية لها ما يُميّزها، ويجعلهم يعملون من خلالها على تقديم تحليل للأوضاع السياسية والاجتماعية التي تطاول العالم العربي، ليس من باب السياسة والمجتمع، وإنّما عبر الأفلام السينمائية التي تُضمر صُوَرها أكثر من حقيقة وواقع وتصوّر. وذلك إلى كون السينما عبارة عن فنّ بصريّ مؤثّر ويحمل من الخصائص الفكريّة، ما يجعله يغدو بمثابة سُلطة مؤثرة على الناس والمؤسسات والأنظمة وغيرها.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.