}

"عمارة 20": حين تُخفق المرأة في تبنّي قضيّتها

فدوى العبود فدوى العبود 20 يونيو 2024
مسرح "عمارة 20": حين تُخفق المرأة في تبنّي قضيّتها
عباس الحايك
في عام 1793 سافرت الإنكليزيـّة ماري ولستونكرافت، وكان عمرها 34 عامًا، إلى باريس لترى الثورة الفرنسية، وهناك وقعت في غرام القائد العسكري جلبرت إملاي الذي تركها وفي أحشائها جنين. وكان ذلك في ذروة عهد الإرهاب، عندما فُقد ضحايا لا يحصون رؤوسهم تحت المقصلة. فكتبت مئات الرسائل تقول في إحداها: (نفسي أصابها المرض وقلبي أصابه الكلل)، فجاء إليها لفترة قصيرة عند ولادة رضيعتها فاني، وحين عاد إلى أميركا برفقة ممثلة، حاولت الانتحار بأن ألقت نفسها من فوق جسر. ورغم فشلها، فقد شفيت من عشقها، واعتبر كتابها "دفاعًا عن حقوق المرأة" (1791-1792)، البذرة الأولى للحركة النسوية (1).

لقد أسيء تمثيل المرأة في المتخيل الذكوري في الغرب والشرق على السواء، لهذا فإن المسّ بما هو مستقرّ في الأذهان ليس بالأمر الهيّن. ومن المعروف أننا حين نعيش في مجتمع فنحن نتأثر بطريقته في رؤية الأشياء. والمرأة إذا لم تتماهَ مع الثقافة الذكورية فستكون لها آراؤها الخاصة بفضل وعي خاص للظلم الاجتماعي ومقاومة للقهر الإنسانيّ؛ "وهذا الرفض عادة لا يتم من دون ثمن تدفعه".

انتقلت بذرة المغامرة إلى الوطن العربي في الستينيات، بفعل التأثر بالحركة النسويّة الأوروبيّة، وتابعت المرأة العربية ضمن شروطها الخاصّة مقاومة القهر الاجتماعي والنفسي، وتحمّلت ذلك بشجاعة؛ لمقاومة الثقافة الذكورية، التي فرّغت هوية المرأة من أي مضمون، وشوّهت صورتها في وعي الآخر. فالخطاب النسويّ نشأ ردًّا على الاستلاب الذي يستمد شرعيته من انحرافات الفكر الديني والأسطوري بوضع المرأة في موقع مهين والنظر لها بطريقةٍ مُجحفة.

وهذا الخطاب يتمثل في الحقوق التي تطالب بها أسوةً بالرجل، كحق التعليم والترشح، والمشاركة في الحياة السياسية والثقافية، "فقد أدركت النساء ضرورة أن يمثّلن أنفسهن بأنفسهن، في الممارسة السياسية، وتحدّي الصور اللفظية والبصرية السلبية التي ترسم لهن"؛ ولكن مدى نجاحه سيكون محور الكثير من الأعمال الروائية والمسرحية.

وهذا ما تدور حوله مسرحيّة "عمارة 20" بحيث يدفع الكاتب المسرحي عباس الحايك بسؤاله حول النسوية إلى الواجهة عبر شخصيات العمل المسرحي؛ لاختبار قدرة هذا الخطاب على النموّ في سياق اجتماعي وثقافي راهن. وقد سبق للكاتب أن طرح قضية غياب المرأة عن المسرح، وناقش وضعيّتها في الحياة الثقافيّة والاجتماعيّة والسياسيّة. لذلك كله فقد خصص عدة أعمال مسرحية لمناقشة تلك القضايا ومنها "حريم التطبيق" و"أربع نساء وامرأة" ومسرحية "عمارة 20" وهي موضوعنا في هذا المقال (2).  

يبدأ الانقلاب الأخلاقي للشخصيات من لحظة العنف، بحيث يعتدي زوج "أم نواف" عليها بالضرب فتلوذ بشقة جارتها التي تعيش مع ابنتها سارة. ويتصاعد الصراع الدراميّ لحظة تعرّضها للأذى، ورغم أن النساء السّت، باستثناء الناشطة النسوية سارة، لا يحمِلن أيّ فكرة عن النسوية إلاّ أنّ سلوكهن، يعكس التناقضات النفسيّة والقلق الذي يكابِدنه، بين الرغبة بالتحرّر والخوف من فقدان الاستقرار. وبهذا تتذبذب مواقفهن بين الرضوخ والرغبة بالانطلاق التي تــَرجحُ كفّتها بتحريض من الناشطة النسوية سارة، التي تندفع لتطالب بحقوق المرأة وتحررها فإنها تعجز عن قراءة واقعها بخلاف والدتها التي تتسم بهدوئها وتماسكها. فتخوضان نقاشًا أقرب إلى معركة يستشعر القارئ سلفًا طرفها الخاسر؛ فبينما تفتقد سارة الثقة وتتصرف برعونة وتطلق الأحكام التعميميّة من قبيل: "كل الرجال زي بعض ما يختلفوا"، تبدو الأم واعيةً للواقع وسلوك الشخصيات من حولها، وهي تحذرها من أن المرأة التي تعرضت للتعنيف تستمرئ ذلك: "والله إنك رح تتعبي معاها، إحنا من عرفناها وسكنت بالعمارة، وهي علقة رايحة وعلقة جاية. متعودة يا بنتي".

والملاحظ أن خطاب المسرحية يتعمّد خلق هذه الفجوة، لإبراز الأسباب التي أدت لإخفاق الفكر النسوي، عبر تفكيك البنى النفسية للشخصيات التي تخضع لسطوة البنيّة الثقافيـــّة للمجتمع عليها. فأم نواف التي تتعرض للتعنيف من زوجها، تبدو راضية بقدرها باعتباره أمرًا طبيعيًّا، وأميرة لا تفهم العلاقة مع الرجل إلاّ ضمن ثنائية مُسَيطِر/ مُسيطَر عليه. إن زوجها مطيع لكنها غير راضية عنه (هذا يطرح تساؤلًا في النظر للعلاقة التي تجمع بين الرجل والمرأة، فإما أن يكون متحكِّما أو متحكَّما به).

لا تبحث المسرحية في ديناميّات الهيمنة التي يعتمدها المجتمع لإخضاع النساء، لكنها تبرز نتائجها عبر النماذج التي يقترحها؛ وإحداها "الخطّابة" التي تستغل الاعتصام النسوي لتدبير الزيجات، ولكونها لا تهتم في نهاية الأمر سوى بالنقود التي تجنيها؛ تجد في الاعتصام فرصة لتبحث عن زوجات جدد لرجال المعتصمات كعقوبة لهن على العقوق، فتخون بذلك القضية التي ادّعت الانتساب لها.

اعتبر كتاب ماري ولستونكرافت "دفاعًا عن حقوق المرأة" البذرة الأولى للحركة النسوية


إن كل شخصية تحتمل الكثير من النقاش والجدل، لكنها مجتمعةً ستسهم في تكوين خطاب المسرحية الذي يبحث عن مسبّبات إخفاق الخطاب النسوي في قلب هذا الخطاب ومن يحمله. وبالرغم من أن سارة مثّلت الإيمان بهذا الفكر والصدق في الدفاع عنه، إلا أن شخصيتها تحمل ضمنيًا عوامل إخفاقه، لذا ستكون الكلمة النهائية لرؤية المجتمع.

ولعل اختيار الكاتب لشخصية سارة باعتبارها مطلّقة يُضعِف موقفها، ويوحي بأن سلوكها لا يعدو أكثر من رد فعل عاطفي. فهي كما يوحي النص تنطلق من ظروف شخصية وضّيقة ومع أحقيّة وجدية الأفكار التي تدعو لها، ورغم مشروعيتها فهي منقوصة- لكونها تفتقر للرؤية والوعي والإرادة. وفي مشهد التحضير للاعتصام يبرز تناقض المعتصمات في حديثهن عن التكافؤ الثقافي بين الرجل والمرأة، ويغلب على نبرتهن صوت المجتمع: "الرجال ما يعيبهم شي"؛ فهن تأقلمن مع التعنيف كما يصعب عليهن فهم مفردات من قبيل تكافؤ ثقافي بين الرجل والمرأة، أو حقّ التعبير، وهذه إشارة صريحة لكون المرأة هي المسؤولة عما آلت له أوضاعها.

وهذا ما يجعلنا نعتقد أن أفكار ماري ولستونكرافت كرائدة للتيار النسوي وبرغم انبثاقها عن أزمة شخصيّة، فإن دعوتها لتعليم النساء تعكس فهمها لكون تحرر المرأة يكون أولًا وأخيرًا عبر الوعي الذي يحرّض الإرادة على التغيير، فالإيمان بقضية دون الوعي بها هو الحكم عليها بالموتْ وتحرر المرأة ليس حدثًا ماديًا بل فعل روحيّ عميق.

وهذا ما فات النسويات الحفيدات في الجانبين (الغربي والشرقي)؛ فالنسوية التي بدأت كما نعلم في الغرب وكانت ذروتها في الستينيات انتهت مع الحفيدات (النسوية الثانية والثالثة وما بعد النسوية) إلى نقيضها؛ وبقيت في البلاد العربية نبتة غريبة تم استيرادها إلى تربةٍ مالحة فعجزت عن قراءة الظروف الاجتماعية والثقافيّة.

وبالعودة للمسرحية ومع الفصول الأخيرة، يتوسّع صِدام سارة من سلطة الواقع المتمثلة في والدتها، والنساء اللاتي خذلنها ولم يستطعن الاستمرار للنهاية، إلى الهيئات الحكومية التي تجاهلت هذا الاعتصام بدءًا من الإعلام وحتى البوليس، لتطرح المسرحيّة على المتلقي أسئلة كثيرة عن التعنيف والتكافؤ الثقافي، وعن النماذج التي تبدو ضمن شروطها غير مؤهلة للتغيير.

وستشكل السلطة الرابعة (الصحافة) طرفـًا في هذا الصراع الدراميّ وتمثَّل ذلك في الاستخفاف الذي قابلوا فيه دعوة المعتصمات، ليبدو المشهد الثالث- مشهد الاعتصام واللافتات والعبارات التي ملأت جدران شقة سارة- مثيرًا للسخرية بحيث انحدرت الشعارات لمطالبات شخصيّة هزيلة. فالرؤية الأخلاقية في النهاية تنتصر لصوت المجتمع؛ ولعلّ مسرحية "عمارة 20" تنتمي للمسرح الاجتماعي، وتتناغم عناصرها في وحدة متكاملة لا تنفك عن بعضها البعض، فلا وجود لأحد بمعزل عن الآخر، والخطاب لم يكن هدفه صدم الوعي بل تنويره ليس لقضية المرأة بل لكون التحرر قضية مجتمع لا فرد.

وبذا يضع الفكر النسويّ أمام الوعي النقدي للمتلقي، عبر المسرح الذي يعتبر أكثر الفنون قربًا للحياة وإشكالياتها، في نصٍّ تطرّق لعدة قضايا يمكن اختصارها في قول والدة سارة لابنتها: "يا بنتي كل هالكلام ما ينفع في هالبلد، مجتمعنا ما رح يتقبل مطالبكم بسهولة، شوية شوية، وكل شي يتغير. شوفي قدامك، الأشياء اللي كانت ممنوعة زمان صارت عادي الآن. المدرسة اللي كانت عيب يدخلوها البنات، صاروا البنات مبتعثات ويحققوا إنجازات ترفع راس بلدهم، مع الوقت كل شي بتغير. صدقيني الاعتصامات ما رح تغير شي".

وتنتهي المسرحية بحلٍّ يبدو ضعيفًا من الناحيّة الفنية والجماليّة لكنه واقعي، وهو يتمثل في مشهد البوليس يطرق بعنف باب شقّة سارة. ويُحسب للمسرحية أن قارئها يخرج محمّلًا برؤية أعمق حول الثقافة السائدة التي سيطرت على وعي المرأة العربية وتغلغلت في لا وعيها، والتي تعكس حالها عبارة رضوى عاشور: "أنا امرأة عربية ومواطن من العالم الثالث، وتراثي في الحالتين تراث الموؤدة"!

*كاتبة سورية.


إحالات:

(1) بام، موريس. الأدب والنسوية. ترجمة سهام عبد السلام.
(2) نص المسرحية منشور على الموقع التالي:
https://shorturl.at/6ZuCe

 

الدخول

سجل عن طريق

هل نسيت كلمة المرور؟

أدخل عنوان بريدك الإلكتروني المستخدم للتسجيل معنا و سنقوم بإرسال بريد إلكتروني يحتوي على رابط لإعادة ضبط كلمة المرور.

شكرا

الرجاء مراجعة بريدك الالكتروني. تمّ إرسال بريد إلكتروني يوضّح الخطوات اللّازمة لإنشاء كلمة المرور الجديدة.