}

ماذا يحدث لو اندلعت "حرب أهلية" بأقوى دولة بالعالم؟

باسم سليمان 6 مايو 2024
سينما ماذا يحدث لو اندلعت "حرب أهلية" بأقوى دولة بالعالم؟
ملصق فيلم "حرب أهلية"

يمتلك الفنّ قدرةً على التنبّؤ، ليس لأنّه عرّاف، بل لجرأته الكبيرة على التجريب واجتراح واقع موازٍ يختبر به الواقع الحقيقي. من هذا المنحى الرؤيوي التحذيري ينطلق المخرج وكاتب السيناريو أليكس غارلاند في سرديته السينمائية "حرب أهلية"/ Civil War لعام 2024، مستطلعًا فرضية قيام حرب أميركية أهلية يعود سببها المباشر إلى استئثار أحد الرؤساء الأميركيين بولاية ثالثة وإعطائه الأوامر العسكرية لقصف المدنيين المحتجّين على مخالفته الدستور، ممّا يؤدي إلى انفصال ولايتي تكساس المحافظة وكاليفورنيا الليبرالية وإنشائهما جبهة موحّدة تحارب هذا الديكتاتور الجديد الذي وصل إلى البيت الأبيض عبر الديمقراطية. لم يكن اختيار غارلاند هاتين الولايتين لأنّهما عادة ما يكون موقفهما حاسمًا في دعم المرشحين المتنافسين في السباق إلى البيت الأبيض، وإنّما لكونهما أيضًا تشكّلان القوة الاقتصادية والتجارية الكبرى في الولايات المتحدة الأميركية، وما يؤشّر له ذلك من قدرتهما على الاستقلال والانفصال. وفي خلفية هذا الواقع المفترض تظهر الأحداث السياسية الواقعية التي جرت في عام 2021 كسبب غير مباشر، لهكذا تنبؤ؛ وذلك عندما اقتحمت الكونغرس الأميركي مجموعة من المحتجّين والداعمين للرئيس السابق دونالد ترامب من أجل قلب نتائج الانتخابات التي فاز بها الرئيس الحالي جو بايدن. ويضاف إلى هذه المرجعيات الخيالية والواقعية التي طُرحت في الفيلم تهديد ولاية تكساس في عام 2024 بالانفصال نتيجة التعارض بينها وبين سياسة البيت الأبيض حول مسألة المهاجرين، فكانت خير دعاية مؤثرة للفيلم، فهي تدلّ على وجود الجمر تحت الرماد، وإن لم تكن هذه الحادثة الأخيرة ضمن حسبان مخرج الفيلم، إلّا أنّها  مهمّة على صعيد المشاهد، فلا يمكن غضّ النظر عنها. هذه الحيثيات جعلت من فيلم غارلاند يتصدّر شباك التذاكر في أميركا محققًا أرباحًا في أسابيعه الأولى تجاوزت تكلفته التي قدرت بخمسين مليون دولار. وهذا الأمر ليس غريبًا، لأنّ الفيلم لامس هواجس المشاهد الأميركي وفضول المشاهد العالمي؛ ماذا سيحدث لو اندلعت حرب أهلية في أقوى دولة في الكرة الأرضية؟
يفتتح غارلاند أولى مشاهده بالرئيس الأميركي وهو يحضّر نفسه لإلقاء خطاب النصر، حيث يقف أمام المرآة مرددًا العبارات الحاسمة التي ستصبح تاريخية، ثم ينتقل إلى مشاهد قمع الشرطة للمدنيين، حيث تقوم المصوّرة لِيْ (كريستين دانست) بتوثيق العنف من قبل الشرطة بحقّ المدنيين بعدستها مرتدية سترة مكتوب عليها (صحافة). وفي خضم هذا العنف تدخل الشابة جيسي (كايلي سبيني) دائرة العنف لتقوم بالتصوير، فتمنحها لي سترة الصحافة وتطلب منها الابتعاد اعتقادًا من لِيْ بأنّ هذه السترة ما زال لها حصانتها. تنفجر إحدى السيارات وتهرع الصحافيتان للاختباء خلف إحدى سيارات الشرطة! لم تكن حماية لِيْ لجيسي من انفجار السيارة هو ما سيقدح شرارة علاقة الصداقة بينهما، وإنّما حلم جيسي أن تمشي على خطى لِيْ كمصورة حربية، فهي مثالها الأعلى واسمها موجود في موسوعة الويكيبيديا.





بعد أن شيّد غارلاند ضلعي مثلثه ليدخلنا في أجواء الحرب الأهلية الأميركية، كان لا بدّ له لكي ينجو من التجاذبات السياسية في الحاضر الأميركي والتأويلات المختلفة والاتهامات المتبادلة بين الأطراف المتنافسة في السباق إلى البيت الأبيض، ممّا يحرف فيلمه عن هدفه، أن يذهب بقصته/ الضلع الثالث، منحى آخر، أو وفق تعبير لي كمصورة حربية، بأنّ واجبها أن تنقل الصورة من دون تحيّز. ومن هنا كانت قصة الفيلم التي تقوم على رصد معاناة وتضحية مجموعة من الصحافيين لنقل صورة الحقيقة خلال رحلتهم إلى البيت الأبيض لإجراء مقابلة مع الرئيس قبل أن تصل إليه القوات العسكرية من الولايات المعارضة له. فليس غريبًا أن تكون رغبة هؤلاء الصحافيين تسجيل الكلمات الأخيرة لرئيس مغتصبٍ للسلطة، فما يريده غارلاند بأنّ الحق بالوصول إلى الحقيقة وإلى جميع الأطراف المتصارعة، هو ما يسمح بأن يُنزع فتيل حربٍ لربما ليست مفترضة.

الجندي الأميركي

في فيلم "رامبو"... محاولة إيقاظ فرادة الجندي الأميركي 


اعتاد المشاهد الأميركي والعالمي على أن يرى الجندي الأميركي وهو يخوض المعارك خارج بلاده، بدءًا من الحربين العالميتين، وصولًا لزمننا الحاضر، حتى لُقب بشرطي العالم! فلم تتم رؤيته يقاتل على أرضه الأميركية دفاعًا عنها إلّا تخيّلًا وضد عدو خارجي؛ أكان الاتحاد السوفياتي سابقًا، أو كوريا الشمالية حاليًا، كما في فيلم "سقوط البيت الأبيض/ Olympus Has Fallen". لكن مع غارلاند فقد تم وضع الجندي الأميركي في مقابل الجندي الأميركي على الأرض الأميركية مذكرًا بالحرب الأهلية في القرن التاسع عشر. وكأنّه يقول، إذا كانت تلك الحرب سببًا في نشوء أميركا كما نعرفها حاليًا، فقد تكون الحرب القادمة سببًا في زوالها. إنّ استحضار ثيمة الجندي، ليس فقط من أجل بث مخاوف النبوءة التي يحملها الفيلم بين طياته، بل إعادة لتفعيل شخصية الجندي البطل، أسواء كان مع فرانسيس كوبولا في فيلمه "القيامة الآن/ Apocalypse Now"، الذي يصوّر التشوّهات النفسية والفكرية نتيجة الحرب مرورًا بـ(رامبو) سيلفستر ستالوني من أجل إيقاظ فرادة الجندي الأميركي الذي يقف بوجه الطغيان إلى "إنقاذ الجندي رايان" لسبيلبرغ كتمثيل للتضحية. من هذه القاعدة يصوّر لنا غارلاند حجم الدمار الذي سببته الحرب وفي الوقت نفسه يترك المشاهد ليتساءل: هل ستتغوّل القوّات العسكرية الانشقاقية التي تتّجه إلى البيت الأبيض لإعادة الأمور إلى نصابها؟ وبدلًا من حاكم ديكتاتوري سنكون مع مؤسسة عسكرية تحكم البلاد بالقوة والنار؟ هي أسئلة تركها غارلاند مبهمة، فالمشاهد العسكرية كانت قليلة لعنوان هكذا فيلم، إلّا في اللحظات الأخيرة عند سقوط حامية البيت الأبيض وبدء البحث عن الرئيس لقتله!

لا شيء يحدث في أميركا

من فيلم "إنقاذ الجندي رايان" للمخرج ستيفن سبيلبيرغ


تُذكرنا هذه العبارة برواية: "لا شيء يحدث على الجبهة الغربية" للروائي الألماني إريش ماريا ريماك، والتي اقتبست أكثر من مرّة للسينما. ومدار التهكّم الذي يقصده غارلاند يكمن في تلك الإجابات التي كان الأهل يدّعونها أمام أولادهم، عندما يتم الكلام عن الحرب الأهلية. فالصحافية جيسي تقول لِلِيْ بأنّ والديها يدعيان بأنّه لا شيء يحدث! كما كان المراقب للجبهة الغربية بين فرنسا وألمانيا في الحرب العالمية الأولى يستطيع أن يقول بأنّ لا شيء يحدث هناك، فلم تتقدّم القوات الألمانية ولا الفرنسية شبرًا واحدًا، بل ظلّا يراوحان في مكانهما على الأرض، بينما آلة الحرب تأكل الجنود وتلفظهم موتى بأعداد هائلة. وهذا الإنكار، هو ما كانت تصادفه فرقة الصحافيين، وهي تعبر الولايات المختلفة إلى البيت الأبيض، فالطرقات مدمّرة ومملوءة بالسيارات المحترقة والأفق ترسمه انفجارات القنابل والحرائق، فيما يتبجّح الجيل القديم من الأميركان، بأنّه لا شيء يحدث! وعندما تدخل الفرقة الصحافية إلى إحدى المدن التي لم تفتك بها الحرب بعد، يجدون أهلها ما زلوا يعيشون بهدوء، كأنّه حقًا، لا شيء يحدث، لكن على أسطح البنايات كان هناك من يراقب عدم انكشاف زيف هذه اللامبالاة.





من هذه المفارقة التي عاينتها فرقة الصحافيين، وسيلاحظها المشاهد بأنّ استخدام أسلوب النعامة لم يمنع الحرب عندما اكتملت شروطها بالصمت على ما يحدث من انتهاكات في أميركا. فعلى أرض الواقع نرى كيف شُكلت العصابات نتيجة انهيار الدولة، فالدولة وفق رؤية المفكّر تيري إيغلتون تقوم على إدارة وضبط النزاع في المجتمع، وعندما تنهار ينفلت الصراع المجتمعي من عقاله وتحدث الحرب الأهلية. ففي محطة للوقود نكتشف أنّ الدولار لا قيمة له، ولا يكون دفع الثمن إلّا بالدولار الكندي، وقد قام أصحاب المحطة الذين يمتلكون الأسلحة بتعذيب جيرانهم، ومن ثم إعدامهم لأنّهم أرادوا سرقة الوقود. وفي حادث آخر نستشعر وجود قناص يطلق النار، ولكنّه غير معروف الانتماء. وعندما يسأل المراسل جويل (واغنر مورا) أحد المزارعين الذي يقعي خلف عدسة بارودته عن هوية القناص فيجيبه، بأنّ الأمر ليس مهمًا، فما دام يريد قتلنا، سنقتله. تتقدّم فرقة الصحافيين نحو البيت الأبيض ليقعوا بين يدي عصابة بيضاء تقوم بقتل المدنيين ودفنهم في حفر. وهنا تظهر العنصرية المبطّنة عند سؤال أفراد الفرقة عن مساقط رؤوسهم. ولولا جرأة الصحافي العجوز الأسود سامي (ستيفن هندرسون) الذي اندفع بالسيارة ليصدم أفراد العصابة، لكانت فرقة الصحافيين انتهت في إحدى المقابر الجماعية.

الرؤية بين جيلين
ركّز الفيلم على التناقض القائم بين الأجيال في الولايات المتحدة الأميركية، فكل من لِيْ وجيسي نقلتا لنا مقولة أهليهما عن أنّه لا شيء يحدث. لكن في الوقت نفسه نرى لِيْ بوجه حزين وإرادة محبطة، وكأنّها لا تريد أن تصدِّق ما يحدث، فلم تكن صورها يومًا تنقل مآسي الحروب عن بلدها، والآن هذا ما يحدث! وفي لحظة بوح تقول، بأنّها مع كل صورة كانت ترسلها من ميادين الحروب الأخرى إلى وكالات الصحافة في بلدها كانت عبارة عن تحذير، فالذي حدث هناك، كل أسبابه متواجدة لدينا، فالحرب قاب قوسين، أو أدنى، من إطلاق أول رصاصة. هذا الواقع الجديد أجهض إرادة لِيْ، بينما نجد جيسي كشابة في مقتبل العمر على الرغم من الصدمات التي تلقتها في تلك الرحلة مندفعة في عملها، تواجه المخاطر بقلب جسور. وفي مشهد معبّر في البيت الأبيض تندفع جيسي غير مبالية بتبادل إطلاق النار لتلتقط الصور، فتصبح في مرمى الرصاصات، فتندفع لي لإبعادها، لكنّها تسقط ميتة. وهنا تقوم جيسي بالتقاط الصور لمعلِّمتها القتيلة، فتضحيتها يجب أن تُخلّد. هكذا تجاوزت جيسي صدمتها وفجيعتها بموت مثالها الأعلى وأخذت تقوم بالتقاط الصور، فالحقيقة يجب أن تصل مهما كانت الأثمان. وكأنّ المخرج يريد أن يشير إلى أنّ الأجيال القديمة مسؤولة عمّا حدث، وما تضحية سامي ولي إلّا ضرورة حتمية حتى تستطيع الأجيال الجديدة الاستمرار.


حرب أهلية
يُقبض على الرئيس، ويوجّه إليه ثلاثة جنود أسلحتهم أكثرهم من العرق الملوّن، فيما يسارع جويل طالبًا من الرئيس كلمة/ حكمة. لا يتلفّظ الرئيس بخطبة النصر التي تدرّب عليها أمام مرآته، بل بإحدى الوصايا العشر: "لا تقتل"؛ لكن ما الذي كان الرئيس يفعله قبل ذلك؟ لقد أمر آلته الحربية بقتل المدنيين؛ والقاعدة الثأرية تنصّ على أنّ القاتل يُقتل. قد يبدو ظاهريًا أن مقولة الرئيس بـ(لا تقتل) نوع من الاسترحام، لكنّ مكر غارلاند المتضمّن بالمشهد أنّ القوة العسكرية لا يجوز لها أن تحكم، فالأولى لإحقاق الدستور أن يُقاد الرئيس إلى المحاكمة لتعود الدولة إلى وظيفتها الأساسية بإدارة النزاع.
عندما كانت القوات المناوئة للرئيس الديكتاتور تحاصر البيت الأبيض، وتحاول اقتحامه يصدح صوت باللغة العربية: "الله أكبر"! هذه الصرخة قد تم تشويهها كثيرًا في الميديا الغربية وفي الواقع عبر التنظيمات الإرهابية، إلّا أنّ غارلاند أرادها هنا دليلًا على غنى التنوّع، وأن من يحمي الديمقراطية الغربية ليس العم سام فقط، بل تلك الشعوب المختلفة والمتنوعة التي جعلت من أميركا أرض الحلم بالنسبة للبشرية.
قلنا، بداية، إنّ الفيلم اتخذ مسار تصوير معاناة الصحافيين، وهم ينقلون الأحداث والتضحيات التي يقدّمونها. ومن خلال مناقشة الفيلم، ابتعدنا قدرًا لا بأس به، وكأنّنا نتكلّم عن فيلم آخر! هذه النقطة توضّح الإبداع الجميل لغارلاند؛ وذلك بأن تقول السياسة من دون سياسة، وأن تصوّر العنف بمقدار التضحية، وأن تظهر الاختلافات بين الأجيال من دون أن تمزق الجلباب القديم. هذا ما فعلته جيسي وهي تقنع لِيْ بأن ترتدي فستانًا بدلًا من ثوبها الميداني لتخطف لها ابتسامة تظهر في انعكاسها في المرآة، حيث كانت جيسي تتبدى خلفها وبيدها الكاميرا وكأنّها لِيْ في مقتبل العمر وفي بداية حياتها المهنيّة.

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.